قراءة في كتاب (مقاومة التغيير في المجتمع السعودي)
الإيديولوجيا التي
تُحرِّك عموم المجتمع السعودي وتُسكِّنهُ هي عقيدته السلفية التي اكتسبها عموم
المجتمع من خلال مناهج التعليم العامة الموحَّدة والموحِّدة، ومن خلال برامج
الدعوة العامة من العلماء والدعاة، وبالوسائل الدعوية القديمة والمعاصرة، والمنهج
السلفي أكبر من الأشخاص والجماعات السلفية والمؤسسات الدينية وغيرها، ولأجل ذلك
فإن المجتمع السعودي يُعدُّ مجتمعاً محافظاً يصعب توجيهه أو تغيير قناعاته
الثقافية إلا من خلال الدين والعلماء وفتاواهم، فالتغيير من خلال العلماء
وبتشريعات الإسلام موضع ثقة واطمئنان، وهذا ما حدث في موضوع (الهجر والتوطين)[1] كأبرز مشروع في عملية
التغيير الاجتماعي والثقافي زمن الملك عبدالعزيز، وكمشروعات (الإذاعة والتلفزيون)
التي واجهت بعض الممانعة خوفاً من أن تكون نسخةً مكررة من الإعلام العالمي
والعربي، وسأكتفي هنا بالمثال بـ (تعليم البنات) كأنموذج لرفض التغيير وقبوله في
آن واحد مما يعكس قوة المرجعية العقدية والفقهية للمجتمع السعودي.
ومن المسلَّم به لكل مسلم
أن التشريعات الإسلامية تستوعب معظم المصطلحات الجديدة والوسائل الحديثة وتوظفها
وفق خصوصيات وقيم المجتمعات الإسلامية، وأن العجز إذا وجد فهو من معتنقي الفكرة
وليس من الفكرة ذاتها، لأن الإسلام رحمة للعالمين إلى يوم الدين، وبالنسبة إلى
تعليم البنات كأنموذج للتغيير فإن معظم الممانعة والرفض لم يكن لأصل فكرة تعليم
البنات - كما سنرى في استعراض صفحات هذا الكتاب-، وإنما كان حول وسائل هذا التعليم
التي يجب أن توفر حماية الأعراض والمحافظة على القيم –كما سيأتي-.
إن تعليم البنات يُعد من
أقوى عمليات التغيير الثقافي والاجتماعي خاصةً مع تخوف المجتمع المحافظ
والعلماء والدعاة من هذا الوافد الجديد، وتجربة هذا التعليم النظامي المستقل
للبنات بتميزها عن سائر الأوطان بما فيها دول العالم العربي والإسلامي تستحق البحث
والدراسة والتحليل للاسترشاد بها في أية عملية تغيير اجتماعي أو ثقافي أو سياسي،
ومما يُسجل للعلماء أن لديهم القدرة العلمية والعملية على الإسهام بالتجديد
والتغيير والإصلاح كما حدث في عملية تعليم البنات، ويماثل هذا الدور من العلماء ما
حدث من تلامذتهم (المطوِّعين) الذين كانوا عاملاً رئيسياً من عوامل نجاح مشروع
الهجر وتوطين الوحدة الفكرية التي انبثقت منها الوحدة السياسية للدولة السعودية.
وقد أفاد وأجاد الدكتور
عبدالله السدحان في عرض هذا الموضوع في كتابه القيم، (مقاومة التغيير في المجتمع
السعودي – افتتاح مدارس تعليم البنات أنموذجاً).
لقد اكتفيت في هذا
الموضوع باقتباسات منه لشمول بحثه وقوة تحليلاته وكثرة نقولاته المتعددة عن
الباحثين.
يقول السدحان:” كان تعليم
البنات في المجتمع السعودي حسب تعبير (الغذامي: 2004م، ص 140) حدثاً اجتماعياً من
حيث إنـه أعـاد صياغة المنزل والتفكير العائلي.. فقد كان تحولاً في ذهنية المجتمع
كله”. على الرغم من كونه للجانب التعليمي أو الثقافي أقرب، ولكنه تحول إلى ظاهرة
اجتماعية بكل ما يحمله المصطلح من مدلول[2]“.
لقد كان إنشاء كيان إداري
مستقر يعرف بـ (الرئاسة العامة لتعليم البنات) في عهد الملك سعود بن عبد العزيز
عام 1379هـ/1959م بصفته كيانا مستقلا عن البنين إشرافاً وإدارةً نتيجةً طبيعية
لطبيعة المجتمع المحافظ ولحجم الممانعة التي صحبت نشوء الفكرة.
وبالعودة إلى إيديولوجية
المجتمع والتغيير، فقد اجتاز العلماء بفتاويهم مسألة تعليم البنات وموضوع إقراره
إلى أن يكونوا هم أو تلاميذهم على رأس الهرم الإداري والإشرافي ليتجاوز المجتمع
رفض ذلك التعليم من بعض فئات المجتمع، وهم الفئة المتخوفة من نتائجه، وبذلك تحول
الرفض إلى قبولٍ وقناعةٍ به واطمئنانٍ إليه، حينما التزمت الرئاسة المعنية تحت إشراف
العلماء وبالضوابط الشرعية التي ترعى وتراعي قيم المجتمعات المحافظة بدءاً من
إدارة مستقلة عن البنين ومناهج مستقلة متميزة بموادها وموضوعاتها وملبس طالباتها
ومعلماتها، وانتهاءً بالنقل العام المتخصص بالطالبات.
إن قبول التغيير عن طريق
إيديولوجيا المجتمع نفسه قفزَ بهذا التعليم إلى مستوى لم يكن يتوقعه الراصدون في
الداخل والخارج حينما سجلت الإحصائيات التطور المشهود لهذا التعليم المستقل
المحافظ حتى أصبح تجربة فريدة على مستوى العالم من حيث قوته ونتائجه ومخرجاته، وقد
تُوج هذا التعليم الخاص بالمرأة بكليات أشبه ما تكون (بجامعات ذات تخصصات مختلفة
زادت عن مئة (100) كلية) في جميع مدن المملكة وهذا ما وفَّر على المجتمع عناء
إيفاد بناتهم خارج نطاق الأسرة في مدن بعيدة أو ما شابهها، وما يترتب على ذلك من
سلبيات على الحياة الأسرية والاجتماعية، بل إن تطور هذا التعليم ونتائجه المذهلة
بحسب الإحصائيات قد فاقت تعليم البنين في بعض السنوات، وأصبح بتميزه عن غيره
وقبوله لدى جميع فئات المجتمع من عوامل الإسهام في تقوية السيادة للدولة.
وما سبق كافٍ للحكم على
دور الدين ذاته في التغيير والتحديث من خلال علمائه وفتاواهم، وليس من خلال فرض
برامج ومشاريع التغيير التي تتصادم مع قيم المجتمع وتشريعات الدين وفتاوى العلماء،
ومن يطالع القرار التالي يدرك حجم الرفض والممانعة لهذا المشروع التغييري، كما
يدرك في الوقت نفسه قبول ذلك التغيير والتحديث، مما يلفت انتباه كل باحث إلى قوة
أثر فتاوى العلماء ومواقفهم العملية في عصر قوتهم المستقلة التي تستمد قوتها من
الوحيين: (الكتاب والسنة).
القرار
التاريخي:
صدر البيان الملكي عن
تعليم البنات بتوقيع الملك سعود، وأذاعته المديرية العامة للإذاعة والصحافة يوم
الخميس 20/4/1379هـ 1959م، وتم نشره في صحيفة أم القرى العدد 1790، الصادر
يوم الجمعة 21/4/1379هـ على النحو الآتي: “الحمد لله وحده وبعد، فلقد صحت
عزيمتنا على تنفيذ رغبة علماء الدين الحنيف في المملكة في فتح مدارس لتعليم البنات
العلوم الدينية كإدارة المنزل وتربية الأولاد وتأديبهم مما لا يخشى فيه عاجلاً أو
آجلا أي تغيير على معتقداتنا؛ لتكون هذه المدارس في منأى عن كل شبهة في المؤثرات
التي تؤثر على النشء في أخلاقهم وصحة عقيدتهم وتقاليدهم، وقد أمرنا بتشكيل هـيـئـة
من كبار العلماء الذين يتحلون بالغيرة على الدين والشفقة على نشء المسلمين في
تنظيم هذه المدارس ووضع برامجها بمراقبة حسن سيرها فيما أنشئت له، وتكون هذه
الهيئة مرتبطة بوالدهم حضرة صاحب السماحة المفتي الأكبر الشيخ: محمد بن إبراهيم آل
الشيخ على أن تُختار المدُّرسات من أهل المملكة وغيرهن اللواتي يتحقق فيهن حسن
العقيدة والإيمان، ويدخل هذه المدارس ما قد سبق فتحه من مدارس للبنات في عموم
المملكة، وتكون جميعاً مرتبطة في التوجيه والتنظيم بهذه اللجنة تحت إشراف سماحته،
مع العلم أن هذا التشكيل يتقدم الوقت الكافي بتهيئة وسائل التأسيس، ونأمل أن يكون
ذلك في وقت قريب، والله الموفق ولا حول ولاقوه إلا بالله[3]”.
وعلى الرغم من هذا البيان
الملكي – سابق الذكر - الذي أكد دور الدين والعلماء في هذا النمط التغييري وراعى
بنية المجتمع المحافظ، فإن التوجس والترقب من المجتمع المحافظ بقيَ قائماً إلى حد
معين، حتى عايش الناس عملياً تطبيقات الضوابط الشرعية والأخلاقية لهذا النوع من
التعليم فجاء الاطمئنان بعد ذلك.
يقول السدحان: “ وعلى
الرغم من الرضا بالقرار في بعض المناطق أو الجهات، إلا أنه من المؤكد أن المقاومة
في بعض المناطق كانت حادة جداً[4]“.
حجم
الممانعة والرفض:
تَحكُم جميع المجتمعات
العالمية إيديولوجياتها وثقافاتها في القبول أو الرفض لعمليات التغيير، وقد كان
للدين الإسلامي أثر في رفض بعض فئات المجتمع السعودي هذا النمط من التعليم
حين رأى البعض أنه يحمل سمات التغيير القسري، ولا توجد تجربة مُطَمْئِنة معروفة،
وفي الوقت نفسه كان للدين أثر في قبول هذا التعليم، بل وفي وتأسيسه واحتضانه
وتطويره، والقفز به إلى أن أصبح تجربة عالميةً متميزة.
ومن المهم توضيح الفرق
بين مصطلحي التغيُّر والتغيير يقول السدحان: “هناك فرق بين مصطلحي (التغيُّر)
و(التغيير)، وكما يوضح ذلك (السيف: 1418هـ، ص12) فإنه كلما تدخل الإنسان في إحداث
التغيّر أطلق على هذه العملية تغييراً، وغالباً ما يكون هذا التغيّر مخططاً له
ومقصوداً لذاته. ويكون قائماً على تخطيط مسبق قبل التنفيذ للوصول إلى أهداف محددة
ومعروفة. ويكون نتيجة لجهود الإنسان الإرادية وعادة ما تقوم به الدولة أو أي جهة
تابعة لها، وخير مثال على ذلك: افتتاح مدارس تعليم البنين النظامية في عهد الملك
عبد العزيز، ومثل إنشاء الهجر وتوطين البدو في وقته كذلك، ومن ذلك أيضاً البدء
بتعليم البنات في عهد الملك سعود، أما (التغير الاجتماعي) فإنه يكون تلقائياً
وعشوائياً وليس مقصوداً نتيجة تأثير خدمات وبرامج أحدثها الإنسان في واقعه
الاجتماعي[5]“.
يقول السدحان: “ كما يذكر
(غنيم وزملاؤه:1410هـ، ص127) إن تعليم البنات واجه معارضة شديدة في دولة قطر عندما
افتتحت الدولة مدرسة للبنات عام (1375هـ / 1955م) ولم تقبلها معظم العائلات، فكانت
الفتوى الشرعية من العوامل الدافعة للعوائل القطرية للتراجع عن معارضتها لهذا
النوع من التعليم[6]“.
“والمشهد نفسه يتكرر في
دولة البحرين، حيث تذكر (السليطي: 1988هـ، ص18) أن بعض رجال الدين البارزين عارضوا
وبشكل عملي افتتاح المدارس النظامية للبنات واستخدموا المنابر وخطب الجمعة، كما
قام الأهالي الذين أدخلوا بناتهم في المدرسة الوحيدة بضجة كبيرة ومعارضة عملية
تمثلت في إخراج بناتهم من المدرسة حين قامت مديرة المدرسة باستدعاء فرقة موسيقية
لكي تعزف في إحدى المناسبات، وكان هناك شبه تعطل في المدرسة لأكثر من عام، وفي
الكويت بقيت المعلمات التسع اللواتي جئن للتدريس دون عمل، إذ قوبلت فكرة مدرسة
البنات بالمعارضة الشديدة من المجتمع[7]”.
“(وذكر) ( الوشمي:2009م،ص
35/38/ 89) أن تعليم البنات في دبي واجه كثيراً من الصعوبات، كما صاحب
افتتاح مدرسة البنات في القاهرة ضجة كبيرة، والأمر يتكرر في كل من: ليبيا،
والمغرب، وبوركينا فاسو. إضافة إلى دول أخرى غير عربية ولا إسلامية مثل: جمايكا،
والبرتغال، ومنغوليا[8]“.
“ومن هنا فليس الأمر
بدعاً في القول أو الفعل عندما يعترض بعض أفراد المجتمع السعودي، أو بعض العوام في
المجتمع السعودي على افتتاح مدارس لتعليم الفتيات[9]”.
ويؤكد السدحان أن
الممانعة أو الرفض لم يكن عاماً وشاملاً بل كانت هناك مطالبات من بعض أفراد
المجتمع بهذا التعليم: “وما من شك أنه قد ظهرت مطالبات متناثرة هنا وهناك في بقية
مناطق المملكة ولكنها محدودة، خاصة في بداية السبعينيات الهجرية ولكن لم يصل إليها
الباحث[10]”.
وعن نوعية الاعتراض يقول
السدحان: “ومما ذكر آنفاً يمكن التوكيد على أن المعارضة لتعليم الفتاة إنما خرجت
من بعض طلبة العلم، أو من بعض العوام المتحمسين، ولم تتبنها المؤسسة الدينية
الرسمية في المملكة، وعلى رأسها سماحة المفتي بدليل قبوله شخصياً لرئاستها
والإشراف عليها، ولو كان يعارضها لرفض تولي الإشراف عليها ابتداءً، وقد كان يستطيع
الاعتذار عن الإشراف عليها[11]”.
ويقول السدحان أيضاً:
“ومما تحسن الإشارة إليه أن المعارضة كانت على نوعين فيما يظهر من النظرة الأولية،
ولكن هناك فئة ثالثة كما سنرى، فمنهم من كان يعارض المبدأ جملة وتفصيلاً، أي وجود
مدارس نظامية تُعلِّم الفتاة، مطالباً في الوقت نفسه بالاكتفاء بالطريقة السابقة،
وهي نظام الكتاتيب للفتيات في بعض المنازل، وهذه الفئة هي الأقل عدداً فيما يظهر
وأضعف تأثيراً، وفئة أخرى كان اعتراضها على أن تتولى وزارة المعارف الإشراف على
تعليم الفتيات، مطالباً بجهة مستقلة لتعليم الفتاة لضمان عدم اختلاط الجنسين في
التعليم إن حاضراً أو مستقبلاً (الزهراني1427هـ، ص492)[12]”.
ويقول أيضاً: “ومن هنا
يمكن النظر إلى تلك الاعتراضات التي تمت في حينها على فتح مدارس البنات أنها كانت
وسيلة غير مباشرة لضبط هذا الوافد الجديد ليتواءم مع طبيعة المجتمع وثقافته، وتتفق
مع رغبة القوى المجتمعية والقيادات الشرعية التي كانت تمثل ثقلاً في بنية المجتمع
والدولة بشكل عام[13]“.
حجم
القبول:
حينما كان مصدر التلقي
لمنهج حياة المسلم واضحاً وقوياً لدى المجتمع السعودي المحافظ قاوم بعض أفراده
عملية التغيير في تعليم البنات، وتوجس المجتمع منه خيفةً بأنه سيكون نسخةً مكررةً
من تعليم البنات في بعض دول العالم العربي، لكن جهد العلماء كان مؤثراً وناقلاً
لهؤلاء من الرفض إلى القبول من خلال عاملين أساسيين وهما: تشريعات الإسلام وفتاوى
العلماء حول تعليم المرأة، والتطبيقات المطمئنة لوسائل هذا التعليم.
وقد يسأل سائل كيف حدث
هذا التحول الكبير من الرفض إلى القبول؟ يجيب السدحان بقوله: “الاحتكام للشرع هو
المظلة العامة التي استطاعت الدولة من خلاله احتواء الموضوع بشكل عملي تنفيذي،
وليس تنظيرياً مجرداً من قبل صانع القرار السعودي[14]”.
“ويرى علماء المسلمين أن
تعلم المرأة أمور دينها واجبٌ عليها مع تفاوت فيما كان فرض عين أو فرض كفاية، وذلك
أخذاً من آيات عديدة وردت في القرءان الكريم مثل قول الله عز وجل: {يَرْفَعِ
اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ
وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة: 11][15]”.
وفي هذا التعليم “اقتداءٌ
بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم: «طلب العلم فريضة على كل مسلم» ولكنهم فرقوا منذ
البداية بين ما يجب أن تتعلمه المرأة وما يتعلمه الرجل، وهذا موضع الخلاف بينهم[16]”.
يقول السدحان: “ومن
الواضح أن التحفظ ليس على ذات التعليم بقدر ما كان على جهة الإشراف وطبيعته ودرجة
الضبط فيه والقائمين عليه، بدليل أنه خلال أقل من خمس سنوات فقط أصبح المفتي هو
المشرف على ذلك النوع من التعليم في المملكة، وليس هذا فحسب، بل كان وجود سماحته
على رأس هذا الجهاز عامل استقرار واستمرار لمسيرته، ولو كان تحفظ سماحة المفتي في
المؤسسة الدينية على المبدأ ذاته لما قبل الإشراف ابتداء عليه، أو لا ستطاع من
خلال الإشراف عليه تحجيمه أو تعطيله، أو تأخيره سنوات أخرى[17]“.
ولأجل إنهاء كل أنواع
الرفض والممانعة كانت مصداقية التطبيقات العملية من قبل العلماء وأصحاب القرار
السياسي، يقول السدحان: “ولقد استطاعت الدولة تجاوز تلك المعارضة بوضع المفتي
العام للبلاد الشيخ محمد بن إبراهيم على رأس هرم هذه المؤسسة الوليدة –الرئاسة
العامة لتعليم البنات– ولا شك أن هذا الإشراف من قبل المفتي أعطى بعض الاطمئنان لمن
كان يعارض تعليم المرأة بمبررات شرعية، أو يخشى أن يصل الأمر إلى ما وصل إليه في
الدول المجاورة بالنسبة إلى المرأة، خاصةً أن رؤساء الرئاسة العامة لتعليم البنات
الذين تولوا أمرها في البداية كانوا من العلماء أو طلبة العلم (ابن دهيش:1428هـ،
ج8، ص108) ومنهم: الشيخ عبد العزيز ابن ناصر بن رشيد، ثم الشيخ ناصر بن حمد
الراشد، ثم الشيخ راشد بن صالح بن خنين، ثم الشيخ محمد بن عودة، ثم الشيخ عبد
العزيز المسند، ثم الشيخ عبد الملك بن دهيش، ثم الشيخ علي المرشد. كما أخذت
الرئاسة العامة لتعليم البنات في حينه الأمر بحزم في موضوع متطلبات المجتمع المسلم
المحافظ من حيث التأكيد على التستر، وإلزام جميع العاملات بارتداء الملابس الساترة
والبعد عن السفور، والمنع الشديد لأي مظهر من مظاهر التبرج أو السفور بين
الطالبات، إضافة إلى عدم اختلاط الطلاب بالطالبات في جميع المراحل[18]”.
“إن معارضة سماحة مفتي
عام المملكة السابقة لم تكن على المبدأ بقدر ما كانت على الطريقة والآلية، من حيث
الإشراف، وضمان عدم تداخل تعليم البنات مع البنين في بوتقة واحدة مع مرور الزمن،
مما استلزم إحداث جهاز إداري مستقل لكل واحد منهما، وفق نظرة كان يراها شخصياً.
ومن هنا يمكن القول: إنه
لا عبرة ببعض الحوادث الفردية التي خرجت معارضة متلبسة بالثوب الشرعي أو تبناها
بعض طلبة العلم، فالمحك الحقيقي هو رأي العلماء المعتبرين، والمؤسسة الدينية بشكل
عام وعلى رأسها سماحة المفتي[19]”.
“وحتى لو افترضنا أنه
إنما قبل بهذه المهمة مجاملة للملك سعود فإنه كان بإمكانه تعطيل مسيرتها، أو تأخير
عمل ذلك الجهاز الجديد –الرئاسة العامة لتعليم البنات– عندما كلف بالإشراف عليه،
ومن هنا يمكن القول: إن مجرد موافقة سماحته على تولي الإشراف على الرئاسة إشارة
كافية إلى نوع المعارضة التي كان يبديها سماحته وإنها لم تكن في يوم من الأيام
منطلقة من مبدأ رفض تعليم البنات لذاته. بقدر ما كانت لأسباب أخرى[20]”.
ومما يُبرز أثر العقيدة
على المجتمع المحافظ، ويكشف عن دور الوحدة الفكرية على المجتمع السعودي في تغيير
الممانعة والرفض، من الرفض إلى القبول لدى المجتمع السعودي، أن الرفض لم
يأخذ أي شكل من أشكال العنف أو الفتنة بسبب دور العقيدة السلفية المُوحِّدة بين
المحكوم والحاكم حتى مع الاختلافات في وجهات النظر بينهما، أو الاختلاف في
الاستدلال الفقهي.
يقول السدحان: “وقد دفع
هذا القول بشدة (الوشمي: 2009م، ص 42) مستشهداً بروايات شفاهية من عدد من
المعاصرين للحدث وبحسب تعبيره “فالممانعة كانت قوية، ولكنها تمت في إطار الدولة
ومن باب التعامل مع ولي الأمر، لذلك كان الموقف الذي اتخذته الحكومة موقفاً سلمياً
يُبالغ في الهدوء والتأني في إقناع الممانعين. فحركة الممانعة سلمية بجميع مناشطها،
وأعضاء الوفد الذي قابل الملك طلبوا من ولي الأمر أن يعدل عن هذا الأمر، وإن قبل
فجزاه الله خيراً، وإن لم يقبل فالسمع والطاعة، ولا أسلحة ولا حرب أعصاب، وكانوا
في غاية الهدوء والقناعة“. وهذا الأسلوب الهادئ في الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر هو دين علماء هذه البلاد في الإنكار على ما يرون أنه منكر، يدلُ على ذلك،
ختام نقاش العلماء مع (حافظ وهبة) في أثناء مناقشته لهم بأمر من الملك عبد العزيز
عن تدريس بعض العلوم العصرية، فقد قالوا هذه العبارة التي تنطلق من عقيدة أهل
السنة والجماعة، وهي عقيدة علماء المملكة العربية السعودية في التعامل مع الحاكم
وهو: “لقد بينا للإمام عبد العزيز الأدلة والمفاسد التي تترتب على تقرير هذه
العلوم.. ولسنا بحاجة إلى الجدل المنهي عنه شرعاً، فإن قبل الإمام رأينا فالحمد
لله، وإن خالفنا فليست هذه أول مرة يخالفنا فيها. (الجاسر: 1427هـ،ج، ص596)[21]”.
وللتأكيد على أن الرفض لم
يكن لذات التعليم فقد كان من أبرز من عُرفَ بالممانعة أو الــرفض في بـــريدة
الشيخ عبد الله بن سليمان بن حميد[22] ومع تلك الشهرة في الرفض
من قبل الشيخ المذكور فإنه لم يكن معارضاً لمبدأ تعليم البنات حيث يقول السدحان
عنه شخصياً: “كان يؤكد على ضرورة أن يكون على المنهج الذي يقره الدين، ويُحذِّر من
أن يكون القصد من تعليم الفتاة مجاراة الأمم المنحلة عن الدين. كما ينص في أحد
مقالاته التي نشرها على أنه لا مانع من توسيع تعليم المرأة على المنهج الذي يقره
الدين وتعاليمه، مع التمسك بالحجاب، وبالأخلاق الفاضلة[23]”.
أسباب
الرفض والقبول:
صَاحَبَ فكرة تأسيس تعليم
البنات بالسعودية دعوات التحرر في بعض دول العالم العربي، ومن أشهرها حركة قاسم
أمين ودعوته لتحرير المرأة فكان عنصر تخوف عند المجتمعات السعودية المحافظة.
يقول السدحان عن أثر
دعوات تحرير المرأة المصاحب لتعليمها في معظم الدول العربية على قوة الممانعة
والرفض في السعودية: “فلقد كانت دعوة (قاسم أمين) المشتهر بالمطالبة بتحرير المرأة
ترتكز في خطابها التحرري على (تعليم المرأة)، فمن ذلك وغيره من الدعوات التحررية
جعل مناطق أخرى من الوطن العربي تمانع من تعليم المرأة خوفاً من وصول المرأة لديهم
إلى ما وصلت إليه أختها هناك[24]”.
ومن الأسباب التي قد تكون
أخَّرت قبول هذا التعليم عند فئة قليلة من المجتمع ما ذكره السدحان بقوله: “كون
الطلائع الأولى من المعلمات والمشرفات على المدارس كانت من البلاد التي ظهرت فيها
دعوات تحرير المرأة وتفلتها من قيود الإسلام بدءاً من الحجاب وانتهاءً بإلغاء بعض
أحكام الشرع في الميراث وأحكام الزواج وغيرها، وتتصادم مع المجتمعات المسلمة
وعقائدها وثقافاتها الشرعية[25]”.
“فقد كانوا يخشون أن
يُقَرَّ تعليمُ البنات لدينا على الحال التي كانت عليها في الدول العربية الأخرى؛
خاصة مصر التي كانت أوائل المدرسات لدينا قادمات منها. فلهذا خشي المعارضون أن
يصبح التعليم بعيداً عن الدين والفضيلة[26]”.
وعن دور الاستعمار في
تشويه تعليم المرأة يرى السدحان: “أن الاستعمار في ليبيا قام بنشر أوهام وأفكار
خاطئة عن تعليم البنات لكي يمتنع الآباء عن تعليم بناتهم، وقد تحقق لهم ذلك
بالفعل”، “وإن الشعب الجزائري وقف موقفاً حذراً من المدارس التي قامت بإنشائها
فرنسا لأنها تتعارض مع مقومات الشخصية العربية الإسلاميـة للشعب الجزائري،
وبالتالي لم يكن ثمة إقبال على هذه المدارس، كذلك وجود التعليم المختلط بين
الجنسين، حيث ظهر مثل هذا النظام على المستوى الابتدائي في بعض الدول العربية،
وكذلك في بعض الدول الإسلامية، وهذا النظام أوجد إحجاماً من قبل الكثير من الآباء
عن دفع بناتهم للتعليم لما فيه من المحاذير الشرعية كما لا يخفى[27]”.
ومن الأسباب الرئيسة
المهمة طبيعة علاقة الشعب السعودي بعلمائه ودعاته، فمواقف العلماء وفتاواهم هي
مؤشر القبول أو الرفض، كما أن المجتمع السعودي المحافظ بعلمائه ودعاته يعتقدون
بوجوب تصدير التجارب والمشاريع والبرامج المنضبطة بضوابط الشرع إلى دول العالم
الإسلامي، بدل أن يستوردوا تجارب تعليمية كان للمستعمر الأجنبي جهد كبير في
تأسيسها، كما أن المجتمع السعودي يعتز بخصوصية هويته العقدية والتاريخية
والجغرافية التي جعلت من أرضه مركزاً مقدساً للعالم الإسلامي وقبلةً لشعوبه.
وكما يذكر [أبوزيد142هـ،
ص76] عن المجتمع السعودي بأن بلدهم “هي معقل الإسلام والمسلمين، وعاصمته الخالدة،
وقلب العالم الإسلامي كمركز القلب في الجسم الإنساني، ورأس مال المسلمين والخط
الأخير في الدفاع عن الوجود الإسلامي.. فالرسالة الإسلامية مهمـــا كـــانت
عـــالمية، فلا بدَّ لها من مركز يُعدُّ مقياسـاً وميزاناً لعمليتها وواقعيتها،
وأسوة وقدوة لجميع المدن والقرى والمجتمعات التي تؤمن بهذه الرسالة وتحتضن هذه
العقيدة والدعوة”، بل قد يصل الأمر إلى أكبر من ذلك وهو الرغبة في بقاء هذا السمت
المحافظ للمجتمع السعودي، لدرجة أن هناك من يرى أن المجتمع السعودي أشد المجتمعات العربية
محافظةً، وبحسب تعبير (الغذامي: 2004م، ص 10) فإنه “مجتمع أُتُفِقَ لا على محافظته
فحسب، ولكن على الرغبة في أن يظل كذلك، ولو عمل استفتاء عربي لوجد إجماعاً عند كل
العرب والمسلمين في أن يظل المجتمع السعودي محافظاً، وكأنما ذلك مصدر تطمين تاريخي
وحضاري لا يمكن التفريط فيه[28]”.
ويضاف للأسباب السابقة
الوحدة العقدية للمجتمع السعودي، يقول السدحان: “ومما يمتاز به مجتمع المملكة
عقيدته الإسلامية، وهي دين جميع أفراد الشعب،” وتُعدُّ المملكة العربية السعودية
من الدول النادرة في العالم التي يعتنق جميع سكانها ديناً واحداً وهو الإسلام
بنسبة (100%)، وهذه الوحدة الدينية في الواقع هي نقطة القوة الكبرى في بناء
الوطن” (الفقير: 1419هـ، ص242)، كما أن اللغة العربية هي اللغة الوحيدة والرسمية
في المملكة[29]“.
ومن الأسباب الدافعة
للرفض والقبول في آنٍ واحد قوة أثر الدين على المجتمع في مجال الثوابت والمتغيرات،
فحينما يكون هذا التحديث والتغيير أو التجديد مرتبطاً بالإسلام وتشريعاته يصبح
موضع قبول وترحيب كما حدث في تعليم البنات، كما أن أي محاولة للتغيير أو التحديث
في الإسلام ذاته مرفوضة.
يقول السدحان: “تأثير
الدين الإسلامي في جميع مناحي الحياة في المجتمع وانصباغ المجتمع بصفة التدين
العام[30]”. “وهذا أسهم بدرجة
كبيرة وملموسة في استقراره، فالدين الإسلامي ساهم في صهر كافة شرائحه في بوتقة
واحدة، كما ساعد على القبول الجماعي بدرجة كبيرة بين أفراد المجتمع لمرئيات
وقرارات السلطة نحو قضايا التنمية، كما أن مجريات الأمور الخاصة والعامة
تتقاطع بشكل واضح مع مواعيد وأوقات وفترات أداء الواجبات الدينية من الصلوات
والصيام والحج، كما أن عادات الملبس والمأكل والمشرب وكذلك مراسم الزواج
والمناسبات العامة لا يمكن فهمها بعيداً عن المعاني والمقاصد الدينية[31] “.
الآثار
الحسنة (الإيجابية) للرفض:
تستفيد الدول الديمقراطية
بأحزابها المعارضة وتوجهاتها المتعددة من الرأي والرأي الآخر فيما لا يتعارض مع
دستورها، ويكون الحوار والنقاش تحت مظلة دستور الدولة وفكرتها الأساسية الموحِّدة،
وقد كان لموضوع تعليم البنات والرأي الآخر فيه في السعودية دور كبير في نضج آليات
هذا التعليم ووسائله الإدارية والتعليمية المحافظة، فتطوره ونجاحه ونجاح القبول به
وتميزه كافٍ لقياس الآثار الحسنة (الإيجابية) التي نتجت عن تلك الممانعة أو الرفض.
كتب الدكتور
عبدالله السدحان في كتابه القيِّم كثيراً من الآثار الحسنة (الإيجابية) التي لم
تكن لتتحقق لولا تلك الممانعة والرفض، وكان مما قال: “لقد نتج عن هذه الاعتراضات
في المجتمع نشوء نظام تعليمي فريد على مستوى العالم وهو وجود استقلالية إدارية
تامة لتعليم البنات عن تعليم البنين، إضافة إلى استقلالية تربوية وتعليمية نسبية
عن تعليم البنين، وكانت هذه التجربة هي الوحيدة على مستوى العالم، أي انفصال تعليم
البنين عن البنات من حيث التنظيم الإداري والتنفيذي، ومما لاشك فيه أن هذا الزخم
الاعتراضي من قبل بعض قيادات المجتمع كان له أثره الواضح حينما صيغت سياسة التعليم
في المملكة، التي صدرت عام (1389هـ/ 1969م) ومن المؤكد أن البداية كانت قبل ذلك
التاريخ، وهي مرحلة متأثرة فكرياً بالآراء الشرعية والفكرية التي كانت مطروحة في
الساحة آنذاك.
وقد كان موضوع تعليم
الفتاة أحد الأسس العامة التي تقوم عليها وثيقة سياسة التعليم في المملكة، وهي
المادة رقم (9) ونصها: “تقرير حق الفتاة في التعليم بما يلائم فطرتها ويُعدُّها
لمهمتها في الحياة، على أن يتم هذا بحشمة ووقار وفي ضوء الشريعة الإسلامية، فإن
النساء شقائق الرجال” (وزارة المعارف: 1416هـ، ص6). كما تضمنت الوثيقة فصلاً خاصاً
عن تعليم البنات احتوى على أربع مواد خاصة بتعليم الفتاة وهي المواد:153-156 )[32]”.
ومن الآثار الحسنة
(الإيجابية) للرفض، يقول السدحان: “كما أن تلك المعارضة أوجدت نظاماً تعليمياً
يتمثل في الاستقلالية التامة لتعليم البنات عن تعليم البنين، وهذا ما أنجاه من
بلية الاختلاط الذي بليت به العديد من الدول العربية والإسلامية، سواء أكان في
التعليم الابتدائي، أم التعليم الجامعي، وهو أنموذج لم يوجد مثله على مستوى العالم
بهذا الشكل المنظم والمقنن على مستوى أعلى جهة تشريعية في الدولة[33]”.
ومن الآثار الحسنة
(الإيجابية) للرفض والممانعة كذلك: “منهج خط التطمينات الذي اختطته الرئاسة
لنفسها، حيث نجد أنها قامت بالتوكيد المتواصل على الطالبات والمعلمات وجميع
منسوبات المدارس بالمحافظة على الملابس المحتشمة، كما قامت بتعيين حارس لكل مدرسة
من الرجال كبير في السن، ولا بد أن تكون معه زوجته، لتكون وسيطة بينه وبين القطاع
النسائي في داخل المدرسة. مع التأكيد القوي على عدم افتتاح أي مدرسة بنات بجوار
مدرسة للبنين[34]”.
ومن تلك الآثار الحسنة
(الإيجابية) للرفض: “الفصل الكامل بين تعليم البنين والبنات، في الإشراف والإدارة
ابتداءً، وكذلك في المباني، وأخيراً في المناهج، فلكل مناهجه الخاصة[35]”.
ومن الآثار الحسنة
(الإيجابية) للرفض استحداث نظام نقل الطالبات بسيارات خاصة بهن من المنازل إلى
المدارس والعكس، مما أسهم في التطمين والحماية، بالوقت الذي لا يوجد فيه نقل عام
للطلاب أو نقل عام لعموم الناس داخل المدن، وهذا النقل بحد ذاته كما هو من الآثار
الطيبة للممانعة، فإنه يعكس نجاح التجربة التعليمية المتميزة.
ومن الآثار الحسنة
(الإيجابية) بروز آثار الدعوة والتعليم على الآباء والمجتمع في تعاطيه مع هذه
القضية التي انعكست في معالجة الأزمات: “ومن هنا يمكن القول: إن هذه الحوادث التي
شكلت بعض المنعطفات في مسيرة المجتمع نحو التكامل والاستقرار تبرهن ما يؤكد عليه
علماء الاجتماع الديني المتمثل في أن الدين يصبح أمراً أكثر أهمية ومصداقية في
أوقات الضغوط والأزمات والصراعات؛ ولهذا السبب فإن جزءاً كبيراً يعتمد على التفسير
الديني، وعلى من يقوم بعملية التفسير إذ يشكل ذلك محدداً أساساً في إعادة الأمور
إلى مجاريها أو إلى استفحال هذه الآراء أو المواقف وتحولها إلى حركة مناوئة للنظام
(الخليفة: 1428هـ: ج1، ص484)[36]”.
وأقول: إن التاريخ شهد
ويشهد أنها تجربة تستحق الإشادة والتصدير لدول العالم الذي يعيش مرارة التعليم
المختلط، وإن وقفة يسيرة أمام الأرقام والإحصائيات تكشف الحقيقة وتُظهر بجلاء
مؤشرات التجربة التاريخية للتغيير والتحديث بالدين حيث الأرقام عن المدارس
وطالباتها ومعلماتها بمراحلها الثلاث، إضافةً إلى كليات البنات التابعة للرئاسة في
ذلك الوقت، قبل دمج الرئاسة العامة لتعليم البنات، ودمج الكليات في الجامعات.
المنهج
السلفي والتغيير:
في عرض هذا الموضوع يتأكد
لكل ذي بصيرة دور العقيدة وعلمائها في التغيير والتجديد.
الباحث السدحان في كتابه
المعني بمقاومة التغيير في المجتمع السعودي، أشاد بدور العلماء في التغيير من خلال
عملية تعليم البنات فقال: “إن الإنصاف التاريخي يستلزم القول: إن سماحة المفتي
العام ومعه عدد من العلماء لم يكن من المتحفظين على المبدأ بقدر ما كان على
الآليات والوسائل وجهة الإشراف، ويؤكد ذلك ما ورد في فتوى لسماحته حول تعليم
البنات وهل له حد ومتى تكف عن الدراسة إذا بلغت من العمر؟ ذكر إجابة عن تلك
الأسئلة الآتي: “ليس للدراسة حد في ابتدائها ولا في انتهائها، فما دامت الفتاة
تستفيد من دراستها علماً نافعاً ولا يترتب عليه أي مفسدة فلا مانع من مواصلتها
الدراسة، وإذا كانت الدراسة لا تزيدها إلا نقصاً في دينها وانحلالاً في أخلاقها
وتبرجاً وتهتكاً تعيَّن حينئذ منعها” (ابن قاسم 1399هـ، ج13، ص222)[37]”.
ومما سبق يتضح كيف تجاوزت
الحكومة والمجتمع الموافق والمعارض منهم عملية تعليم البنات بضوابط الشريعة، على
الرغم من أن هذا التعليم متغير كبير على المجتمع السعودي، كما يتضح حجم بعض
المغالطات الإعلامية التي تتحدث عن هذا الحدث، وتوظِّف الحدث والمعارضة له توظيفاً
خاطئاً، يقول السدحان: “ومن هنا يستغرب المتابع لبعض الطروحات في وقتنا المعاصر،
والتي تحمل في طياتها تلميحاً أو تصريحاً تشنيعات من بعض الكتاب في الصحافة أو في
غيرها من وسائل الإعلام على المؤسسة الدينية السعودية أو على علمائها ورموزها،
وأنهم كانوا سبباً في تأخر المجتمع بمواقفهم الرافضة لتطويره، وكثيراً ما يستشهدون
بموضوع تعليم الفتاة، وأن المؤسسة الدينية والعلماء كانوا هم المعترضين عليه، نعم
كان هناك معارضة ولكن من الظلم تحميل المؤسسة الدينية، أو كبار العلماء هذه
المعارضة، بل كانت من بعض طلبة العلم، ومن أفراد، ومن بعض عوام المجتمع، وكثيراً
ما تتخذ هذه المعلومة التاريخية المغلوطة متكأً للمطالبة بمشروعات فيها مخالفات
شرعية واضحة، ومطالبة الدولة بإقرارها وعدم الالتفات إلى الاعتراضات التي يطرحها
العلماء من منطلق شرعي بحت. جاعلين من قضية تعليم الفتاة وما صاحبها من
اعتراضات دليلاً على عدم صحة هذه الاعتراضات الجديدة متناسين أن (الدين
الإسلامي في المجتمع السعودي كان ولا يزال عاملاً مهماً ليس في فهم مظاهر الاستقرار
والتوازن والتنمية والتكامل فحسب، بل في استيعاب مظاهر التغير والصراع، ومن ذلك
يتبين مدى أهمية الدين الإسلامي في كونه بناءً وإطاراً مرجعياً وإيديولوجياً ليس
فقط في مسألة تأسيس المجتمع وتماسكه، بل أيضاً في إضفاء الشرعية على الكثير من
الأمور التنظيمية والاجتماعية والتنموية المختلفة في الواقع الاجتماعي (الخليفة:
1428هـ: ج1، ص487))[38]”.
فالتغيير بالدين وبضوابطه
الشرعية وتعاليمه الشاملة عامل قوة واستجابة في التغيير الاجتماعي والتطوير
الثقافي والإصلاح الإداري والسياسي، لكن التغيير أو التحديث أو التجديد في الدين
هو الأمر المرفوض عند عموم المجتمع السعودي الذي تحكمه أيديولوجيا مرتبطة بعقيدةٍ
ربانيةٍ سماويةٍ.
وقد
عدَّ كثيرٌ من المؤرخين[39] (الحركةَ الوهابية) –
كما يسمونها- من أقدر الحركات الإسلامية في عملية التغيير السياسي والاجتماعي،
فالعقيدة السلفية تمتلك مقومات إقامة دولة بنظم وتشريعات كاملة شاملة، كما تمتلك
عوامل الإصلاح والتغيير، وهذا ما حدث بالفعل في جزيرة العرب التي عانت في بعض فتراتها
التاريخية من تفكك وانقسام، وتحولت بفضل الله ثم بفضل تلك العقيدة إلى وحدة فكرية
سياسية فريدة من نوعها، قابلة للتجديد والإصلاح والتغيير، لكن بإيديولوجية المجتمع
-دون سواه-، مستفيدة من كل النظم الإدارية الحديثة التي لا تتعارض مع تشريعات وقيم
المجتمع السعودي. قال تعالى: {إنَّ اللَّهَ لا
يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ}
[الرعد: 11].
:: عدد مجلة البيان 299 شهر
رجب 1433هـ
[1]() هذه
القراءة مقتصرة على إيراد النصوص المعنية من الكتاب المذكور، والتعليق فيما بين
النصوص، وربط بعضها ببعض، إضافة إلى أن عناوين هذه القراءة من وضع وترتيب القارئ
لتكوين الوحدة الموضوعية لموضوع القراءة.
انظر
كتاب الأميرة/ موضي
بنت منصور بن عبد العزيز( الهجر
ونتائجها في عصر الملك عبد العزيز) 1419هـ
جامعة أم القرى.
[2]
انظر: الدكتور عبدالله بن ناصر السدحان مقاومة التغيير في المجتمع السعودي، ص11.
[3]
انظر السابق، ص 105- 106.
[4]
انظر السابق، ص109.
[5]
انظر السابق، ص34.
[6]
انظر السابق، ص127.
[7]
انظر السابق، ص128.
[8]
انظر السابق ص128.
[9]
انظر السابق ص129.
[10]
انظر السابق ص98.
[11]
انظر السابق ص187، 188.
[12]
انظر السابق ص110.
[13]
انظر السابق ص152، 153.
[14]
انظر السابق ص13.
[15]
انظر السابق ص33.
[16]
انظر السابق ص100، 101.
[17]
انظر السابق ص144.
[18]
انظر السابق ص123، 124.
[19]
انظر السابق ص188، 189.
[20]
انظر السابق ص 188.
[21]
انظر السابق ص125، 126.
[22]
يلحظ أنه من الدعاة المشهورين بالقصيم وكان متحفظاً بقوة على أهمية الوسائل
التعليمية المحافظة، وقد خلط أحد الكتَّاب بينه وبين سماحة الشيخ عبدالله بن محمد
بن حميد الذي تولى القضاء في بريدة، حيث اعتبر الكاتب الأول هو الثاني، أنظر
السدحان مقاومة التغيير ص 113.
[23]
انظر:
الدكتور عبدالله بن ناصر السدحان مقاومة التغيير في
المجتمع السعودي ص111.
[24]
انظر السابق ص38.
[25]
انظر السابق ص150.
[26]
انظر السابق ص110.
[27]
انظر السابق ص37.
[28]
انظر السابق ص55، 56.
[29]
انظر السابق ص59، 60.
[30]
انظر السابق ص61.
[31]
انظر السابق ص61.
[32]
انظر السابق ص154، 155.
[33]
انظر السابق ص157.
[34]
انظر السابق ص183.
[35]
انظر السابق ص184.
[36]
أنظر السابق ص187.
[37] أنظر
السابق ص189.
[38]
انظر السابق ص191، 192.
[39]
انظر جلال كشك (السعوديون والحل الإسلامي) ص
5، 6. وانظر الباحث الفرنسي محمد مُلين (علماء الإسلام) ص 206، 207، 208، 229،
230.