• - الموافق2024/05/03م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
أمريكا والصين: مآلات المواجهة الاستراتيجية الكبرى

الصين وحدها تُشكّل تحديًا جديًّا وجذريًّا لإعادة رسم الخرائط الدولية، على حساب هيمنة الولايات المتحدة والغرب، بما يفتح الطريق لبناء نظام دولي جديد.


يتابع الخبراء الاستراتيجيون وهيئات ومؤسسات صناعة القرار في العالم، حالة الصراع المتفاقمة بين الولايات المتحدة والصين، بقلقٍ يكبر مثل كرة الثلج. وفيما تشغل الحرب الأمريكية الروسية على الأرض الأوكرانية، دوائر الرأي العام؛ بسبب العمليات العسكرية وتصريحات الساسة وضجيج الدعاية السوداء عبر الإعلام؛ فالتركيز الحقيقي وتوقعات التغيير في الوضع الدولي كله، والخوف الكبير من احتمالات الحرب العالمية الثالثة، تتعلق بالصراع الاستراتيجي والمواجهة الكبرى بين الولايات المتحدة وحلفائها، من جهة، والصين، التي باتت أقرب إلى روسيا، من جهة أخرى. حتى إن هناك من الخبراء من يرى أن معركة أوكرانيا على ضخامة ما يجري فيها، ليست إلا معركة تمهيدية للمواجهة الكبرى المتوقعة على أبواب الصين.

ذلك أن الصين، وفق وقائع ومجريات التوازن الدولي، ووفق رؤية الولايات المتحدة ذاتها -وربما اعترافها- هي وحدها من تملك الإمكانيات الاقتصادية والتكنولوجيا المتقدمة والاحتياطيات المالية والطاقة الإنتاجية -إضافةً إلى القوة العسكرية المتنامية- التي تجعلها ندًّا للولايات المتحدة في الوقت الراهن، وقطبًا دوليًّا متفوقًا عليها مستقبلاً في كثير من المجالات.

الصين وحدها تُشكّل تحديًا جديًّا وجذريًّا لإعادة رسم الخرائط الدولية، على حساب هيمنة الولايات المتحدة والغرب، بما يفتح الطريق لبناء نظام دولي جديد. ولذا، يُوصَف الصراع بين الولايات المتحدة والصين بالصراع المباشر والحاسم بشأن النظام الدولي. أما المعركة الروسية الأمريكية على الأرض الأوكرانية، فهي في آخر حدود نتائجها -إلا إذا تحوّلت إلى حرب نووية- لا يمكن لها أن تُحْدِث تغييرًا في التوازنات الدولية الكلية -وإن كانت تمهّد له-؛ بسبب محدودية القدرات الاقتصادية الروسية وطبيعة الحرب وحدود أهدافها -المباشرة-، وهو ما يدفع كثيرًا من الخبراء-وأحدهم هنري كيسنجر- للقول بأنها حرب وصراع تمهيدي للمواجهة الكبرى بين الصين والولايات المتحدة.

ومع الوضع في الاعتبار أن الولايات المتحدة تعمد دومًا إلى تضخيم قوة خَصْمها، لتسهيل عمليات الحشد الدولي ضده، إلا أنه بالإمكان تقدير قوة هذه المواجهة وشدة تأثيرها على التوازنات الدولية المستقبلية، بالنظر في اختلاف القدرات الاقتصادية بين الصين والاتحاد السوفييتي خلال الحرب الباردة مع الولايات المتحدة والغرب. ففي أقصى درجات الصراع بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة، لم يتخطَّ إنتاج كل الدول المنضوية تحت عباءة الاتحاد السوفييتي حد نسبة 40% من إنتاج الولايات المتحدة وحدها. فيما الصين تنتج وحدها ما يقارب الإنتاج الأمريكي. كما تشير التقارير الدولية -الصادرة من البنك الدولي- إلى قرب تجاوز اقتصادها للاقتصاد الأمريكي خلال سنوات قليلة. وهو ما دفَع محللين غربيين للقول: إن الصين تمثل التحدي الأكبر للولايات المتحدة منذ القرن التاسع عشر.

وهو وضع مستقبليّ يجعل الولايات المتحدة متعجّلة في خطواتها وسعيها لتعميق الصراع مع الصين وتوسيعه، والدفع به إلى درجة سخونة أعلى لحسمه في أقرب وقت، فيما تبدو الصين في موقع الدولة المتريثة على صعيد ردود الفعل. حتى قيل: إن الصين تتحرك في المواجهة بعقل الدولة الكبرى الصاعدة الواثقة، في مواجهة دولة عظمى متراجعة تخشى اليوم التالي.

فلماذا تخشى الولايات المتحدة الصين؟ ولِمَ تعتمد تكتيكات هجومية في المواجهة معها؟ وما هي عوامل القوة والضعف لدى كلا البلدين، وما هي استراتيجيات المواجهة؟ وهل من خيارات أخرى غير الحرب؟

 

لماذا الصين وليس غيرها؟

تميزت تجربة النمو والتطور الصيني بعدة أمور لافتة؛ هي ذاتها -لا نتائجها فقط- ما يزيد القلق الأمريكي والغربي على مستقبل هيمنتهم على العالم.

لقد انتقلت الصين من وضعية بلد ضعيف يعاني من المجاعات، ومتهالك البِنَى التحتية ومتخلف على صعيد التكنولوجيا، إلى عملاق اقتصادي وتجاري وتكنولوجي وعسكري في نحو 40 سنة فقط. حققت الصين نموًّا اقتصاديًّا بمعدلات غير مسبوقة في التاريخ الحديث والمعاصر، وهو نموّ استمر طوال تلك السنوات دون تراجع أو انقطاع. وهو نمو اعتمد في فعالياته على القطاعات الإنتاجية في الاقتصاد -لا الاستهلاكية ولا الترفيهية ولا الريعية- بما جعل الصين تقفز لتصبح البلد الثاني اقتصاديًّا بعد الولايات المتحدة، متخطية كل الدول الكبرى ذات التاريخ الاقتصادي المسيطر على الاقتصاد الدولي، بما في ذلك تلك الدول التي كانت تحتل أجزاء من الصين ذاتها.

وهى ما تزال تنمو وتتطور بمعدلات تفوق معدلات النمو والتطور في الولايات المتحدة وأوروبا -رغم جائحة كورونا- بما يجعلها البلد المرشح ليصبح الدولة الأولى عالميًّا خلال بضع سنوات.

كما أن تجربة الصين في نشر نفوذها وتأثيرها الدولي لم تَجْرِ -كما هو الحال في التجارب الغربية- عبر الغزو بالسلاح وأعمال الحرب والاستعمار والاحتلال، بل من خلال التجارة والإقراض وعبر إقامة مشروعات البنية الأساسية في الدول الفقيرة التي استنزفها الاستعمار الغربي، وهو ما قلّل مساحات الاحتكاك العدائي بين الصين والدول والشعوب الأخرى، وسمح للصين بتنمية تجارتها وتوسع انتشار استثماراتها في مختلف مناطق العالم، دون صراعات سياسية في داخل المجتمعات المستهدَفة.

وقد وصلت الصين حدّ لعب الدور الأكبر في الاقتصاد الإفريقي على حساب الدول الأوروبية المسيطرة تاريخيًّا على القارة عسكريًّا واقتصاديًّا بل حتى ثقافيًّا، كما أصبحت الشريك التجاري الأول للاتحاد الأوروبي؛ إذ أزاحت الولايات المتحدة من احتلال تلك المرتبة في عام 2020م. وإذ جرى فرض العقوبات الغربية على روسيا في مختلف المجالات بعد الحرب الأوكرانية، فقد تحركت الصين وقدّمت نفسها بديلاً للتجارة الغربية مع روسيا. وشريكًا لها في العملية الجارية لتشكيل نظام مصرفي عالمي منفصل عن النظام الذي يهيمن عليه الغرب.

ويبدو لافتًا، ما تحمله التقارير والأخبار في الشهور الأخيرة، عن دراسة بعض المؤسسات الرسمية في الدول النفطية إمكانية ربط تسعير النفط وتصديره بالعملة الصينية بدلاً من الدولار الأمريكي، وهو ما سيُحدث تغييرًا كبيرًا على درجة قوة وهيمنة العملة الأمريكية، إن تم فعليًّا.

إن الصين بات لاقتصادها دور محوري في تشكيل وإدارة الاقتصاد الدولي، ولم يعد من السهل عزلها، وإلا حدثت اضطرابات كبرى في الاقتصاد الدولي، بل حتى في الاقتصاد الأمريكي نفسه، نظرًا لضخامة إنتاجها ولامتلاكها احتياطيات مالية ضخمة من العملة الأمريكية، ولما تحظى به عملتها الوطنية من موثوقية متصاعدة في التبادلات التجارية حول العالم.

والأخطر، أن الصين أصبحت متقدمة على الولايات المتحدة في بعض مجالات التكنولوجيا -خاصة الذكاء الصناعي وشبكات الإنترنت-، وأنها صارت تنافس الولايات المتحدة في مجالات الفضاء، وأصبحت منافسًا دوليًّا لها في تجارة السلاح المتطور، إلى درجة تمكُّنها من تغيير التوازنات بين الدول، وإضعاف قدرة الولايات المتحدة على إدارة الأزمات بين الدول لمصلحتها عبر التحكُّم في تجارة السلاح.

ويزيد من القلق الأمريكي أن الصراع يجري في بيئة دولية تعوق قدرة الولايات المتحدة على ضمان تحقيق النصر على الصين، دون خسائر كبرى.

فالمواجهة مع الصين تجري في ظل وضع دولي يشهد صعودًا وتناميًا في عوامل قوة العديد من الدول وليس الصين وحدها، وهو ما يعوق قدرة الولايات المتحدة على حَشْد أو تطويع إرادة تلك الدول للصراع ضد الصين، ويجعلها مُطالَبة بدفع أثمان كبرى من نفوذها وهيمنتها، فما لدى الصين من تنامي واكتساب معالم القوة الشاملة، وطلب إدخال تغييرات في الوضع الدولي على حساب الهيمنة الأمريكية، لم تعد ظاهرة مقتصرة على الصين؛ إذ يتكاثر عدد الدول التي تُمكّنها قدراتها وتتطلب مصالحها مدّ نفوذها إقليميًّا ودوليًّا، وبعضها لم يعد يفصل بينه وبين التمتع بقدر تمكُّنه من أداء دور على صعيد صناعة القرار في العالم -خصمًا من الدور الأمريكي- سوى بضع سنوات هي الأخرى، كما هو حال الهند وألمانيا والبرازيل وغيرها.

 

الاستراتيجية الأمريكية: الخنق والاختراق

بدأت الولايات المتحدة علاقتها الحديثة مع الصين في سبعينيات القرن الماضي، بتقديم حوافز تفضيلية لها لجذبها إلى صفّها في الصراع مع الاتحاد السوفييتي. وكانت القاعدة الذهبية المعتمدة في الفكر الأمريكي أن المشاركة في الاقتصاد -أو إدخال عناصر الاستثمار الغربي في داخل بنية الاقتصاد الصيني- ستُحْدِث تغييرًا عميقًا في السياسة الصينية، وأن التنمية الرأسمالية ستُمكّن الولايات المتحدة من اختراق المجتمع الصيني وتغييره. لكن الولايات المتحدة أفاقت، على نتائج مختلفة أو مناقضة لأهدافها؛ إذ انتهت الاستثمارات الأمريكية إلى تطوير الصين وتنميتها لتصبح منافسًا لها وأقرب إلى روسيا وريثة الاتحاد السوفييتي. وإن الصين وصلت إلى درجة تهديد الهيمنة الأمريكية على العالم في المدى الزمنى المتوسط، فتحولت السياسة الأمريكية من العلاقات التفضيلية والشراكة إلى الصراع والعداء للصين.

وقد بدأت الولايات المتحدة صراعها مع الصين منذ عدة سنوات، بحملة إعلامية مكثفة للتحذير من خطر صيني زاحف يهدد الهيمنة الأمريكية والغربية على العالم.

وقد بدأ الصراع الرسمي العلني والمباشر مع الصين خلال فترة حكم الرئيس ترامب -2016/2020م- بفرض جمارك مرتفعة على الواردات الأمريكية من الصين، وبشنّ حملة إعلامية وأمنية وتجارية على فروع التكنولوجيا التي بدأت الصين إحراز التفوق فيها على الولايات المتحدة، كما هو الحال مع شركة هاواوي الصينية التي تفوقت في مجال شبكات الاتصال. وكان الأشهر هو اتهام الصين بالتسبُّب في ظهور فيروس كورونا.

وبعد وصول بايدن للحكم -مطلع عام 2021م- تحركت الولايات المتحدة لتأجيج الصراع بين الصين وتايوان وبين الصين والهند واليابان، وبين الصين وبقية الدول المتشاطئة في بحر الصين الجنوبي. وتمكنت فعليًّا من تشكيل تحالفات أمنية واستراتيجية مع الدول الآسيوية في محيط الصين على قاعدة مواجهة الصين، باعتبارها دولة تهدّد حرية التجارة العالمية في آسيا؛ أهمها التحالف الذي يضم الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا (إيكوس)، والتحالف الذي يضم الولايات المتحدة واليابان والهند وأستراليا (كواد). وهو ما يُعظّم من قدرة الولايات المتحدة على المواجهة ويشتّت قدرة الصين بالمقابل.

ومن خلال متابعة الحركة السياسية أو التكتيكية للولايات المتحدة في مواجهتها مع الصين، يمكن القول بأن الولايات المتحدة اعتمدت خطة متعددة الاتجاهات ووفق نمط هجومي، وهو ما أظهرها بمظهر المتعجل في حسم نتائج الصراع.

ويمكن القول بأن استراتيجية الولايات المتحدة تقوم على إبطاء نمو الصين المتسارع وحصار تجربتها وإدخالها في مشكلات استراتيجية في الإقليم (الخنق)، وعلى اختراق الصين من الداخل عبر إنماء حالة التعادي بين المكونات العرقية والقومية وسكان المكونات الجغرافية في داخلها (الاختراق).

وإن الاستراتيجية الأمريكية هي استراتيجية هجومية؛ إذ تدرك الولايات المتحدة خطورة الوقت بالنظر لتقدم الصين المضطرد واختصارها الزمن في عملية تنمية قدرتها وإحرازها التفوق على الولايات المتحدة بسرعة وإلى درجة تمكنها من التحول إلى دولة عظمى خلال عدة سنوات. وهي استراتيجية تقوم على استغلال نقاط ضعف الصين.

وأول نقاط ضعف الصين، أنها وإن كانت قد بدأت التحرك كقوة دولية، إلا أنها لا تزال أقل قدرة في الحركة الصراعية على الصعيد الدولي من الولايات المتحدة التي تملك نفوذًا هائلاً على عدد كبير من الدول، وتنتشر قواعدها العسكرية في مختلف مناطق العالم. كما تسيطر على الممرات والمضايق البحرية وأعالي البحار والمحيطات في العالم.. إلخ. وهو ما يُمكّنها من السيطرة على طرق التجارة الدولية.

وثاني نقاط ضعف الصين أنها تعتمد في تنمية اقتصادها ونهضتها على التصدير. وهو ما يكبح قدرتها على إنماء الصراع وتصعيده حتى لا تتعطل حركة تجارتها الدولية، بل هي في حاجة لاستمرار ارتباطها التجاري بالولايات المتحدة -خصمها- التي تستورد نحو 21% من الإنتاج الصيني منذ عام 2021م.

وثالث نقاط ضعف الصين التي تعمل عليها الولايات المتحدة، هي الصراعات الحدودية والبحرية في محيط الصين، وهي صراعات تجري مع قوتين مرشحتين للعب دور دولي كبير، كما هو حال الهند واليابان. تلك الصراعات تفتح مساحة واسعة أمام الولايات المتحدة لإذكاء وتأجيج عداء هاتين الدولتين للصين.

ورابع نقاط ضعف الصين التي تعمل عليها الولايات المتحدة، هي طبيعة تركيب المجتمع الصيني؛ إذ يعيش في الصين نحو 56 قومية؛ أهمها قومية الهان المسيطرة. وبين تلك القوميات تناقضات وحروب وصراعات تاريخية -خاصة قوميتي الإيغور وسكان إقليم التبت المجاور للهند-، وهو ما يوفّر أرضية للفعل الأمريكي المستهدف إدخال عنصر التفكيك في المجتمع بما يسهل اختراقه. ويمكن اعتبار قضية تايوان إحدى قضايا الصراع والتفكيك الداخلي أيضًا.

 

الاستراتيجية الصينية: الاستثمار في الوقت

لا تزال الصين في مرحلة التعامل الحذر وضبط ردود الفعل في التعامل مع تصاعد الضغوط الأمريكية الحادة والمباشرة. وهو ما ظهر جليًّا خلال قيام رئيسة مجلس النواب الأمريكي بزيارة تايوان. لقد أظهرت تلك الزيارة ميل الصين لعدم توسيع وتأجيج المواجهة والاكتفاء بردود فعل تؤكد على ثوابت مواقفها ومصالحها أكثر من الدخول في صراع مفتوح ترى أنها تُستَدرج إليه، ولن يجري لمصلحتها في هذا التوقيت الذي لم تكمل فيه مسيرة نهضتها وقوتها. وذلك يظهر إدراك الصين لمكامن قوة الولايات المتحدة ومدى تفوقها على الصين، ويظهر أن الصين اختارت التحرك حول نقاط ضعف الولايات المتحدة، لا مواجهتها في نقاط قوتها.

وتظهر مراجعة مواقف الدولة الصينية وردود فعلها تجاه التحركات الأمريكية، أن استراتيجيتها الرئيسية تعتمد مبدأ حسم التفوق على الأرض فعليًّا، عبر أدوات الاقتصاد والتجارة والمال والتطور التكنولوجي وعبر إنماء التحالفات الدولية، وبناء القدرة العسكرية، دون الانجرار المتسرع لصراع عسكري مدمّر مع الولايات المتحدة أو أي من دول جوارها. وأنها تركّز حركتها على اكتساب معالم القوة الاستراتيجية بثبات وهدوء، بما يخصم من الرصيد الاستراتيجي للولايات المتحدة وحلفائها تدريجيًّا، دون دفع ثمن مقابل.

وفى ذلك يمكن القول بأنها تعتمد المبادئ الاستراتيجية للمفكر الصيني سون تسي القائلة: «عليك أن تستولي على دولة العدو دون أن تدمّرها، وفي الحرب عمومًا، السياسة الأفضل هي أن تستولي على الدولة بدون تدمير أو تخريب، وإن إخضاع العدو بدون حرب أفضل من كسب مائة معركة عسكرية».

كما يمكن القول بأن الصين تعمل وفق خطة إبقاء الجسور مفتوحة، وتخفيف حدة الاحتقان أو إطفاء النيران التي تُشعلها الولايات المتحدة حول حدودها. وعلى تشكيل طرق بديلة لاستمرار تجارتها خارج إطار السيطرة الأمريكية على المضايق والبحرية، كما هو الحال في إنشاء مشروع الحزام والطريق.

وإن الصين تدرك الأبعاد الزمنية في الخطة الأمريكية لمواجهتها، فإذا كانت الولايات المتحدة تستعجل خطوات الصدام، فالصين تدرك وجود فجوة بين تطلعات الولايات لإدخال حلفائها على صراعات مع الصين وإتمام هؤلاء الحلفاء قدرتهم على الدخول في الصراع الآن -اليابان والهند خاصة-، ولذا لا تتحرك بانفعال تجاه تشكيل الأحلاف ضدها. هي تدرك أن اليابان لم تحسم أمر بناء جيش عصري حديث وقوي يمكنها من مواجهة الصين، وإن الهند تعيش وضعية التركيز على بناء قوتها الذاتية لا الصراع مع الخارج.

كما تعمل الصين على إنماء أو بعث العداء التاريخي بين الولايات المتحدة وحلفائها (اليابان وبعض دول أوروبا أيضًا- وعلى تأجيج الصراع بين الولايات المتحدة وأطراف أخرى -روسيا مثالًا- دون أن تدخل في اشتباك مباشر. كما بدأت الصين حملات ممنهجة ضد الممارسات والحروب الأمريكية في مختلف أنحاء العالم.

وكذا تلعب الصين نفس لعبة التأثير على الأوضاع السياسية داخل الولايات المتحدة، سواء عبر إذكاء الصراع الداخلي بين الأعراق والقوميات داخل الولايات المتحدة، أو بالدخول على خط الصراعات الانتخابية بين الحزبين الرئيسيين في النظام الأمريكي.

وفى الاتجاه الرئيسي للحركة الاستراتيجية الصينية في تغيير التوازن الدولي، تسعى الصين لتأسيس أدوات مالية موازية لتلك التي تهيمن عليها الولايات المتحدة والغرب، وهو ما ظهر في تشكيل منظومات مالية بديلة لصندوق النقد والبنك الدولي، كما هو الحال في إنشاء البنك الآسيوي للاستثمار وبنك دول البريكس.

كما تسعى لتشكيل منظومات تحالفية مع الدول الأخرى الصاعدة في العالم، كما هو الحال في تشكيل مجموعة ميثاق شنغاهاي، ومجموعة دول البريكس.

هل هي الحرب؟

في صراع استراتيجي شامل مثل هذا الصراع المتنامي بين الولايات المتحدة والصين على القرار والنظام الدولي وإعادة تقسيم النفوذ، تبدو الحرب هي العنوان الأبرز في حسم الصراع. هذا ما جرى في التجارب التاريخية للصراعات التي استهدفت تحقيق ذات الأهداف، وآخرها الحرب العالمية الثانية.

لكن الحرب بين بلدين نوويين هي حالة خطيرة تهدّد البلدين بالتدمير الشامل، كما تدمّر البشرية جمعاء. وحتى الآن لم يَجْر ابتكار ما، يجعل طرف نووي قادرًا على القصف والتدمير لطرف آخر، دون أن يتلقى نفس الرد.

واذا كانت الولايات المتحدة قد استخدمت السلاح النووي مِن قِبَل ضد اليابان؛ فاليابان لم تكن تملك وقتها سلاحًا نوويًّا. وهو ما لا يمكن تطبيقه في حالة الصراع مع الصين التي تملك القدرة على إحداث تدمير مقابل. ويزيد من درجة قدرة الصين على إحداث تدمير شامل بالولايات المتحدة عبر تحالفها الاستراتيجي مع روسيا التي تملك العدد الأكبر من الرؤوس النووية دوليًّا. وهو ما يجعل خوض الولايات المتحدة حربًا ضد الصين حالة انتحار، وحالة حرب غير مسبوقة.

ولذلك لا يبدو احتمال الحرب بين الولايات المتحدة والصين مُرجَّحًا.

ومع عدم استبعاد هذا الاحتمال المجنون -نتيجة انزلاق الحرب إذا اشتعلت-؛ فالظاهر أن كلا طرفي الصراع حريص -على الأقل حتى الآن- على السيطرة على قرار المواجهة الاستراتيجية، وهو ما بدا في آخر قمة افتراضية بين رئيسي البلدين؛ إذ تعهدا بضمان أن لا تضل المنافسة بين بلديهما طريقها لتتحوَّل إلى صراع مفتوح. كما يبدو الأمر واضحًا كذلك من الإجراءات والاعتمادات التي اتخذها الرئيس الأمريكي للاستثمار في التعليم والبحث العلمي والتنمية الصناعية، بما يشير لاعتماد مبدأ المنافسة، لا الحرب.

وبذلك يمكن القول بأن الصراع بين البلدين سيقوم على أعمال الاستنزاف بالنقاط لا الحسم بالحرب العسكرية الشاملة، وسيجري عبر التكتيكات السياسية والاقتصادية وبناء التحالفات وإشعال الحروب غير المباشرة وأعمال التغيير الداخلي في الدول الحليفة لتعديل التوازنات الكلية بين الطرفين، وأن الصراع سيشهد حروبًا تجارية وحروب العملات ومنافسة على الموارد، وإثارة للاضطرابات والتوترات المجتمعية.. إلخ.

ويمكن القول أيضًا، بأن كلا البلدين أو أحدهما سيجد نفسه في مرحلة ما من الصراع -وبعد التعرض للإنهاك- أقرب للاتفاق مع الطرف الآخر على تقاسم المصالح على حساب الأطراف الدولية الأخرى.

 


أعلى