هل شاهدتَ عُيوناً تدمع ؟ هل أحسستَ بقلبٍ يُضجع
؟ أم أظلمتِ الدنيا أمامك ؟
هل شاهدت الحزن يسير ؟
فوق الرأس يحوم ، يطير .
يعود ، يجول .
يخرِقُ فرحاً ، يُسْكِتُ أملاً ، يَهْدِمُ جسداً
.
حتى يُقضى بين يديه .
إنها العائداتُ ، وما أدراك ما العائدات ؟ تلك التي تفاجئُنا دُون نذير ، وتجْثُو على
قلوبنا دُون بشير .
إنها تؤرِّق النفس ، وتمنع النوم ، وتُمْرِضُ
الجسد والقلب ، وتُؤثِّرُ في الإنسان تأثيراً يجعلُهُ يغيِّر سَمْته وهيئتهُ ، وتصلُ
به إلى أن يترك العمل ، وينقطع به الأمل ، وقد تُودي بصاحبها بعدما غرَّتْهُ الحياةُ
وزينت له أنَّهُ في مأمنٍ منها ، وأنَّى له ذلك ؟
وأنَّى لإنسان أن تصفو له الحياة أبداً ؟ فالكلُّ
من لذعاتها ذائقٌ .
وما منْ عالم إلَّا له منها نصيبٌ .
طَحنتْه الأيامُ فاعتلى وطارتْ شُهرتُهُ وأثَّر
في الأُمم كما تؤثِّرُ حُبوب اللِّقاح في الثمار ؛ فلولاها ما أينعت الثِّمار ، ولولا
العُلماء ما تقدَّمت الدُّنيا .
ينْظرُ بعضنا إلى بعض ، فيروْنهُم لا يشكون ،
ولا يتبرَّمُون ، فيَظُنُّون أنَّهم يَخْلُون من العائدات ، وأنَّهم في مأْمنٍ من الحادِثات ؛ فإذا أصابك
مِثْلُ ذلك فاستغفر الله - تعالى - لأنه : ( من راقب الناس ماتَ غمّاً ) ، و « من حُسْنِ
إسلام المرْءِ تركُهُ ما لا يعْنيه » .
إنَّ المصائب تتفاوت بقدْر أصحابها ، ويظن المبتلى
أنه أكثر الناس ابتلاءً ؛ وذلك لشدَّة لَذْعِ العائدات عليه ، وقلة الحيلة لديه :
وتعظمُ في عينِ الصَّغِير صِغارُهَا وتَصْغرُ في عينِ العظيم العظَائِم
كان هناك رجُلان ذوا منْصب وجاهٍ ، ورِثا ضَيْعةً
وأمْوالاً ، وبساتين ، ثُمَّ استُخرِجَ لهما قانونٌ ، سلب منْهما أكثر ما يملكانه
.
أما أحدُهُما فثبت في الميدان ثبات الأسد في
الفلاة ؛ فقد بنى لله مسجداً ، وظَلَّ على حاله من توزيع الصدقات والعطف على المساكين
إلى أنْ تغمَّده الله برحمته ، وحزِن المساكين على فجيعته .
وأمَّا الآخرُ : فقد جُنَّ جُنُونه بعدما ظنَّها
باقيةً لهُ ، وقدْ ظلم مَنْ ظلم وقتل مَنْ قتل ، يَثُور كالبركان ، ويخور كالثيران
.
لا رادع له ولا أمان ؛ فهو السُّلطان بعد السلطان
، ثم تغير به الحال ؛ فبُنيت له حُجرةٌ ظاهرها حَجَريَّةٌ ، وباطنها إسفنجيةٌ .
كُلما تذكر ماله الضَّائع جعل يخْبطُ رأسهُ بتلك
الجُدْران إلى أن توفَّاة اللهُ - تعالى - وهو على هذه الحال .
لا يُذْكَرُ إلا وتُذكَر مساوئه ، ولا يُذكَر
أخوه إلاَّ وتُذكَر محاسنه .
لقدْ خلق الله - تعالى - الموتَ والإنسانُ لا
يُريده ولكنَّهُ يُسلِّم به ، وخلق الحياة والإنسان يطلبُها ولكنَّها لا تدوم .
وخلق الله - تعالى - الأفراح يريدها الإنسان
ولكنها لا تستمر على حال ،وخلق الأحزان لا لمتاعب الإنسان ولكنْ لتصقل نفسه صقلاً يخرج
منها كالذَّهب الخالص وقد ثقَّفه صاحبه على النَّار ؛ فتزداد جمالاً وقوَّةً .
{ وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى * وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا
} ( النجم : 43-44 ) .
ولربما أصاب الإنسان ضِيقٌ دون سبب واضح يبدو
له ؛ لأن السبب عند مُسبِّبُ الأسباب ، فاصطلِحْ معه يشرحْ لك صدرك ، ويضعْ عنك وزْرك
.
ثُمَّ خفِّف الحِمْل عن البائسين ، وتصدَّق على
المُحتاجين ؛ فالصَّدقة بُرهان على الإيمان ، تنجلي بها الغُمَّةُ ، وتنكشف بها المُلِمَّةُ
.
فلْتنطلق في الحياة الفانية ، انطلاقك للحياة
الباقية ، حتَّى تحصُد ما قدَّمت يداك .
إن حوادث الزمن لا تعدو أن تكون فقداً أو حرماناً
: فإنْ كانتْ فقْداً ، فالعائداتُ تُولِّي ، ولا يبقى لك إلَّا ما قدَّمت : { مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ } ( النحل : 96 ) وإن كانت حرْماناً ، فأنت لم تملك منها شيئاً
طوال حياتك ، ولم تجرِّب لذَّة المُلكِ ؛ فلماذا البُكاءُ على ما لم تملكه ؟
فإذا وقع عليك ابتلاءٌ ( وهو واقعٌ لا محالة
) فحاوِل التخفيف عن نفسك وحلَّ مُشْكلاتك وإنْ كان لك يدٌ فيها ، واستشرْ أُولي الهمة
والرأي ، وإلاَّ ففوِّض الأمر إلى الله - تعالى - إذا انقطعت بك الأسباب ؛ فهناك مسبِّب
الأسباب يُجيبُ من مدَّ إليه يده : { أَمَّن يُجِيبُ المُضْطَرَّ
إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ } ( النمل :
62 ) .
وسيحلُّ لباس الفرح بديلاً من لباس الحُزْنِ
؛ فلا تبيتنَّ إلا خالي البال .
إنَّ المُبتلى قريبٌ من الله ، قريبٌ من الجنة
؛ فأكثر الناس ابتلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل .
فلْيكن استقبالُنا للأتراح كاستقبالنا للأفراح
، هكذا المؤْمن : إنْ أصابته سرَّاء شكر فكان خيراً له ، وإن أصابته ضرَّاء صبر فكان
خيراً له .
واللهَ أسأل ألاَّ يجْعل مصيبتنا في ديننا .