حدود التعاون المشروع بين الأطياف أو الأحزاب المختلفة داخل البلد الواحد
بدايةً، هذا الموضوع لا
يقصَد به تلك الأحزاب والأطياف ذات المرجعية الإسلامية؛ التي تعددت اجتهاداتها
ورؤاها وبرامجها لتحقيق هدف واحد وأصيل؛ وهو سيادة الشريعة الإسلامية وتدشين نهضة
إسلامية شاملة في كافة مجالات الحياة، كما لا يقصد به أيضاً تلك الأحزاب والأطياف
التي لم تتبنَّ تلك المرجعية في برامجها وواقعها غير أنها لا تعاديها ولا تأخذ
موقفاً مناوئاً لها ومحرضاً عليها، وهي في الوقت نفسه تسعى لتحقيق أهداف وطنية متفَق
على مشروعيتها وأهميتها في النهوض بالأمة في نواحي الحياة المختلفة، إضافة إلى
دورها في محاربة الفساد والمفسدين، وليس لها أهداف وتوجهات خارجية مريبة تُلبِسها
لبوس الوطنية والشعارات الزائفة.
أقول: لا يقصد بهذا
الموضوع هذه ولا تلك باعتبار أن هذا التعاون بين هؤلاء وأولئك هو من بديهيات
السياسة الشرعية وحتميات المرحلة الراهنة، وكذلك هو من طبيعة فروض الكفايات التي
لا يسع كل أحد القيام بها جميعها؛ فيقوم ببعض ما يحسنه ويسعه القيام به، ويتعاون
مع غيره في ما لا يحسنه أو لا يسعه القيام به.
كما أنه بدون هذا التعاون
وذلك التنسيق يفتح الباب على مصراعيه لرموز الفساد وأعداء المشروع الإسلامي
والوطني لتحقيق مآربهم واستنساخ الأنظمة البائدة والفاسدة التي أضاعت البلاد
وأفسدت حياة العباد وعاثت في الأرض بكل صور الفساد.
بل إن مشروعية هذه
الأحزاب وتلك الجماعات والأطياف المختلفة تكون محل نظر إن لم تدرك هذه الحقيقة
نظرياً وتطبقها عملياً، وينال أصحابَها عندئذٍ نصيب وافر من قوله - تعالى - محذراً
من التشيع والتفرق في الدين : {وَلا تَكُونُوا مِنَ
الْـمُشْرِكِينَ 31مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُم وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ
حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم: 31 - 32].
كما أنهم يتهددهم التحذير
الوارد في قول النبي صلى الله عليه وسلم لحذيفة: «فَاعْتزِلْ تلكَ الفِرقَ
كُلَّهَا»[1].
ومما لا شك فيه أن
التعددية السياسية المشروعة لا تعني التشرذم، بل بينها وبين التشرذم والاحتراب
السياسي بون شاسع.
إذن مقصود الحديث إنما هو
عن حدود التعاون المشروع بين الأطياف صاحبة المرجعية الإسلامية، وبين تلك التي لم
تعلن صراحة قبولها بهذه المرجعية ابتداء، لكنها حسنة الرأي في الإسلام والمسلمين
ولا تقف موقفاً رافضاً للإسلام ومحارباً له.
ومما لا شك فيه أن أصول
الإسلام وقواعده وما تمهد من هديه صلى الله عليه وسلم القولي والعملي تدل على أن
الأصل العام في ذلك أنه لا إشكال في التعاون معهم في كل ما كان من جنس التعاون على
البر والتقوى: من محاربة الفساد ودفعه وتقليله، ورفع الظلم أو تخفيفه، والتصدي
لأنظمة القهر والاستبداد، ومناصرة لحقوق الإنسان، والسعي الحثيث لتحقيق العدل
الاجتماعي، والعمل على إحداث نهضة شاملة في المجتمع في كافة المجالات ونواحي
الحياة، والتعاون في ذلك مع سائر القوى الوطنية.
فهذا تؤيده قواعد
الشـريعة وكلام أهل العلم؛ والأصل في ذلك كله ما تمهد في قواعد الأصول من أن مبنى
الشـريعة تحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها، واحتمال المفسدة
المرجوحة تحصيلاً للمصلحة الراجحة، وأن الميسور لا يسقط بالمعسور، وأنه ما لا يدرك
كله لا يترك جلُّه.
بل قد قرر العلماء في
سبيل تحقيق المصالح الكلية أو دفع المفاسد الكبيرة أنه قد تجوز الإعانة على
المعصية لا من جهة كونها معصية؛ بل لما تتضمنه من دفع معصية أكبر، كما ندفع
الأموال إلى الكفرة نفتدي بها أسرانا من بين أيديهم، وقد أشار إلى هذا المعنى أئمة
العلم من قبل[2].
ولا شك أن صور التعاون مع
هذه الأطياف كثيرة ومتعددة ومتفاوتة، ويمكن أن يتجاوز هذا التعاون مجرد التنسيق في
بعض المواقف أو الاستعانة الجزئية إلى درجة التحالف مع بعض هذه القوى والكيانات
تحقيقاً لمصلحة أو دفعاً لمفسدة.
وقد تحالف النبي صلى الله
عليه وسلم مع خزاعة واستعان بهم في ما هو دون القتال[3]، وهذا يعطي دلالة قوية
على شرعية التحالف السياسي مـع المخالفين إذا اقتضت المصـلحة ذلك، دون التخلي عن
جـزء من هـذا الدين؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم يقبل حلف خزاعة دون شرط واحد؛ حيث
أظهر الموقف الثابت وَفْق خط الإسلام الذي لا يعين ظالماً، وإنما ينصـر المظلوم.
وتظهر شرعية التحالف
السياسي في هذا الصلح من خلال بنود ميثاقه، وهي من أقوى الأدلة على مشروعيته؛ حيث
جاء فيه: «أَنَّهُ مَنْ شَاءَ أَنْ يَدْخُلَ فِي عَقْدِ مُحَمَّدٍ وَعَهْدِهِ
دَخَلَ، وَمَنْ شَاءَ أَنْ يَدْخُلَ فِي عَهْدِ قُرَيْشٍ وَعَقْدِهَا دَخَلَ»؛ حيث
دخلت خزاعة حليفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت تحمل كل مودة وتعاون له،
وكانت خزاعة عَيبة[4] رسول الله صلى الله عليه
وسلم مسلمها ومشـركها، لا يخفون عليه شيئاً كـان بمكة، وفي المقابل كانت تحمل كلَّ
عداء لقريش[5].
قال ابن حجر: « وفيه جواز
استنصاح بعض المعاهدين وأهل الذمة إذا دلت القرائن على نصحهم، وشهدت التجربة
بإيثارهم أهل الإسلام على غيرهم، ولو كانوا من أهل دينهم، ويستفاد منه جواز
استنصاح بعض ملوك العدو استظهاراً على غيرهم، ولا يعد ذلك من موالاة الكفار ولا
موالاة أعداء الله، بل من قبيل استخدامهم وتقليل شوكة جمعهم، وإنكاء بعضهم لبعض،
ولا يلزم من ذلك جواز الاستعانة بالمشركين على الإطلاق »[6].
فالتحالف السياسي مع
المخالفين: من تشكيل كتلة لخوض الانتخابات البرلمانية أو نحوها، أو تحديد موقف
سياسي، أو تشكيل معارضة سياسية، أو التحالف على الإطاحة بنظام ظالم مستبد، فذلك
مما تشهد له أصول الشـريعة وقواعدها، وَفْق ضوابط شرعية استند إليها النبي صلى
الله عليه وسلم في تحالفاته.
وشرعية التحالف السياسي
لا تقتصر على وجود دولة للمسلمين؛ فهو مشـروع في كل مرحلة إذا اقتضت المصلحة ذلك؛
سواء كان بعد إقامة الدولة كتحالف النبي صلى الله عليه وسلم مع يهود المدينة
وخزاعة، أو في مرحلة الدعوة كتحالفه مع عمه أبي طالب، وشهوده لحلف الفضول، الذي
أثنى عليه بعد بعثته.
ولا شك أن الأمر في هذا
التحالف يحتاج إلى تفصيل ومحددات وضوابط، و اعتبار واقع هذه الجماعات، وطبيعة
الشعوب، واختلاف الظروف المعاصرة، ومن ذلك:
•
أن ما كان من هذه التحالفات على تحقيق أمر مشـروع، التقت مصلحة الجميع في تحقيقه:
كإسقاط طاغية أذل البلاد والعباد، أو دفع صائل، أو إخراج عدو داهم بلاد المسلمين
فجأة؛ فاستباح بيضتهم أو بصدد أن يفعل ذلك، ولم يتضمن التزاماً على الاتجاه
الإسلامي يغلُّ يده عن تبليغ دعوته أو إقامة دينه، فالأصل في هذا التحالف هو
الإباحة. ويبقى النظر بعد ذلك في دراسة جدواه ومدى ما يمكن أن يحققه من مصلحة أو
يدفعه من مفسدة، وفي ضوء نتيجة هذه الموازنة تكون الفتوى لصالح هذا التحالف أو
ضده؛ فهو إذن على هذا النحو مما يدور في فلك السياسة الشـرعية، وتتقرر شرعيته في
ضوء الموازنة بين المصالح والمفاسد والعبرة فيه لما غلب.
•
أما ما كان من هذه التحالفات على أمر غير مشروع: كالإعانة على الظلم، أو تدعيم نظم
الجور، أو إطالة أعمار السياسات غير الإسلامية، أو إضفاء مشـروعية زائفة على نظم
غير مشـروعة، أو إعطاء صبغة إسلامية مزورة لأعمال وممارسات غير إسلامية، أو تضمَّن
التزاماً يضـر بالمسلمين أو يغل يد الدعاة عن الصدع بالحق وإقامة الدين فهذا هو
التحالف الممنوع، الذي تظاهرت النصوص الجزئية والقواعد الكلية على رده[7].
كما يجب التأكيد على ألا
تكون في هذه التحالفات مع الأحزاب العَلمانية غير الغالية وغير المتطرفة موالاة
ولا تودداً لها، ولا تكون مناصرتها من أجل إعزازها ورفع شأنها، بل من أجل رفع
الظلم عن المسلمين فحسب[8].
ومن نافلة القول النصُّ
على عدم مشروعية التحالف مع الأحزاب العلمانية الغالية والمتطرفة التي ترفض
الإسلام جملة وتفصيلاً وتحاربه ولا يُختَلَف على كفرها؛ حيث إنه لا وجه للقول
بجدوى مثل هذا التحالف مع مثل هذه الأحزاب؛ حيث إن هذا يتناقض ويتنافى مع ما تقرر
من شروط الاستعانة بالمشـركين، أن يكون المستعان به مأموناً حسن الرأي في
المسلمين، فأما إذا لم يكن حسن الرأي في المسلمين، لم يُستعن به؛ لأن ما يخشى من
ضرره أكثر مما يرجى من نفعه[9].
ثم لا بد عند عقد
التحالفات من التأكد من كون المسلمين أقوياء يصعب احتواؤهم أو تذويبهم، وأنهم
قادرون على المحافظة على ذواتهم، فالتحالفات التي عقدها النبي صلى الله عليه وسلم
كانت شوكة المسلمين فيها ظاهرة، وهيمنة الإسلام متحققة.
ومما ينبغي استحضاره
والانتباه إليه أن التحالفات التي عقدها النبي صلى الله عليه وسلم مع الآخرين كانت
لتغطية منعطف كبير في حياة الجماعة المسلمة، فتحالفه مع أبي طالب كان لحماية
الدعوة والداعية، وحلفه مع اليهود في المدينة كان لحماية الدولة في بداية عهدها،
وحلفه مع قريش في الحديبية كان للاعتراف بالدولة المسلمة كقوة حقيقية على مساحة
الجزيرة العربية، والانطلاق بالدعوة نحـو آفاق عالمية خارج الجزيرة[10].
وأخيراً فإنه ينبغي
مراعاة أن حال الســعة والاختيار يختلف عن حال الشدة والاضطرار، وأن حالات القهر
والاستضعاف يسع الجماعة فيها ما لايسعها في حالة القوة والتمكين.
مع التأكيد على أن هذه
الموازنات حمَّالة ذات أوجه، وأنها من دقائق الفقه وحقائقه وأغواره؛ فهي مزلة
أقدام ومدحضة أفهام، ومن ثَمَّ فقد اختص بها أهل الحل والعقد من العلماء الربانيين
والدعاة العاملين عند غياب الإمام الشـرعي، وكذلك يرجع فيها إلى اجتهاد أهل
الاجتهاد والنظر من قادة تلك الجماعات والأحزاب الإسلامية، مع الأخذ في الاعتبار
مجموعة من الضوابط كما تقدم.
كما ينبغي التنبُّه إلى
أن هذه من المسائل التي يتغير مناط الحكم فيها، ومن ثَمَّ يتغير الحكم فيها تبعاً
لذلك؛ لأن حكمها جاء مرتبطاً بالضرورة أو الحاجة العامة التي تنزل منزلتها، أو
المنفعة الظاهرة المأمونة.
وعلى القائمين على الأمر
في التيار الإسلامي ممن يضطلعون - بحكم مواقعهم - بهذه الاجتهادات وتنتهي إليهم
مسؤولية البت فيها؛ ألا يستبدُّوا فيه بقرار قبل استفراغ الوسع في الشورى وطلب
النصيحة من كل قادر على إسدائها من أهل العلم وأهل الخبرة.
ويجب عليهم أن يدركوا
أنهم يعالجون أمراً يحدد مستقبل العمل الإسلامي ومستقبل الأمة كلها من ورائه،
ورُبَّ قرار راشد يُتخَذ في هذا المجال يقفز بالعمل الإسلامي سنوات إلى الأمام،
وعلى النقيض من ذلك رُبَّ قرار أهوج يجهض مسيرته ويرمي بها إلى الوراء بضعة عقود.
وكم من مغلِق لهذا الباب
بالكلية، وما درى أنه يعطل على الأمة كثيراً من المصالح الشـرعية! وكم من فاتح
لهذا الباب على مصراعيه وما درى أنه يُدخِل في دين الله ما ليس منه، ويميع القضية
الإسلامية ويدخلها في عالم المزايدات والمساومات!
واللهَ - عز وجل - نسأل
أن يجمع على الحق قلوب العلماء والدعاة، وأن يؤلف بين قلوب المسلمين وأن يجنبهم
الفتن وأسباب النزاع والشقاق والفشل؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه. وصلى الله وسلم وبارك
على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
[1] جزء من حديث صحيح،
أخرجه البخاري، كتاب الفتن، باب كيف الأمر إذا لم تكن جماعة (6/2595) ح (6673)،
ومسلم، كتاب الإمارة، باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين (3/1475) ح (1847).
[2] ينظر: قواعد
الأحكام للعز بن عبد السلام: (1/86).
[3] حديث تحالفه صلى الله عليه وسلم مع
خزاعة أخرجه البيهقي في السنن الكبرى، كتاب الجزية، باب نقض أهـــــل العهــــد أو
بعضهم العهـد: (9/390) ح (18859) من
حديث ابن إسحاق، وأصله في صحيح البخاري؛ كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد
والمصالحة مع أهل الحرب: (3/193) ح (2731).
[4] عَيبة الرجل: موضع
سره، والذين يأتمنهم على أمره، ينظر: غريب الحديث، أبو عُبيد
القاسم بن سلاّم (1/138)، مطبعة دائرة المعارف
العثمانية، حيدر آباد - الدكن، ط1 - 1384هـ - 1964م.
[5] ينظر: فتح
الباري: (5/337)، ونيل الأوطار: (8/188)،
والاستيعاب، لابن عبد البر: (3/1428).
[6] ينظر: فتح
الباري: (5/338).
[7] ينظر: التعددية
السياسية، د.صلاح الصاوي، ص141- 142،
وهل الإسلام هو الحل؟ د.محمد عمارة، ص92.
[8] ينظر: الاستعانة
بغير المسلمين في الفقه الإسلامي، د. عبد الله الطريقي، ص251.
[9] ينظر: مجموع
الفتاوى، ابن تيمية: (35/155)، والأم: (4/175)،
ومختصر المزني ص269 - 270، و الكافي في فقه
الإمام أحمد: (5/472)، وينظر ما تقدم، ص677 وما
بعدها، وص728 -730.
[10] ينظر: الفكر
الحركي بين الأصالة والانحراف، مصطفى الطحان, ص38 - 39،
والمشاركة في الحياة السياسية في ظل أنظمة الحكم المعاصرة، د.مشير
المصري ص311.