إن تحقيق التوحيد هو الأمر الذي من أجله أرسل الله الرسل، وأنزل الكتب، وانقسم الناس بسببه إلى أشقياء وسعداء، وخُلقت من أجله الجنة والنار، وقامت القيامة، ووُضعت الموازين، وأُقيم الحساب
الحمد لله الذي مَنَّ علينا ببعثة خاتم رسله، وأنزل عليه لنا أشرف كُتبه، وأكمل لنا
دينه، وأتم علينا نِعمته، ورضي الإسلامَ لنا دينًا، يقبله منا ويُثيبنا عليه.
أما بعد: فلعلوم التوحيد وعقائد الإسلام مكانة عليا، ولها آثار كبرى على النفس
والمجتمع والدين، فإن كمال كل نوع إنما هو بحصول صفاته الخاصَّة به، وصدور آثاره
المقصودة منه، وبحسب زيادة ذلك ونقصانه يَفْضُل بعض أفراده بعضًا، إلى أن يُعَدّ
أحدهم بألف:
ولم أرَ أمثال الرجال تفاوتت
إلى المجد حتى عُدَّ ألف بواحد
وقال آخر:
والناس ألف منهم كواحد
وواحد كالألف إن أمر عنى
فتفاضل الأنواع فيما بينها إنما يكون بحسب تفاضل منوعاتها
المستتبعة لخواصها وآثارها المقصودة منها.
والكمالات العلمية الدينية أرفع وأسنى الكمالات؛ إذ لا كمال للمسلم إلا بترقّيه في
معارف دينه، فأنفع المطالب حالًا ومآلًا، وأرفع المآرب منقبةً وكمالًا، وأكمل
المناصب مرتبةً وجلالًا، وأفضل الرغائب أُبهةً وجمالًا، هي المعارف الدينية،
والعلوم الربانية؛ إذ يدور عليها الفوز بالسعادة العظمى، والكرامة الكبرى، في
الآخرة والأولى.
وعلوم الشريعة متشعِّبة كثيرة، والإحاطة بجُملتها متعذّرة أو عسيرة؛ فالواجب على
العاقل الاشتغال بالأهم، وما فائدته على صاحبه وغيره أتم.
وتتبين أهمية علم التوحيد بأمور كثيرة، منها:
الأول:
إنه أشرف العلوم وأزكاها وأفضلها، فلا أشرف في علوم الدين من معرفة العبد بربه
-تعالى-؛ فعلم عقائد الإسلام هو أعلى العلوم شأنًا، وأقواها برهانًا، وأوثقها
بنيانًا، وأوضحها تبيانًا؛ فإنه قاعدتها وأساسها، وإليه يستند اقتناصها واقتباسها،
من الكتاب والسُّنة استمداده، وعلى نصوصهما الناصعة اعتماده.
فعِلْم التوحيد احتوى من أصول الدين وقواعده على أهمّها وأولاها، ومن شُعَبه
وفوائده على ألطفها وأسناها، ومن دلائله النقلية على أعمدها وأجلاها، ومن شواهده
العقلية على أفيدها وأجداها، كيف لا! وهو أصل الأصول، ومفتاح الثواب والقبول![1].
فله مكانته الخاصة بين علوم الشريعة، فالعلم يَعظم ويشرف ويبين فضله بحسب شرف
موضوعه وفضله وعظمته، وموضوع علم التوحيد هو البحث فيما يجب لله -تعالى- من توحيده
في عبادته وربوبيته وأفعاله وأسمائه وصفاته، ومعرفة توحيده وعظمته وجمال أسمائه
وجلال صفاته، وهذا أشرف موضوع على الإطلاق.
فشَرَف الذِّكر بشرف المذكور، وشرف العلم بشرف المعلوم؛ فكلما كان المعلوم أشرف كان
العلم به أشرف، فلما كانت ذات الله -تعالى- أشرف الذوات وأعظم المذكورات كان العلم
به -تعالى- أشرف العلوم، وكان ذِكْر الله أشرف الأذكار.
وبهذا تتفاوت بقية العلوم، ويمتاز بعضها على بعض.
الثاني:
إن الاشتغال بعلم التوحيد والتوصُّل إلى مزيد معرفة بالله -تعالى- وفهمِ كتابه
وأسرارِ كلامه، والسعيَ في تحصيل ذلك هو أشرفُ المقاصد وأعلى المطالب.
الثالث:
ترتُّب سعادة الدنيا والآخرة على تحقيق التوحيد؛ فلا صلاح للعباد ولا فلاح ولا نجاة
من تعاسة الدنيا وعذاب الآخرة إلا بمعرفته وتحقيق متطلباته؛ فإن خير الدنيا والآخرة
إنما هو من ثمرات هذا التوحيد وفضائله، فما من شيء له من الآثار الحسنة والفضائل
المتنوعة مثل ما للتوحيد، فهو طريق السعادة في الدنيا، والنجاة في الآخرة؛ قال
-تعالى-: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ
فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ
مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97].
الرابع:
إنه أوّل واجب على العبد وآخر واجب؛ فإن أول ما يجب على العبد هو التوحيد في
الألوهية والربوبية والأسماء والصفات، وهو آخر واجب يخرج به العبد من الدنيا، فهو
مفتاح الدخول الصادق في الإسلام، ومفتاح الخروج الآمِن من الدنيا، فقد كان أبو ذر
-رضي الله عنه- يمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم في حَرَّة المدينة عِشاءً؛ فذكَر
النبي صلى الله عليه وسلم أمورًا؛ منها قوله:
«ذاك
جبريل أتاني فقال: من مات من أُمّتك لا يُشرك بالله شيئًا؛ دخل الجنة»[2]،
وعن معاذ -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
«من
كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة»[3].
الخامس:
إنه هو الطريق لمعرفة الله، التي هي غاية المعارف وأفضل القُرُبات، فما تقرَّب
العباد لله بمثل تقرُّبهم بمعرفته -تعالى- على سبيل الكمال؛ فإن إيمان العبد يعظم
بحسب كمالها في نفسه، وتعظيمه لربه في قلبه بمحبته، ورجاء ما عنده، والخوف من عذابه[4].
فإذا كان تعظيم حرمات الله وشعائره لها مكانة عند الله، وأثر في نفس المعظِّم؛ فكيف
بتعظيم الله -سبحانه وتعالى-! قال -تعالى-: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ
اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [الحج: 30]، وقال -سبحانه-:
{ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ}
[الحج: 32].
السادس:
إن علم التوحيد هو علم الغاية مِن خَلق الخلق، وبه يتحقّق مقصد الوجود، كما قال
-تعالى-: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}
[الذاريات: 56]، وبفقده تفقد الحياة معناها وحقيقتها وغايتها، ويقترب الخلق من
حياة البهائم؛ {أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ
الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179]، {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ
يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ
سَبِيلًا} [الفرقان: 44]؛ فإن مقصود الوجود عبادة الله -تبارك وتعالى- وتوحيده،
وإثبات حقوق الألوهية والربوبية، وما يجب له -جل وعلا- من إثبات أسمائه وصفاته
وأفعاله.
السابع:
إن تحقيق التوحيد هو الأمر الذي من أجله أرسل الله الرسل، وأنزل الكتب، وانقسم
الناس بسببه إلى أشقياء وسعداء، وخُلقت من أجله الجنة والنار، وقامت القيامة،
ووُضعت الموازين، وأُقيم الحساب، وأُعلن الجهاد، قال -تعالى-: {وَلَقَدْ
بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا
الطَّاغُوتَ} [النحل: 36].
الثامن:
إن التوحيد حياة القلوب ولذة النفوس، وحاجة العباد له فوق كل حاجة، وضرورتهم إليه
فوق كل ضرورة، فهي أشد من حاجتهم إلى الطعام والشراب والهواء، فبهذه تكون حياة
الأبدان، وبالتوحيد تكون حياة الأرواح والقلوب، وشتَّان ما بين أهمية الحياتين؛ قال
-تعالى-: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا
يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ
مِنْهَا} [الأنعام: 122]. فأسعد الناس نفسًا وأهنأهم عيشًا أكملُهم توحيدًا
وإخلاصًا.
لهذا يجب على المُكلّف بَذْل الجهد التام في تعلُّم مسائله وتحقيق مقاصده:
1- لينجوَ بنفسه من معرّة الجهل به، وليفوزَ بكمال النعيم يوم القيامة.
2- لينجّي غيره ممَّن قد يقع بسبب الجهل في شرك أكبر أو أصغر، فيُحرم رأس النّعم أو
يُحرَم كماله.
3- لعلَّه أن يحظى بالانتظام في سِلْك المدافعين عن الإسلام وعقيدته بردّ الشبهات
وإثبات الحق؛ إذ فاقد الشيء لا يعطيه، فهذا الباب من أعظم أنواع الجهاد، قال
-تعالى-: {فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا}
[الفرقان: 52]؛ أي بالقرآن: بحُجَجه وبراهينه وأدلته، وقال -سبحانه-: {يَا
أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ
وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [التوبة: 73، والتحريم: 9]، ومن
المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجاهد أحدًا من المنافقين بالسلاح سوى
إقامة الحدود عليهم، وإنما هو جهاد الحجة والبرهان[5].
4- ليسهم في تصحيح التصورات الخاطئة عن الإسلام، والكون والحياة، وعلاقة بعضها
ببعض.
5- ليحقّق ما يُمكنه تحقيقه من غايات تعلُّم التوحيد؛ بتحقيق ما يترتب عليه من
فوائد جليلة طيبة وثمرات حميدة كبيرة، منها ما يعود على الدِّين نفسه، ومنها ما
يعود على الفرد، ومنها ما يعود على المجتمع بأكمله.
جعلنا الله من المحققين لتوحيده، الخاتمين حياتهم بكلمة الإخلاص (لا إله إلا الله).
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
[1] بتصرف، من مقدمة شرح المواقف 1/5، 6.
[2] أخرجه البخاري (1237)، مُبوّبًا عليه
«باب
ما جاء في الجنائز ومن كان آخر كلامه لا إله إلا الله»
ومسلم (94).
[3] أخرجه الإمام أحمد (22127)، وأبو داود (3118)، وصححه الألباني في صحيح الجامع
(6479).
[4] يُنظر: إتحاف المريد بمعرفة التوحيد للبريكان، ص11.
[5] يُنظر: تفسير ابن كثير 4/178، و6/116، .