• - الموافق2024/11/24م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
ثوار على أبواب فلسطين

ثوار على أبواب فلسطين


عاش العالَم العربي خلال العقود الماضية حالة من القمع والحكم الفردي الشمولي، أسقطتْ من اهتمامات الناس كثيراً من القضايا الرئيسية وعلى رأسها القضية الفلسطينية؛ لأن المعادلة التي فرضها الواقع هي أنه مَنْ يريد الحفاظ على تفرُّده بالسلطة فعليه أن يغض البصر عن هموم المسلمين، وليس ذلك فحسب بل إن بعض الناس - مثل الرئيس المصري السابق حسني مبارك - بالغ في ولائه للاحتلال الصهيوني، وفرض حصاراً على قطاع غزة استمر أكثر من خمس سنوات، ولم تفلح كل الضغوط في إزالته سوى الثورة المصرية المباركة، التي اندلعت مع بداية العام الحالي 2011م. ومنذ فتح معبر رفح الذي اعتُبِرا إنجازاً للثورة المصرية فإن طموحات الشعب الفلسطيني وأَمَلَهم في أمتهم بدأ يتجدد وبدأت كذلك الثورات في تونس وليبيا واليمن وسورية تعيد الإنسان العربي إلى تراثه وأصالته وفطرته التي ولد عليها وإلى انتمائه لإسلامه.

وجميعنا يعلم أن الأنظمة الشمولية التي اتخذتْ القوميةَ والاشتراكيةَ والعلمانيةَ شعاراتٍ رنانةً لاستمرارها في الحكم واستنزاف ثورات البلاد والعباد دون إنجازات تزيل الفجوات التي بين الشعوب العربية وشعوب «العالم الأول» التي سبقتنا بآلاف السنين الضوئية في العلم والتطور، ولم يبقَ لنا سوى ديننا الذي نشأنا عليه وتخلَّقنا بأخلاقه؛ فحينما عاد الثوار إلى الشارع عادت معهم الكرامة لأمتهم، فلم يحملوا شعارات تريد إسقاط الحكم الفردي، بل حملوا أيضاً طموحاً بالحصول على حريتهم ونهضة بلادهم، وما أظهرته نتائج الانتخابات في المغرب وتونس ومصر يُظهِر أن الأمة تعود إلى دينها من جديد، وتتعلق بحضاراتها الأصيلة وثقافتها الموروثة، وتنفض كافة الشرائع الوضعية التي استُورِدَت من عالَم آخر لكي تطبَّق علينا.

لم نكن نذكر أبياتاً أجمل من أبيات هذه القصيدة التي كتبها الشاعر فخري البارودي، وتعلمناها في مدارسنا:

بلادُ العُربِ أوطاني

منَ الشَّـامِ لبغدانِ

ومن نجدٍ إلى يَمَـنٍ

إلى مِصـرَ فتطوانِ

فـلا حـدٌّ يباعدُنا

ولا ديـنٌ يفـرِّقنا

لسان الضَّادِ يجمعُنا

بغـسَّانٍ وعـدنانِ

وها هي اليوم بعد غياب طويل تعود إلى ذاكرتنا، بعد أن عادت هذه الأمة إلى الثورة من جديد خلف شعار واحد صوتت عليه في الانتخابات، وهو: أن الإسلام هو الحل لجميع قضاياها. فبغضِّ النظر عن التباين في مواقف الإسلاميين واختلافاتهم فإن ما يغذِّي روحهم هو عشقهم لدينهم وكرامتهم. لقد غُيبُوا كثيراً بسبب تزوير الانتخابات والاعتقالات والتهميش لكن الشعوب اختارتهم لأنها بحاجة إلى الإسلام ليحكمها؛ لأن ما سلف أرهقها كثيراً.

قمنا في مجلة البيان بالتواصل مع عدد من الضيوف للحديث عن فلسطين التي أصبحت شعاراً لكل عشاق ميادين التحرير في العالم العربي، فكان الإجماع أن المرحلة القادمة مرحلة ستكون نوعية في تاريخ القضية الفلسطينية.

نهضة فكرية جديدة:

الدكتور يوسف رزقة (مستشار رئيس وزراء قطاع غزة) يقول: إن التغييرات التي طرأت على العالم العربي ستفرز حكومات جديدةً ومشاعرَ جديدةً اتجاه القضية الفلسطينية، وكذلك سوف نجد إعدادَ قواعد عمل جديدة لتلك الحكومات انطلاقاً من معتقداتٍ فكرية جديدة أيضاً، وهذا مكسب للقضية الفلسطينية يساعد في توحيد الشعوب العربية وإعادة الاهتمام بقضية فلسطين وَجَعْلها القضية المركزية بالنسبة لهم.

ويرى رزقة أن العقود الستة الماضية تعوَّدت الأمة فيها على موقف غربي وأمريكي مؤيِّد لــ (إسرائيل) ومدافِع عنها، وفي الوقت نفسه كانت الأنظمة تعاني من حالة ضعف داخلي وعاجزةً عن مواجهة الجانب (الإسرائيلي) وكذلك الضغوط الغربية والأمريكية. وخلال حديث مستشار إسماعيل هنية مع البيان أكد على أن المد الإسلامي الذي تشهده الأمة جاء نتيجة تعطُّشها لتغيير للأحسن وللعودة إلى مرجعيتها وثقافتها، وكذلك تعويضاً عن سنوات الحرمان والظلم والاضطهاد التي عاشها الإسلاميون تحت حكم القمع والدكتاتوريات. والشعوب العربية عاطفية تميل دائماً إلى فطرتها ودينها لذلك تجد في الأحزاب الإسلامية متنفَّساً يعبِّر عن معتقداتها وطموحاتها، وهو الأقرب إلى أفكارها بعد أن جربت الاشتراكية والعَلمانية وغيرها في الماضي.

وأعرب رزقه الذي كان وزيراً للثقافة في السابق عن كبير أمله في أن التغيرات الجارية ستحمل الخير للشعب الفلسطيني، وعملياً - كما يقول - فإنها: «ستؤثر على الملف الداخلي الفلسطيني وستضغط على طرفَي المصالحة، وكذلك كثير من العواصم ربطت مساعدة الفلسطينيين بإنجاز هذا الملف؛ لذلك جاء الربيع العربي بتغير النظام القمعي في مصر وهو الذي كان يعيق التوافق الفلسطيني استجابة لدعوات أمريكية و (إسرائيلية). أما الآن فمصر تشهد سياسة جديدة في التعامل مع الشعب الفلسطيني».

أما بخصوص مدى تأثُّر المقاومة المسلحة بالحالة السياسية الناتجة عن الربيع العربي - وخصوصاً الملف السوري - فقد أكد رزقة بأن ذلك لم يؤثر على المقاومة كثيراً؛ لأنه لا توجد علاقة بين عواصم الدول الإقليمية (مثل دمشق والقاهرة) في موضوع المقاومة، بل هذا الأمر له علاقة بالوضع الداخلي الفلسطيني وهو يعتمد على مقوِّمات وإمكانيات المقاومة نفسها، وما نشهده من مرحلة هدوء جاءت لتضميد الجراح بعد الحرب التي خاضتها غزة عام 2008م.

ومن الإيجابيات - كما يرى الدكتور رزقة - أن الربيع العربي جعل دولاً كثيرة تعيد تقييم علاقتها بحركتَي فتح وحماس، وخير مثال على ذلك الأردن، التي اعترفت بالخطأ الذي ارتكب حينما أغلقت مكاتب حركة حماس، ويقول أيضاً: «الآن تأثر [الأردن] بالحالة العربية، وملك الأردن صحاب خبرة وحكمة ورثها عن والده الملك حسين لذلك هو يسعى لترتيب الأوراق من حوله والاستجابة للمتغيرات التي تحيطه به، فهو غير الحكومة ويسعى لإعادة إصلاح العلاقة مع الإسلاميين؛ لأنه يعتبرهم سنداً قوياً في مواجهة مخططات الأحزاب اليمينية الإسرائيلية التي تريد ترسيخ فكرة إقامة وطن بديل للفلسطينيين في الأردن، وهذا ما ترفضه الأحزاب الإسلامية».

تهديد الوجود الإسرائيلي:

 

أثَّر التغير في الوطن العربي على أسلوب التفكير، وخلق سقفاً جديداً من الحريات، الأمر الذي جعل الناس يغيِّرون نظرتهم تجاه بعض المصطلحات السياسية وكذلك سقف طموحاتهم. يقول المحلل السياسي صالح النعامي: «إن التغيرات لها عدة تأثيرات، ومن يتابع النخب الإسرائيلية سيصل إلى قناعة بأن هناك حالة فزع (إسرائيلي) مما يجري في الشرق الأوسط، وكذلك ما يسمى بالربيع العربي قلص الخيارات أمام القوى الفلسطينية التي تمثل حالة الانقسام وأوجد أزمة خيارات بالنسبة لحركتي فتح وحماس؛ فنلاحظ أن النظام الذي كان يساند توجُّهات رئيس السلطة أبي مازن (وهو نظام مبارك) قد سقط. وبالنسبة لحركة حماس فإن الأوضاع في سورية تتغير ويوجد عدم استقرار وهذا هزَّ قناعات حماس وجعلها تدرك أن التوافق الفلسطيني هو الحل المتوفر».

ويتابع النعامي في حديثه لـ البيان: إن حالة الغضب في مصر تجاه (إسرائيل) جعلت الأخيرة تخاف على مستقبلها في محيط مشتعل غضباً عليها، ومن أهم إنجازات الربيع العربي أن الحكومات تحررَت من التبعية للغرب والإدارة الأمريكية، وأصبحت أقرب إلى الشعوب. ويعتقد أيضاً أن هناك حالة انقطاع مع عهد الاستبداد، مضيفاً أن الأنظمة القادمة ستكون أكثر قرباً وتبنِّياً للقضية الفلسطينية، وقريبة من الرأي العام العربي؛ لأنها ستكون مهدَّدة بالتغيير إذا ابتعدت عن رغبات الشعوب. سيتغير الدور من تآمري كما كان في الماضي إلى مساند.

 ومن جانب آخر فإن الثورات لن تنحصر في تأثيرها على الجانب السياسي؛ بل إن أثرها سينعكس على قطاعات تنموية في الاقتصاد والتعليم وغيرهما من جوانب الحياة الأخرى، وبحسب وجهة نظره فإن هذا الأمر سيؤثر في عملية تقليص ميزان القوى بين طرفي الصراع، وهما: الوطن العربي من جانب و (إسرائيل) من جانب أخر؛ لأن الحكومات الجديدة ستكون مشغولة في إعادة بناء مجتمعاتها.

ويستبشر النعامي خيراً بعملية فك الحصار عن غزة بشكل جزئي، الذي جاء نتيجة ضغط الشارع المصري على الحكومة، ويقول: «إن هذا من ثمار الربيع العربي؛ فقد شهدنا عَلَم فلسطين يُرفَع في ميادين كثيرة، وهذا يعيد القضية إلى مكانها الصحيح في المحيط العربي والإسلامي، شهدنا وحدة للأمة خلف هذه الثورات وهذا يصبُّ في وحدة الموقف الإسلامي من القضية وقوة الدعم الموجَّهة للقضية».

ويضيف النعامي أن خياراً جديداً بدأ يظهر في الساحة الفلسطينية متأثراً بالربيع العربي، وهو أن الشارع الفلسطيني يتحدث عن البدء بمقاومة شعبية والتأني في خيار المقاومة المسلحة لمنح الثورة العربية فرصة لكي تثمر ويتشكل موقف إستراتيجي عربي واضح اتجاه القضية الفلسطينية.

إستراتيجية الهجوم:

إن الحَراك العربي يبشر بوحدة قريبة للأمة، وهذا يسهم في تغير أمور كثيرة في أنظمة الحكم الحالية، وشهدنا حالة التضامن مع الثورات في تونس وليبيا واليمن ومصر؛ وكأن الأمة بقلب واحد وصوت واحد كلها تؤيد المشروع السياسي نفسه؛ مشروعَ طُموحٍ يعيد لها مكانتها. ويرى مدير تحرير صحيفة السبيل الأردنية عاطف الجولاني أن هذا الحَراك يشكل نقطة تحوُّل في تاريخ الأمة الإسلامية ويؤسس لتشكيل نظام إقليميي جديد سيسهم في الإعلاء من شأن الشعوب ورسم ملامح المستقبل ونقل الأمة من الواقع السلبي الذي عاشته خلال العقود الماضية إلى الخريطة الدولية.

ويقول الجولاني: «أعتقد أن القضية الفلسطينية ستكون الرابح الأكبر لامتلاك الشعوب حريتها؛ لأنها ستعبِّر عن قناعاتها وتوجُّهاتها المؤيدة للشعب الفلسطيني والهادفة لإزالة الاحتلال. ربما يكون الحَراك الحالي قد صرف الأنظار عن القضية الفلسطينية قليلاً لكن حينما تكتمل الثورات سيكون التغير كبيراً».

ويشير إلى أن التغيير الحالي سيؤثر في المستوى الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، ويوفر للفلسطينيين مساندة سياسية عربية من قِبَل أنظمة الحكم الجديدة في المحافل الدولية.

ويرى كذلك أن الحكومات القادمة ستُجبَر على الإصغاء لمطالب الشعوب، وكذلك فإن ميادين التحرير ستضغط باتجاه تقديم تسهيلات للشعب الفلسطيني والمقاومة الفلسطينية، ولن نجد أحداً يقبل بأن يكون تآمرٌ على المقاومة الفلسطينية.

ويستذكر الجولاني اللقاءات التي عقدها عسكريون من حماس مع قيادات في الجيش المصري خلال جولات مفاوضات عدة، ويقول: «إنها أكدت تغير نظرة القادة المصريين إلى قطاع غزة، ومع اكتمال الثورة ستكون النظرة إلى حركة حماس: أنها قادرة على حماية الحدود بين مصر وقطاع غزة، وستكون العلاقة تعاونية بدلاً من العدائية التي أظهرها النظام السابق، وهذا سيؤثر على علاقات السكان وسيعزز الترابط الاجتماعي والاقتصادي بينهم».

ويتابع: «أودُّ الإشارة إلى نقطة مهمة في هذا الموضوع تتمثل في الفوز الذي يحققه الإسلاميون في الانتخابات، وهذا يبشر بأنه في المرحلة القادمة سيكون على العالم بأسره التعامل معهم على أنهم قوة مؤثرة، وهذا يجعل الدولة الغربية تدرك أن المعادلة تغيرت في الشرق الأوسط».

ويلفت الجولاني الانتباه إلى نقطة مهمة سوف تتأثر كثيراً - بحسب قوله - وهي مفهوم السلام مع (إسرائيل)، ويقول في ذلك: «الملاحَظ أن (إسرائيل) تنظر بعين القلق اتجاه التطورات في المنطقة؛ لأن الثورات ستغير مفهوم السلام في الفكر العربي الإسلامي، وكذلك تغيِّر الأنظمة من أنظمة كانت تتبنى رؤى سياسية تحافظ على بقاء (إسرائيل) إلى مبادرات وتوجهات تحمل عداء الشعوب لها وتطالب بإزالتها. والحديث يدور الآن في مراكز البحث الإسرائيلية حول الخطر المحدق بوجود (إسرائيل) وليس فقط تعرُّضها للخطر».

ويتابع: «أعتقد أنه بعد إتمام عملية التحول التي بدأت مع بداية الثورات العربية، فإن إستراتيجية السلام التي كان يتبناها بعض الناس ستسقط وسيطرح بديلاً عنها إستراتيجية المقاومة، وإستراتيجية الهجوم بدلاً من إستراتيجية الدفاع».

أعلى