• - الموافق2024/12/04م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
اللغة العربيـة الحلقة الأهم في الهوية الإسلامية

إن من الحقائق التي اتفق عليها كثير من روَّاد الحركة اللغوية «أن الألسنة البشرية تتغيّر مع الزمن بالضرورة، وتغيُّرها يُفْضِي إلى انسلاخ صور لها بعضها من بعض حتى تفارق على التدرج هيئتها الأولى كليًّا»


يُواجه العلم اختلافًا حاصلًا في قضية علاقة اللغة بفطرة الإنسان، وعلاقتها بالناحية العقلية عنده في درجة الأهمية، وحجم الخطورة عن الحديث حول علاقة اللغة بهوية الإنسان؛ وذلك حين تكون العلاقة بالذات الثقافية وشخصية الأمة، الشاملة للمعتقدات والتصورات، والخصوصيات الشعبية، والجذور القومية، التي تخصُّ كل أمة على حدة، فالثقافة تعني لكل أمة: أفكارها وقِيَمها، وعاداتها، وأنماط سلوكها، وطريقة حياتها في مختلف جوانب نشاطها الإنساني، وهي عند الأمة الإسلامية تعني: نهج حياتها في جميع جوانبها المختلفة؛ حيث تتكون -في التصور الإسلامي- من عنصرين أساسين؛ الأول: الشكل، وتمثله اللغة، والثاني: المضمون، ويمثله الإسلام.

ومن هنا يظهر الارتباط الوثيق بين اللغة العربية من جهة، والدين الإسلامي من جهة أخرى؛ «فالدين واللغة منذ النشأة الأولى متداخلان تداخلًا غير قابل للفصل»؛ ولهذا فإن علاقة المسلم العربي بلُغته أكبر بكثير من علاقة غيره بلُغته، بل إن علاقة المسلم غير العربي باللغة العربية -وإن كان لا يُجيدها- أبلغ وأوثق من علاقته بلُغته الأصلية التي يُتقنها، فكما أن اللغة برموزها ومفاهيمها خاصية إنسانية، يتميز بها الإنسان عن الحيوان، فكذلك نوع اللغة أيضًا خاصية شعوبية، تميز الأمم بعضها عن بعض؛ فاللغة ليست مجرد أداة للتواصل والتفاهم فحسب؛ وإنما هي -بالدرجة الأولى- أداة للتعبير عن الثقافة، حين تعكس مضامينها وأنماطها للعالم، وذلك حين تستمد مضامينها وموضوعاتها المختلفة من ثقافة المجتمع؛ فتحفظ له بأمانة جميع ودائعه الثقافية.

 ولهذا لا يمكن تعلُّم لغة ما «إلا من خلال الثقافة والحضارة التي أوجدَتها؛ فاللغة بمعناها الأوسع ما هي إلا تعبير عن مَدَنية، ووعاء لتراث حضاري»؛ فهي المسؤولة عن حفظ هذا التراث ورعايته ونَقْله؛ فالمتعلم للغة ما لا بد أن يدرك البيئة التي تفرضها تلك اللغة، فيتعلم من ثقافتها، ويُعبّر -أيضًا- عنها بصورة من الصور؛ «فاللغة جزء من الثقافة، والثقافة جزء من اللغة، لا تنفصل إحداهما عن الأخرى، ومِن ثمَّ فإن اكتساب لغة أجنبية يعني اكتساب ثقافة أجنبية».

أو بعبارة أخرى: «إن تعلُّم ثقافة ثانية -بما تحتويه من تنوُّع- ليس إلا جزءًا من تعلم اللغة الثانية»، ولا يمكن للمتعلم بلوغ أغوار لغة من اللغات حتى يبلغ أعمق ينابيع عبقريتها؛ بحيث يتخطَّى ذاته إلى الآخرين، محمَّلًا بدرجة عالية من التعاطف الذي يُسقط شخصيته على شخصية الآخر، فيتعلم اللغة الثانية ممتزجة بثقافة أهلها، ويتعلم معها أنواع الاتصال الأخرى الخاصة بهم، والمتعلقة بالثقافات الأممية؛ مثل: الإشارات الجسمية، والمسافة بين المتحدثَيْنِ، والنظرة بالعين، واللمس، ونحوها من متعلقات الخصوصيات الثقافية، التي تختلف من أُمَّة إلى أخرى، إضافة إلى أساليب التعبير عن السلوكيات الأخلاقية المتعلقة بأساليب استخدامات اللغة؛ فاللغة العربية -مثلًا- حين تُعبِّر عن العورات تتلمَّس أفضل الأساليب وأقربها إلى الأدب والستر، في حين لا تستحي اللغة اللاتينية من التعبير عنها بصِيَغ مكشوفة مُبتَذلة؛ فالمتعلم للغة الجديدة لا يستطيع أن يَعزلها عن مضمونها الثقافي؛ إذ إن جوهر اللغة اجتماعي، فلا بد أن يعيش تجربتها بالكامل، ممتزجًا بها؛ حتى يستطيع أن يتفوق فيها، فقد «أكَّدت الدراسات الميدانية أن الدارس الذي لا يحترم حضارة اللغة التي يتعلمها لن يستطيع التقدم في تعلم هذه اللغة». وبناء على هذا ندرك بوضوح أن تعلم لغة جديدة أمر في غاية التعقيد؛ لأنه «ثمة عوامل كثيرة جدًّا، تربطها علاقات داخل كيان واحد متشعّب، يصعب أن نضع أيدينا داخله على نوع من النظام».

متانة العلاقة بين اللغة والهوية

وقد أدرك المستعمر الأوروبي هذا المعنى الأصيل في العلاقة بين اللغة والهوية؛ حيث قال الحاكم الفرنسي موجِّهًا جيشه الغازي لبلاد الجزائر: «علِّموا لُغتنا وانشروها حتى نحكم الجزائر، فإذا حكمتْ لُغتُنا الجزائرَ: فقد حكمناها حقيقة». ولعل هذا المغزى من المستعمر الفرنسي هو الذي قصده المسلمون زمن عافيتهم، وازدهار لغتهم، في العصر العباسي، في إمرة المتوكل، سنة 240 للهجرة، حين منعوا أهل الذمة من تعلم اللغة العربية - لغة العلوم والمعارف في ذلك العصر-، وألزموهم بلغاتهم القومية الخاصة، مما دفَع كثيرًا منهم -بطريق غير مباشر- لاعتناق دين الإسلام.

وبالرغم من الفارق في الاتجاه بين الأسلوبين؛ فإن الغاية واحدة، حيث ارتبطت اللغة بالهوية هذا الارتباط الوثيق، الذي يمكن أن ينتج عنه الانصهار في الآخر، مما قد يؤدي إلى تبديل الهوية بالكلية، وقد كشفت بعض الدراسات عن وجود علاقة قوية، وجاذبية خاصة بين هجرة الأدمغة العربية إلى أوروبا وأمريكا وبين استخدامهم اللغة الأجنبية التي تتحدَّث بها هذه البلدان الغربية، ومن المعلوم -من الجهة النفسية- أن الأمور المشتركة بين الناس تُعدّ وسيلة جيدة للتواصل فيما بينهم، سواء قصد هؤلاء التواصل فيما بينهم أو لم يقصدوا، واللغة -بلا شك- أعظم أداة للتواصل الإنساني؛ ولهذا كثيرًا ما ترتبط المساعدات الخارجية الممنوحة من بعض الدول المتقدمة بفرض اللغة الأجنبية.

وقد أدركت الأمم على اختلاف أصولها وأقاليمها هذا المعنى الخاص للغة، والدور الخطير الذي تقوم به في حفظ الهوية الذاتية للأمة، ولا سيما في أجواء الواقع الثقافي العالمي المعاصر، الذي يَميل نحو الانفتاح الفكري والثقافي واللغوي، ويفرض على الأمم واقعًا حضاريًّا عالميًّا محرجًا، يحمِّل كلَّ أُمّة مسؤولية المحافظة على هويتها وخصوصيتها، مما دفع الدول -ولا سيما المتقدمة منها- نحو اتخاذ التدابير الكفيلة للمحافظة على شخصيتها المميزة لها، وحماية هويتها الخاصة بها من الذوبان.

وقد حظيت اللغات القومية في هذه الدول بالنصيب الأوفر من الاهتمام والرعاية، ولا سيما لغة التربية والتعليم؛ فقد كانت قرارات الدول المتقدمة حاسمة وقوية في وجوب التعليم باللغة القومية لجميع العلوم، وفي جميع المراحل التعليمية، وبخاصة المراحل الأولى من التعليم؛ فقد أدركوا أن «الاهتمام باللغة الأجنبية شيء والتدريس بها شيء آخر؛ ففي الأول انفتاح على الثقافة والعلوم، واطلاع على الحضارة الأجنبية، وفي الثاني قَهْر للغة الأم، وإهانة لحرية الوطن واستقلاله».

ولعل هذا المعنى الخاص للغة، وخطر تأثيرها على هوية الأمة هو الذي دفَع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ليوجّه المسلمين حين انفتحت الأمة المسلمة على ثقافات الأمم الأخرى بعد الفتوحات الإسلامية؛ حيث قال لهم: «إياكم ورطانة الأعاجم».

وهذا المعنى أيضًا للتأثير اللُّغوي هو الذي دفع المسلمين في الزمن الأول نحو ترجمة العلوم الأجنبية التي احتاجوا إليها من لغاتها الأصلية إلى اللغة العربية، فكانت العربية هي لغة المنهج ولسان التعامل بين المسلمين، وهو المعنى أيضًا الذي دفَع بعض دول أوروبا لاشتراط تعلُّم لغاتها القومية على الأجانب المهاجرين إليها، فليس بغريب في كثير من الدول الأوروبية التي لا تتحدَّث باللغة الإنجليزية أن يجد السائح الأجنبي صعوبة في التفاهم مع أهلها باللغة الإنجليزية.

 لقد أدركت الأُمم -من خلال التجربة ووقائع التاريخ- أن «اللغة -أيَّة لغة- قابلة للنمو والاتساع، وَفقًا لنمو الأمة التي تتحدث بتلك اللغة»، فبقدر الاهتمام الذي تحظى به اللغة القومية من أهلها، وبقدر الرعاية التي تلقاها منهم؛ تثبت هذه اللغة بين اللغات الأخرى، وتنتشر منافِسةً لغيرها، سواء كان ذلك على مستوى العالم أجمع، أو على مستوى الأقاليم المختلفة.

الصراع الدولي حول التمكين للغات القومية

وليس شيء أدلَّ على هذا من واقع اللغة الإنجليزية؛ فمنذ أن قررت الولايات المتحدة الأمريكية تبنّيها لغة رسمية لها حتى سعت في نشرها، وربطها بالعلوم والمعارف، فحين كان أبناء هذه اللغة في بداية القرن التاسع عشر الميلادي واحدًا وعشرين مليونًا فقط، أصبحوا في بداية القرن العشرين مائة وخمسة وعشرين مليونًا، وهم اليوم ضعف هذا العدد أو أكثر، ومن يتحدثون بها من غير أبنائها خلقٌ كثيرٌ لا يكاد يُحْصَى، وهي لا تزال في اتساع وانتشار مستمر، ولا سيما في زمن العولمة؛ حيث تفرض نفسها اليوم لغةً للناس كافة، على الرغم من أن الذين يتحدثون بها باعتبارها لغة أصلية لهم لا يزيدون عن 7.6% من سكان العالم حسب إحصائيات عام 1992م، ومن المعلوم أن «من أساسيات العولمة نَشْر اللغة الواحدة، وجَعْلها لغة العالم الأولى، وإيهام البشر أن العلم، والمعرفة، والإبداع، والاختراع، والخير، والحضارة، والسبق، والفوز لا يكون إلا لمن رطَن باللغة الإنجليزية، ودرَّس العلوم والاختراعات بلغتها دون سواها»؛ مما دفع كثيرًا من الدول التي لا تتحدث بها -ولا سيما المتقدمة منها- للدفاع عن هويتها وذواتها في مواجهة هذا المد اللُّغوي الثقافي الأمريكي؛ حيث تتصدر فرنسا دول أوروبا في مواجهة هذا الغزو الفكري الآتي من جهة الغرب، وتتخذ حياله كل الإجراءات الكفيلة بحماية لغتها وثقافتها من الانهيار أو الذوبان، ومن لطائف ما يُنقَل عن حماس الفرنسيين للغتهم، وافتخارهم بها: ما نقلته مجلة المقتطف عن الممثلة الفرنسية سارة برنار، التي عاشت في نهاية القرن التاسع عشر الميلادي؛ حيث تقول: «فقد اجتزت البحار، وتجشّمت الأسفار، حاملة فنِّي على منكبي، ولغة بلادي في فمي، فغرستها في كبد اللغات الأجنبية، وهذا فخري وشرفي».

ولقد كان قرار الدول المعتزة بلغاتها وقومياتها حاسمًا في وجوب تعليم جميع العلوم الأجنبية المستوردة بلغة البلد القومية؛ من خلال تنشيط عملية الترجمة، فنجحت إلى حد كبير الدول المتحمِّسة في ذلك مثل: فرنسا وروسيا، وكذلك الصين واليابان وفيتنام؛ رغم الصعوبة الشديدة التي تكتنف طبيعة لغاتهم، بل وحتى الكيان الصهيوني المحتل لأرض فلسطين، الذي استمات في المحافظة على لُغته العبرية، فقد نجح -هو الآخر- إلى حد كبير في إحياء لغته من خلال التوسُّع في استخدامها، وتدريسها في جميع المراحل التعليمية، وترجمة العلوم والمعارف إليها، وتقريبها من مراكز الحضارة والمدنية، بعد أن كادت تُصنَّف ضمن اللغات التاريخية المَتْحفيَّة؛ حيث أخذ الكيان الصهيوني يدرّس بها العلوم والمعارف، ويبثّها في الحياة حتى أصبحت الآن لغة الشارع العام في الأرض المحتلة.

 ولعل التجربة اليابانية مع العلوم والمعارف الأجنبية من أقوى التجارب الحديثة على إمكانية المشاركة في صناعة النهضة الحضارية العالمية مع الإبقاء على الخصوصية الثقافية واللغوية للقومية اليابانية؛ ففي أواخر القرن التاسع عشر الميلادي زمن محمد علي، حين قرّر المصريون التدريس في المعاهد باللغة الإنجليزية؛ أصرَّ اليابانيون على ضرورة التدريس باللغة اليابانية، وترجمة العلوم والمعارف الأجنبية إليها، فما إن حلَّ عام 1907م حتى كان 97% من الشعب الياباني متعلمًا، وكانت نسبة الحاصلين على الشهادة الابتدائية عام 1910م مائة بالمائة، ثم تتابعت إنجازاتهم العلمية، ومشاريعهم الحضارية، ضمن سلسلة من النجاحات الباهرة، مقابل إخفاق عربي عام في جميع الميادين العلمية، وتدنٍّ واضح في نِسَب المتعلمين. ولم تكن -في كل ذلك- اللغة الأجنبية عاملًا في نهضة اليابان الحديثة، بل إن الثابت أن شعب اليابان -في العموم- يعاني ضعفًا في اللغة الإنجليزية، والمتعلم الياباني يتأخر ترتيبه بين طلاب الدول الآسيوية إلى المرتبة الثامنة عشرة في اختبارات مهارات اللغة الإنجليزية، ولم توضع قضية تعليمها للبحث والدراسة عند المختصين -باعتبارها لغة أجنبية- إلا ضمن مقترحات خطة اليابان للقرن الواحد والعشرين الميلادي، بعد ظهور مفهوم العولمة، وما ترتب عليه من الانفتاح الثقافي العالمي، وحاجة الياباني المثقف بصورة عاجلة في هذا الظرف الحضاري إلى كثير من المعلومات المتوافرة باللغة الإنجليزية.

 إن هذه الصورة الموجزة للصراع الدولي حول التمكين للغات القومية لا يبعد أن تكون وراء سعي بعض الفلاسفة لإيجاد لغة عالمية لجميع الناس، ينتهي بها هذا الصراع والتنافس بين الشعوب، ولعل من ثمار هذا السعي وضع لغة «الاسبيرنو»، التي ابتكرها البولوني لودوفيك زامنهوف؛ لتكون لغة عالمية تخدم جميع الناس، وقد أصدرت عصبة الأمم عام 1932م تقريرًا أوصت فيه باستخدام هذه اللغة للمخاطبات الدولية، وقد نُشرت بالفعل بعض التقارير الدولية بهذه اللغة المبتكرة.

ومع ذلك لم يُكتب لهذه اللغة النجاح والبقاء؛ لأن اللغة في حسِّ الدول وشعوبها أكثر من مجرد أداة للاتصال والتفاهم؛ إذ هي هويات الأمم وخصوصياتها الثقافية والاجتماعية والروحية، وهي تاريخها وحضارتها، وهي أيضًا رمز وحدتها، وسرُّ بقائها ودوامها؛ ولهذا كان التنافس بين الشعوب، واحتدام الصراع فيما بينها يتجاوز الميادين العسكرية والسياسية والاقتصادية، ليصل إلى الميادين المعنوية المتعلقة بالهوية الذاتية والشخصية، التي تمثلها اللغة القومية أبلغ تمثيل؛ من خلال المحافظة عليها نقية، وحمايتها من الذوبان في غيرها، ونقلها بقوة وأمانة للأجيال الجديدة.

ولقد ثبت واقعيًّا أن اندثار اللغة القومية لأُمَّة ما: هو اندثار ذاتها وغياب شخصيتها وحقيقة وجودها، ولا أدلَّ على ذلك من حال الهنود الحمر في القارة الأمريكية حين غزاهم المهاجرون الأوروبيون، فعملوا فيهم عسكريًّا وثقافيًّا حتى أفقدوهم لغتهم، وبالتالي ذاتيتهم وهويتهم الخاصة، وكذلك ما حصل في أوروبا وأمريكا بحقّ الرقيق السُّود، المجلوبين من إفريقيا؛ إذ لم يبقَ لهم مِن جميع أصولهم وخلفياتهم إلا ما تَفرضه الوراثة من الأشكال والألوان.

ولقد استوعب المستعمر الأوروبي هذا الدرس حين غزا بلاد المسلمين؛ فعمل بدأب منذ نهاية القرن التاسع عشر الميلادي على فصل المسلمين عن تراثهم الإسلامي، حين سعى إلى إضعاف اللغة العربية، من خلال فرض اللغة الأجنبية، والترويج للهجات العامية، وبثّ الأدب الشعبي، وطرح فكرة استخدام الحرف اللاتيني، والدعوة لإصلاح قواعد اللغة العربية وتطويرها، آخذين في كل ذلك بتوصيات جَمْع من المستشرقين المتخصصين في شؤون الشرق الإسلامي، ومستخدمين عملاءهم في البلاد العربية لتنفيذ مخططاتهم الاستعمارية الخطيرة، التي تستهدف في الظاهر اللغة العربية، وفي الحقيقة تستهدف هوية الأمة الإسلامية في تراثها وحضارتها، وخصوصياتها الثقافية، حين أيقن المستعمر أن اللغة ركن من أركان الهوية الثقافية، تشترك مع العقيدة والتراث في بناء الذات، ففي هدمها هدم للذات.

معاناة اللغة العربية من أزمات حادة عبر تاريخها

 ولقد عانت اللغة العربية أزمات حادة عبر تاريخها الماضي، بدأت بفساد مَلَكَة الطبع عند الناطقين بها، حين خالطهم الأعاجم بلكناتهم بعد الفتوح الإسلامية، فأدخلوا عليهم اللحن؛ من خلال السماع للنطق الفاسد، ومن المعلوم أن السمع هو أبو المَلَكَات اللسانية، فإذا اعتاد المرء سماع اللحن: قبله واعتاد عليه، فلم ينفر منه.

ثم عانت اللغة العربية بعد ذلك من الهجمات الشعوبية، ودعواتها إلى لغاتها الإقليمية والمحلية، ثم هي اليوم تتعرض إلى ما هو أشد وأعنف في ظل مفاهيم المعاصَرَة، التي «تقوم على أن للعصر الحالي خصائص واحدة تربط أهل الأرض جميعًا، وبهذه الخصائص تُقاس عصرية الجماعات المختلفة، ومدى جدارتهم بالعيش في هذا الزمان، أو مدى تخلُّفهم». وهذه المفاهيم للمعاصرة لا يمكن أن تتوافق -بحال من الأحوال- مع نوع الهوية التي تحملها الأُمة لا في مضمونها الإسلامي، ولا في شكلها اللُّغوي؛ إذ إن المُعاصَرَة -بهذا المفهوم الاستعماري- لا تعدو أن تكون شكلًا من أشكال ذوبان الذات في الآخر، وتشكيل الشخصية العربية الإسلامية في قوالب جديدة مستوردة، والأصل «أنَّ التنمية الذاتية تحتّم تشجيع الهوية الثقافية؛ إذ لا يمكن أن تقوم تنمية ذاتية على أنماط ثقافية، وأساليب حياة مستمدة من ثقافات خارجية».

إن هذه الهجمة الشرسة على اللغة العربية حين تعاضدت مع عوامل أخرى: سعت للتقليل من شأنها، وإضعاف حضورها أمام اللغات الحية في العالم، ولا سيما أمام اللغة الإنجليزية بصفة خاصة؛ ففي الوقت الذي لا يبلغ نصيب اللغة العربية الحد الأدنى على الأقل من المعلومات التي تمر عبر الطرق الإعلامية السريعة: تستحوذ اللغة الإنجليزية على (80%) من هذه المعلومات، وتقدّمها بصورة سريعة للراغبين.

وفي ميدان تعريب المصطلحات والألفاظ الجديدة الحديثة فإن اللغة العربية في هذا العصر تُواجه يوميًّا خمسين مصطلحًا ولفظة جديدة في حاجة إلى تعريب، مما يُوقع المتخصصين في حرج شديد أمام هذا الاجتياح اللُّغوي العنيف، الذي يدفع بهم دفعًا نحو المؤخرة، ضمن طوابير الحواشي والتابعين، في واقع حضاري متسارع لا يعترف بالمتقاعسين والمتخاذلين، من الذين استسلموا للواقع، وآثروا الراحة على مشقة الترجمة والتأصيل، حتى أصبحت اللغة العربية في كثير من الجامعات العربية لغة ثانية، ولا سيما في تدريس العلوم والمعارف الطبيعية والتطبيقية والطبية، وتمكنت -في مقابل ذلك- اللغات الأجنبية من غزو «حياة الإنسان العربي باستيلائها على معظم الوظائف والأدوار الحيوية التي كان من المفروض أن تؤديها اللغة القومية».

وفي الجانب الآخر أخذت الدعوة إلى «العامية» سبيلها إلى عقول كثير من المثقفين العرب، ولم تَعُد تُسْتغرَب المجاهَرة بالدعوة إلى تعليم اللغات الأجنبية في المراحل التعليمية الأولى؛ فكثر على اللغة العربية الهجوم من اللغات الأخرى، ومن العامية، ومن التوجُّه الحداثي، ومن المستشرقين، ومن غيرهم؛ حتى أصبح ضعف مستواها عند التلاميذ من الجنسين بيِّنًا لا يَخْفى، والخطأ فيها مقبولًا لا يُستنكَر، وهذا الوضع المتأزم يُنذر باحتمال انعزالها التام عن الحياة العلمية، وبالتالي خطر الانقراض، والضياع بالكلية، فإن احتمال اندثار اللغة واضمحلالها، وانصراف أهلها عنها أمر معلوم وواقع مشهود في الحضارات الإنسانية المتعاقبة، فقد بادت لغات كثيرة مثل: البابلية، والآشورية، والسومرية، والآرامية، والفرعونية، بل وحتى اللاتينية التي كانت ملء العين والبصر في بداية النهضة الأوروبية؛ فلم تعد في هذا الوقت موضع اهتمام أهلها ورعايتهم.

وقد أشارت بعض الدراسات إلى أن خمسة عشر ألف لغة كانت موضع تداول الناس في بداية القرن العشرين الميلادي، فمازالت في تناقص وذوبان مستمرين حتى نهاية القرن؛ إذ لم يبق منها سوى خمسمائة لغة مستخدمة، منها ثلاثمائة لغة في خطر، ومن المتوقع أن تستخدم دول العالم في العقود المقبلة من القرن الواحد والعشرين الميلادي اثنتي عشرة لغة فقط، سيكون منها -حسب التوقعات- ست لغات واسعة الانتشار.

ما مصير اللغة العربية في المستقبل؟

وعلى فرض صحَّة الأرقام والتوقعات المستقبلية لمصير كثير من اللغات المستخدمة اليوم: فما هو مصير اللغة العربية في المستقبل ضمن هذه التوقعات الخطيرة إذا استمرت في انعزالها الحضاري؟ وهل سوف تكون ضمن اللغات المُعرَّضة للخطر؟ وهل سوف تتغير طبيعتها عما هي عليه؟

إن من الحقائق التي اتفق عليها كثير من روَّاد الحركة اللغوية «أن الألسنة البشرية تتغيّر مع الزمن بالضرورة، وتغيُّرها يُفْضِي إلى انسلاخ صور لها بعضها من بعض حتى تفارق على التدرج هيئتها الأولى كليًّا»، ولئن كانت اللغة العربية في أصلها اللُّغوي محفوظة بحفظ الله -تعالى- للقرآن الكريم، كما وعد -سبحانه وتعالى- بقوله: { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]، فإن أقلَّ ما يمكن أن يحصل مستقبلًا -إذا استمر واقع اللغة العربية متأخرًا حضاريًّا- هو مزيد من الضعف والغياب أمام اللغات الحية الأخرى؛ بحيث يقلّ اهتمام أهلها بها، حين يرونها مرتبطة بالهوية والأصالة والتراث فحسب، في الوقت الذي يرون فيه بعض اللغات الأجنبية الحية قد ارتبطت بالعصرنة والحداثة والحضارة، وهو أثر -ولا شك- له انعكاساته الخطيرة على موقفهم من لغتهم، وبالتالي موقفهم من هويتهم العربية الإسلامية، وانتمائهم الحضاري، مما قد يسوق الأمة -تحت ضغط الواقع والحاجة- إلى فرض اللغة الأجنبية على المؤسسات التعليمية، بحيث تستأثر بنصيب وافر من فرص التعليم عبر مراحله المختلفة، وتصبح على قدم المساواة مع اللغة العربية، فيقع -بالضرورة- في خَلَد المتعلمين الصغار، منذ باكورة حياتهم: أهمية اللغة الأجنبية، وتساويها مع لغتهم الأم، وبالفعل فقد ربطت الولايات المتحدة مساعداتها التعليمية الأخيرة لمصر بشروط كان من بينها: البدء بتعليم اللغة الإنجليزية من السنة الثانية الابتدائية، ولا شك أن هذا القرار يحمل خطر «تشرُّبهم لقيم ثقافة أجنبية خلال مرحلة مهمة من نشأتهم، تشرُّبًا ما أحراه أن يؤثر في ولائهم لأُمتهم، ومواقفهم من المشاركة في نضالها لتحقيق أهدافها!».

 ولا يبعد -بعد ذلك في مرحلة قادمة- أن تقلّ نسبة الأطفال الذين يتكلمون العربية، كما حصل في بعض البلاد العربية، وعندها تكون اللغة مهدَّدة بالانقراض، ومن المعلوم عند الباحثين المتخصصين أن اللغة التي لا يتحدث بها إلا البالغون دون الصغار: هي لغة سبيلها الزوال، ومصيرها الانقراض، كحال بعض الحيوانات والنباتات التي تنقرض وتزول من الوجود، ولا يستطيع الناس فِعْل شيء لها.

جهود كبيرة للنهوض باللغة العربية

وعلى الرغم من الواقع المؤلم لحجم حضور اللغة العربية بين اللغات الحية الأخرى، وما قد يترتب مستقبلًا على هذا الواقع الخطير من ضياع الهوية العربية الإسلامية؛ فإن جهودًا كبيرة مضنية، وتجارب جادة، على المستوى الجماعي في البلاد العربية، وعلى المستوى الفردي أيضًا، قامت بهدف النهوض باللغة العربية، بحيث تكون لغة التدريس في جميع المراحل التعليمية، وكذلك لغة العلم في جميع التخصصات العلمية، ولا سيما العلوم التقنية الحديثة، فقد نصَّت الاتفاقية الثقافية التي صدرت عن الحكومات العربية عام 1946م على: «الوصول باللغة إلى تأدية جميع أغراض التفكير والعلم الحديث، وجعلها لغة الدراسة في جميع المواد في مراحل التعليم في البلاد العربية»، وفي عام 1949م صدر عن مؤتمر العالم الإسلامي قرارٌ تاريخيٌّ: «بوجوب اعتبار لغة القرآن لغة عامة للمسلمين في جميع أنحاء العالم، والعمل على نَشْرها، وكتابة لغات العالم الإسلامي بخط النسخ العربي».

 ثم أعقب ذلك في أعوام مختلفة صدور توصيات متعددة، عبر جمع من المؤتمرات والندوات العلمية المتخصصة؛ تُلِحّ بضرورة اعتماد اللغة العربية لغةً لجميع العلوم والمعارف، وفي جميع المراحل التعليمية.

وبالرغم من أن كثيرًا من هذه التوصيات والنداءات لم تجد صداها -بصورة كافية- لدى كثير من المؤسسات التعليمية في البلاد العربية والإسلامية؛ فإن جهود بعض الرُّواد المدافعين عن اللغة العربية، وإصرارهم على ضرورة تدريس جميع العلوم بها، بما في ذلك العلوم الحديثة؛ أثمرت في ترجمة كثير من الكتب العلمية المتخصصة إلى العربية، ودُرِّست بالفعل كثيرٌ من العلوم الطبيعية والتطبيقية والطبية ونحوها بالعربية، حتى إن الجامعة الأمريكية في بيروت -في أول أمرها- درّست العلوم الطبيعية والطبّ باللغة العربية، وكان بعض المستشرقين من أعضاء هيئة التدريس بهذه الجامعة ممن يجيد العربية يدرس بها هذه العلوم الحديثة.

مما يدل على مقدرة اللغة العربية على استيعاب ونقل العلوم الحديثة؛ إلا أنها في حاجة إلى نهضة أبنائها وذوي السلطان في الأُمَّة لاتخاذ التدابير الكافية والكفيلة بإعادة تأهيل اللغة العربية من جديد لموقع الصدارة والريادة في جميع الميادين العلمية؛ التطبيقية منها والنظرية. 

ولا ينبغي استهجان مثل هذا الأمل على لغةٍ كان لها إنجازها الحضاري عبر قرون متعاقبة؛ أثبتت من خلالها قدرتها المتفوقة على الاستيعاب الكامل -وصفًا وتوليدًا-، ومِن ثمَّ حفظًا ونقلًا. وكيف يُستغرب مثل هذا التفوق للغة العربية في الوقت الذي تمكّنت فيه الجامعات التركية من تدريس أنواع العلوم الحديثة المختلفة باللغة التركية؟ على الرغم من أنها لغة إقليمية محدودة، لا تندرج ضمن مصافّ اللغات الواسعة الانتشار، وليس فيها من المميزات المتفوقة التي تتمتع بها اللغة العربية.

 


أعلى