إن الأموال والأولاد قد
تكون نعمة يسبغها الله على عبد من عباده؛ حين يوفِّقه إلى الشكر على النعمة،
والإصلاح بها في الأرض، والتوجه بها إلى الله؛ فإذا هو مطمئن الضمير، ساكن النفس،
واثق من المصير؛ فكلما أنفق احتسب وشعر أنه قدَّم لنفسه ذخراً، وكلما أصيب في ماله
أو بنيه احتسب؛ فإذا السكينة النفسية تغمره. والأمل في الله يُسَرِّي عنه.
وقد تكون نقمة يصيب الله
بها عبداً من عباده؛ لأنه يعلم من أمره الفساد والدخل؛ فإذا القلق على الأموال
والأولاد يحوِّل حياته جحيماً، وإذا الحرص عليها يؤرِّقه ويُتلِف أعصابه، وإذا هو
ينفق المال حين ينفقه في ما يتلفه ويعود عليه بالأذى، وإذا هو يشقى بأبنائه إذا
مرضوا ويشقى بهم إذا صحُّوا. وكم من الناس يعذَّبون بأبنائهم لسبب من الأسباب!
وهؤلاء الذين يملكون الأموال ويرزقون الأولاد، يُعجِب الناسَ ظاهرُها، وهي لهم
عذاب[1].
لقد قرن الله - سبحانه
وتعالى - في القرآن الكريم الأموال والأولاد في أربعة وعشرين موضعاً قُدِّمَت فيها
الأموال على الأولاد، وفي موضعين قُدِّمَ الأولاد على الأموال؛ فما الحكمة والسر
في ذلك؟
الحكم والأسرار المطلقة
لا يعلمها إلا الله - سبحانه وتعالى - ولكن سوف نذكر ما فتح الله به على بعض
المفسرين من حكم وأسرار.
الآيات
التي قرن الله فيها الأموال والأولاد وقُدِّمَت فيها الأموال على الأولاد:
رقم الآية
|
مكان النزول
|
السورة
|
الآية
|
46
|
ك
|
الكهف
|
{الْـمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْـحَيَاةِ الدُّنْيَا}
|
55
|
ك
|
المؤمنون
|
{أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ}
|
88
|
ك
|
الشعراء
|
{يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ}
|
14
|
ك
|
القلم
|
{أَنْ
كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ}
|
34
|
ك
|
الكهف
|
{فَقَالَ
لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالا وَأَعَزُّ نَفَرًا}
|
39
|
ك
|
الكهف
|
{إِنْ
تَرَنِي أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالا وَوَلَدًا}
|
77
|
ك
|
مريم
|
{أَفَرَأَيْتَ
الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالا وَوَلَدًا}
|
21
|
ك
|
نوح
|
{رَبِّ
إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلا
خَسَارًا}
|
6
|
ك
|
الإسراء
|
{وَأَمْدَدْنَاكُمْ
بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا}
|
64
|
ك
|
الإسراء
|
{وَشَارِكْهُمْ
فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ}
|
20
|
م
|
الحديد
|
{اعْلَمُوا
أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ
بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ}
|
12
|
ك
|
نوح
|
{وَيُمْدِدْكُمْ
بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ}
|
69
|
م
|
التوبة
|
{كَانُوا
أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالا وَأَوْلادًا}
|
35
|
ك
|
سبأ
|
{وَقَالُوا
نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالا وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ}
|
28
|
م
|
الأنفال
|
{وَاعْلَمُوا
أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ
أَجْرٌ عَظِيمٌ}
|
37
|
ك
|
سبأ
|
{وَمَا
أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى}
|
9
|
م
|
المنافقون
|
{يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ
ذِكْرِ اللَّهِ}
|
15
|
م
|
التغابن
|
{إِنَّمَا
أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ}
|
11
|
م
|
الفتح
|
{شَغَلَتْنَا
أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا}
|
10
|
م
|
آل عمران
|
{إِنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ
مِنَ اللَّهِ شَيْئًا}
|
116
|
م
|
آل عمران
|
{إِنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ
مِنَ اللَّهِ شَيْئًا}
|
55
|
م
|
التوبة
|
{فَلا
تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ}
|
85
|
م
|
التوبة
|
{وَلا
تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ}
|
17
|
م
|
المجادلة
|
{لَنْ
تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا}
|
وقفات مع الآيات:
المال والبنون زينة
وتفاخر في الحياة الدنيا:
قال - تعالى -: {الْمَالُ
وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}،
وقال - سبحانه -: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ
الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي
الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ}، وقال - تعالى -: {أَنَا
أَكْثَرُ مِنْكَ مَالا وَأَعَزُّ نَفَرًا}،
وقال - تعالى -: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا
وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالا وَوَلَدًا}.
قال القرطبي – رحمه الله
-: (إنما كان المال والبنون زينة الحياة الدنيا؛ لأن في المال جمالاً ونفعاً، وفي
البنين قوة ودفعاً، فصارا زينة الحياة الدنيا)[2].
وقال السعدي – رحمه الله
-: (أخبر - تعالى - أن المال والبنين، زينة الحياة الدنيا؛ أي: ليس وراء ذلك شيء،
وأن الذي يبقى للإنسان وينفعه ويسرُّه: الباقيات الصالحات)[3].
فالمال والبنون زينة
الحياة، والإسلام لا ينهى عن المتاع بالزينة في حدود الطيبات. ولكنه يعطيهما
القيمة التي تستحقها الزينة في ميزان الخلود ولا يزيد.
إنهما زينة ولكنهما ليستا
قيمة؛ فما يجوز أن يوزَن بهما الناس ولا أن يقدَّروا على أساسهما في الحياة؛ إنما
القيمة الحقة للباقيات الصالحات من الأعمال والأقوال والعبادات[4].
الأموال والأولاد
استدراج وإملاء للكافرين ليزدادوا إثماً:
قال - تعالى -: {أَيَحْسَبُونَ
أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ ٥٥ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي
الْـخَيْرَاتِ بَل لاَّ يَشْعُرُونَ} [المؤمنون: ٥٥ - 56]،
وعـن قتــادة – رحمـه اللــه - قــال: (مُكِـرَ - والله - بالقوم في أموالهم
وأولادهم فلا تعتبروا الناس بأموالهم وأولادهم ولكن اعتبروهم بالإيمان والعمل
الصالح)[5].
وذلك لأنهم استخدموا
أموالهم وأولادهم لأجل الطغيان والاستكبار عن الحق؛ كما قال - تعالى -: {أَنْ
كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ}، وأغروا بهما الناس
وصدُّوهم عن سبيل الله؛ كما قال - تعالى -: عن قوم نوح {وَاتَّبَعُوا
مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلا خَسَارًا}،
فذكر أنهم أهل أموال وأولاد؛ إيماءً إلى أن ذلك سبب نفاذ قولهم في قومهم وائتمار
القوم بأمرهم؛ فأموالهم إذا أنفقوها لتأليف أتباعهم، وأولادهم أرهبوا بهم من
يقاومهم، والمعنى: واتَّبعوا أهل الأموال والأولاد التي لم تزدهم تلك الأموال
والأولاد إلا خساراً؛ لأنهم استعملوها في تأييد الكفر والفساد فزادتهم خساراً إذ لو
لم تكن لهم أموال ولا أولاد لكانوا أقل ارتكاباً للفساد[6].
الأموال والأولاد
اختبار وامتحان في الدنيا:
قال - تعالى -: {وَاعْلَمُوا
أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ
عَظِيمٌ}:
هذا تنبيه على الحذر من
الخيانة التي يحمل عليها المرءَ حبُّ المال؛ وهي خيانة الغلول وغيرها؛ فتقديم
الأموال لأنها مظنة الحمل على الخيانة في هذا المقام.
وعطف الأولاد على الأموال
لاستيفاء أقوى دواعي الخيانة فإن غرض جمهور الناس في جمع الأموال أن يتركوها
لأبنائهم من بعدهم.
وجَعْلُ نفس (الأموال والأولاد)
فتنة لكثرة حدوث فتنة المرء من جراء أحوالهما؛ مبالغة في التحذير من تلك الأحوال
وما ينشأ عنها، فكأن وجود الأموال والأولاد نفس الفتنة.
وعطف قوله: {وَأَنَّ
اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} على قوله: {أَنَّمَا
أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} للإشارة إلى أن ما عند
الله من الأجر على كفِّ النفس عن المنهيات هو خير من المنافع الحاصلة عن اقتحام
المناهي لأجل الأموال والأولاد[7].
والفتنة: هي البلاء
والمحنة؛ لأنهم يوقعون في الإثم والعقوبة، ولا بلاء أعظم منهما.
وقد شاهدنا مَنْ ذكر أنه
يشغله الكسب والتجارة في أمواله حتى يصلي كثيراً من الصلوات الخمس فائتة.
وقد شاهدنا من كان
موصوفاً عند الناس بالديانة والورع، فحين لاح له منصب وتولاَّه، استناب من يلوذ به
من أولاده وأقاربه، وإن كان بعض من استنابه صغير السن قليل العلم سيئ الطريقة.
ونعوذ بالله من
الفتن. وقُدِّمت الأموال على الأولاد لأنها أعظم فتنة[8].
والفتنة ليست مذمومة في
ذاتها؛ لأن معناها اختبار وامتحان، وقد يمر الإنسان بالفتنة وينجح؛ كأن يكون عنده
الأموال والأولاد، وهم فتنة بالفعل فلا يغرُّه المال؛ بل إنه استعمله في الخير،
والأولاد لم يصيبوه بالغرور بل علمهم حمل منهج الله، وجعلهم ينشؤون على النماذج
السلوكية في الدين؛ لذلك فساعةَ يسمع الإنسان أي أمر فيه فتنة فلا يظن أنها أمر
سيئ؛ بل عليه أن يتذكر أن الفتنة هي اختبار وابتلاء وامتحان، وعلى الإنسان أن ينجح
مع هذه الفتنة؛ فالفتنة إنما تضر من يخفق ويضعُف عند مواجهتها.
والكافرون لا ينجحون في
فتنة الأموال والأولاد، بل سوف يأتي يوم لا يملكون فيه هذا المال، ولا أولئك
الأولاد؛ وحتى إن ملكوا المال فلن يشتروا به في الآخرة شيئاً، وسيكون كل واحد من
أولادهم مشغولاً بنفسه.
إن الكافر من هؤلاء يخدع
نفسه ويغشُّها، ويغتر بالمال والأولاد وينسى أن الحياة تسير بأمر من يملك الملك
كلَّه، إن الكافر يأخذ مسألة الحياة في غير موقعها؛ فالغرور بالمال والأولاد في
الحياة أمر خادع؛ فالإنسان يستطيع أن يعيش الحياة بلا مال أو أولاد. ومن يغتر بالمال
أو الأولاد في الحياة يأتي يوم القيامة ويجد أمواله وأولاده حسرة عليه، لماذا؟
لأنه كلما تذكَّر أن
المال والأولاد أبعداه عما يؤهله لهذا الموقف فهو يعاني من الأسى ويقع في الحسرة.
ويقول الحق - سبحانه - عن
هذا المغتر بالمال والأولاد وهو كافر بالله: {وأولئك
أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}،
وهذا مصير يليق بمن يقع في خديعة نفسه بالمال أو الأولاد[9].
إن فتنة الأموال والأولاد
عظيمة لا تخفى على ذوي الألباب؛ إذ أموال الإنسان عليها مدار معيشته وتحصيل رغائبه
وشهواته، ودفع كثير من المكاره عنه؛ من أجل ذلك يتكلَّف في كسبها المشاقَّ ويركب
الصعابَ ويكلفه الشرع فيها التزامَ الحلال واجتنابَ الحرام ويرغِّبه في القصد
والاعتدال، ويتكلَّف العناء في حفظها، وتتنازعه الأهواء في إنفاقها، ويفرض عليه
الشارع فيها حقوقاً معيَّنة وغير معيَّنة: كالزكاة ونفقات الأولاد والأزواج وغيرهم.
وأما الأولاد فحبُّهم مما
أودع في الفطرة؛ فهم ثمرات الأفئدة وأفلاذ الأكباد لدى الآباء والأمهات، ومن ثَمَّ
يحملهما ذلك على بذل كل ما يستطاع بذله في سبيلهم: من مال وصحة وراحة.
فحب الولد قد يحمل
الوالدين على اقتراف الذنوب والآثام في سبيل تربيتهم والإنفاق عليهم وتأثيل الثروة
لهم، وكل ذلك قد يؤدي إلى الجبن عند الحاجة إلى الدفاع عن الحق أو الأمة أو الدين،
وإلى البخل بالزكاة والنفقات المفروضة والحقوق الثابتة، كما يحملهم ذلك على الحزن
على من يموت منهم بالسخط على المولى والاعتراض عليه إلى نحو ذلك من المعاصي: كنوح
الأمهات وتمزيق ثيابهن ولطم وجوههن... وعلى الجملة ففتنة الأولاد أكثر من فتنة
الأموال؛ فالرجل يكسب المال الحرام ويأكل أموال الناس بالباطل لأجل الأولاد.
فيجب على المؤمن أن يتقي
الفتنتين، فيتقي الأُولَى بكسب المال من الحلال وإنفاقه في سبيل البر والإحسان،
ويتقى خطر الثانية من ناحية ما يتعلق منها بالمال ونحوه بما يشير إليه الحديث. ومن
ناحية ما أوجبه الدين من حُسْن تربية الأولاد وتعويدهم الدين والفضائل وتجنيبهم
المعاصي والرذائل[10].
وقال السمرقندي - رحمه
الله -: (إنما ذكر الأموالَ والأولادَ؛ لأن أكثر الناس يدخلون النار لأجل الأموال
والأولاد، فأخبر الله - تعالى - أنه لا ينفعهم في الآخرة؛ لكيلا يفني الناس
أعمارَهم لأجل المال والولد؛ وإنما ذكر الله - تعالى - الكفار، لكي يعتبر بذلك
المؤمنون)[11].
فعلى العاقل أن يعتبر
بالآيات ولا يغتر بكثرة الأعداد من الأموال والأولاد وعدم اجتهاده؛ لمعاده فإن
الله يمتِّعه قليلاً ثم يضطره إلى عذاب غليظ[12].
الأموال والأولاد
قد تُقعِد المسلم عن العمل لدين الله:
إن الأموال والأولاد قد
تقعد الناس عن الاستجابة خوفاً وبخلاً. والحياة التي يدعو إليها الإسلام حياة
كريمة، لا بد لها من تكاليف، ولا بد لها من تضحيات؛ لذلك يعالج القرآن هذا الحرص
بالتنبيه إلى فتنة الأموال والأولاد - فهي موضع ابتلاء واختبار وامتحان -
وبالتحذير من الضعف عن اجتياز هذا الامتحان، ومن التخلف عن دعوة الجهاد وعن تكاليف
الأمانة والعهد والبيعة؛ واعتبار هذا التخلف خيانة لله والرسول، وخيانة للأمانات
التي تضطلع بها الأمة المسلمة في الأرض؛ وهي إعلاء كلمة الله وتقرير ألوهيته وحدَه
للعباد، والوصاية على البشرية بالحق والعدل ومع هذا التحذير التذكير بما عند الله
من أجر عظيم يرجح الأموال والأولاد، التي قد تُقعِد الناس عن التضحية والجهاد[13].
فإذا انتبه القلب إلى
موضع الامتحان والاختبار، كان ذلك عوناً له على الحذر واليقظة والاحتياط؛ أن
يستغرق وينسى ويخفق في الامتحان والفتنة. ثم لا يدعه الله بلا عون منه ولا عوض...
فقد يضعف عن الأداء بعد الانتباه؛ لثقل التضحية وضخامة التكليف وبخاصة في موطن الضعف
في الأموال والأولاد؛ إنما يلوِّح له بما هو خير وأبقى، ليستعين به على الفتنة
ويتقوى: {وَأَنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ}.
إنه - سبحانه - هو الذي وهب الأموال والأولاد... وعنده وراءهما أجر عظيم لمن
يستعلي على فتنة الأموال والأولاد، فلا يقعد أحد إذن عن تكاليف الأمانة وتضحيات
الجهاد[14].
ومن أجل ذلك حذَّر الله
المؤمنين من الاشتغال بالأموال والأولاد عن ذكره فقال: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ
ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}
خص الأموال والأولاد بتوجُّه النهي عن الاشتغال بها اشتغالاً يلهي عن ذكر الله؛
لأن الأموال مما يكثر إقبال الناس على إنمائها والتفكير في اكتسابها؛ بحيث تكون
أوقات الشغل بها أكثر من أوقات الشغل بالأولاد. ولأنها كما تشغل عن ذكر الله بصرف
الوقت في كسبها ونمائها، تشغل عن ذكره أيضاً بالتذكير لكنزها؛ بحيث ينسى ذكر ما
دعا الله إليه من إنفاقها.
وأما ذكر الأولاد فهو
إدماج؛ لأن الاشتغال بالأولاد والشفقة عليهم وتدبير شؤونهم وقضاء الأوقات في
التأنس بهم من شأنه أن ينسي عن تذكُّر أمر الله ونهيه في أوقات كثيرة فالشغل بهذين
أكثر من الشغل بغيرهما.
وفيه أن الاشتغال
بالأموال والأولاد الذي لا يلهي عن ذكر الله ليس بمذموم[15].
وهنا تساؤل:
لماذا قُدِّمَ في سورتي
آل عمران والتوبة البنون على الأموال؟
قال - تعالى - في آل
عمران: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ
مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْـمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ
وَالْفِضَّةِ وَالْـخَيْلِ الْـمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْـحَرْثِ ذَلِكَ
مَتَاعُ الْـحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْـمَآبِ}
[آل عمران: 14]، وقال في التوبة: {قُلْ إن كَانَ
آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ
وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ
تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي
سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي
الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 24].
الجواب:
لـمَّا يذكر - سبحانه -
الحبَّ الفطري يؤخر الأموال؛ لأن الأموال تترك للأبناء؛ يعمل ويكد ويعلم أنه ميت
ويترك الأموال للأبناء.
أما في مواطن
الإلهاء قدَّم الأموال على الأولاد مع أن حُبَّ الأولاد أكثر لكن الالتهاء
بالمال يكون أكثر؛ لذا قدَّم الأموال على الأولاد للتحذير.
قال ابن حيان - رحمه الله
-: (لـمَّا كان المال في باب المدافعة والتقرب والفتنة أبلغ من الأولاد قُدِّم ،
بخلاف قوله - تعالى -: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ
حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَآءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَـاطِيرِ
الْمُقَنطَرَةِ}؛ فإنه ذكر هنا حُبَّ الشهوات، فقدَّم فيه
البنين على ذكر الأموال)[16].
وهنا تساؤل
أيضاً: هل طلبُ المال والولد مذمومٌ لما يحدث من وجودهما من آفات ومفاسد؟
الجواب:
إن سنة الأنبياء والفضلاء
التحرز في الدعاء بطلب الولد: فهذا زكريا - عليه الصلاة والسلام - تحرَّز فقال: {رَبِّ
هَبْ لِي مِن لَّدُنكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ}
[آل عمران: 38]، وقال: {وَاجْعَلْهُ رَبِّ
رَضِيًّا} [مريم: ٦].
وتحرَّز إبراهيم فقال: {رَبِّ
هَبْ لِي مِنَ الصَّالِـحِينَ}. [الصافات: 100]
وتحرز المؤمنون فقالوا: {وَالَّذِينَ
يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ
أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إمَامًا}
[الفرقان: 74] .
وتحرز الرسول صلى الله
عليه وسلم في دعوته لأنس بن مالك - رضي الله عنه - فدعا له بالبركة في ماله وولده
فقال: «اللَّهُمَّ أَكْثِرْ مَالَهُ وَوَلَدَهُ وَبَارِكْ لَهُ فِي مَا
أَعْطَيْتَهُ»[17].
والولد إذا كان بهذه
الصفة كان نَفْعاً لأبويه في الدنيا والآخرة، وخرج من حد العداوة والفتنة إلى حد
المسرة والنعمة.
وهكذا فليتضرع العبد إلى
مولاه في هداية ولده، ونجاته في أُولاَه وأُخرَاه اقتداءً بالأنبياء - عليهم
الصلاة والسلام - والفضلاء.
وآخر دعوانا أن الحمد لله
رب العالمين.
[1] الظلال: 3/ 1666.
[2] القرطبي: 10/ 413.
[3]
السعدي: 479.
[4]
الظلال: 4/ 2272.
[5]
الدر المنثور: 10/ 582.
[6]
التحرير والتنوير: 29/ 192.
[7]
التحرير والتنوير: 9/ 79.
[8]
البحر المحيط: 8/ 209.
[9]
الشعراوي: (1142).
[10]
تفسير المراغي: 9/ 196.
[11]
بحر العلوم: 1/ 221.
[12]
روح البيان: 1/ 12.
[13]
الظلال: 3/ 1497.
[14]
الظلال: 3/ 1497.
[15]
التحرير والتنوير: 28/ 225.
[16]
البحر المحيط: 2/ 295.
[17]
البخاري: بدء الوحي، ( 6378).