• - الموافق2024/12/04م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
إسقاط موازين الدنيا

كما يرد في القرآن الكريم ثلاث آيات تخبرنا يقينًا أن المكر السيئ يَحيق بأهله، بينما يظن الماكر بنفسه الدهاء والذكاء والمسابقة إلى أخذ الآخرين، ومبادأتهم قبل أن يفطنوا له، والفتك بالغافل قبل أن تضيع الفرصة عليه.


الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على نبينا محمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

في هذه الدنيا موازين يعتاد عليها الناس لدرجة التسليم بها دون مراجعة أو إعادة تقييم، وتسيطر على العقول؛ كأنها نظام صارم لا ينخرم، وقانون مستقيم لا يدركه العوج أو الاستثناء، وحال مستمر لا يكون خلافه ولا يُتصوّر، بينما تؤكد الشواهد الواقعة قابلية إجالة النظر فيها، وفَحْصها من جديد، فربما أن الافتراض غير صحيح، والتعميم غالبًا تدركه النِّسبية، والقطع مقطوع بانقطاعه، والجزم يقع عليه النفي والجزم بالعدم!

كما أن النصوص الشرعية الثابتة تُقرّر أن تلك الموازين عارية عن الاطراد، وأنها عُرضة لحدوث ما يناقضها تمامًا. فمما ثبت عن أبي هُريرة -رضي الله عنه- أَنَّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم  قال: «مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ، وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا، وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ للَّهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ»[1]، وفي حديث حسن صحيح يقول الرسول -عليه الصلاة والسلام-: «وَلا ظُلِمَ عَبْدٌ مَظْلَمَةً صَبَرَ عَلَيهَا إِلَّا زَادَهُ اللَّهُ عِزًّا، وَلا فَتَحَ عَبْدٌ بَابَ مَسأَلَةٍ إِلَّا فَتَحَ اللَّه عَلَيْهِ بَابَ فَقْرٍ»[2].

وهذا النص واضح جدًّا، ودلالته بَيِّنة؛ فالعطاء وصَرف الأموال إنقاصٌ من القَدْر والعَدد على حقيقته الشائعة، لكنَّ هذا الفعل ليس كذلك دومًا؛ فالصدقة لا تنقص من المال سواء أكانت كبيرة أم صغيرة، فهي سبب لحلول البركة والزيادة والنماء، والمال المُنْفَق ينجبر بهذه البركة المادية والمعنوية، والصدق سببٌ أكيد من أسباب العِوَض والخلف؛ كما جاء في حديث دعاء المَلَكين المروي في الصحيحين: «اللهم أعطِ مُنفِقًا خَلفًا»[3]، ولا شيء يمنع من كون هذا التعويض في الدنيا قبل الآخرة، أو فيهما معًا.

والمسألة الثانية في النص النبوي الشريف تُخبرنا أنه «ما زاد الله عبدًا بعفوٍ إلَّا عزًّا»، وهذا الخبر الصادق يأتي على خلاف ما يظنه بعض الناس من أن العفو يُورث الذل لصاحبه والمهانة والصغار حتى يجرؤ عليه كلّ أحد. بل إنه يزداد عزًّا ومكانةً، وهذا العزّ المنصوص عليه في الدنيا؛ إذ يرتفع الإنسان بالعفو، ويتسامى عن شهوة الانتقام وأثقال الحقد والغل التي تفتك بقلب الحقود قبل غيره، فضلًا عن أن العفو يُقرّب السيادة للمرء، وإنما ساد أقوام بما وهبهم الله من حِلْم وحُبّ للعفو والصفح، وهي منزلة عليّة حُرِمَ منها بعض الغِلَاظ وكثير من الحمقى. وقد يكون العزّ في الآخرة بمنازل علية في جنان عدن لمن عفا وأصلح وآمن، وأيًّا يكن فما أعظمه من حثّ على العفو، وترغيب فيه!، والمغبون من زهد بهذا الوعد الثابت.

أما القول الحقّ الثالث فيفيد أنه «ما تواضع أحدٌ لله إلّا رفعه الله»، والتواضع المراد هو تطامن وخضوع لله، ويكون مستقرًّا في القلب، بيد أنه يظهر على السلوك عبر الكلام والأفعال، بل وحتى في المشية والهيئة أحيانًا، شريطةَ أن يكون مبعث التواضع التعبُّد لله، وليس من باب التَّصنُّع أو الرياء، وليس دافعه الضعف الحقيقي والانكسار الإجباري، ولا يقع في فؤاد المرء شيء يخالف هذا التواضع من الظنون والبطر والغمط والاحتقار، ولا يرى المتواضع لنفسه فضلاً على غيره، ولا حتى يدّعي هذه الصفة له، وهو خُلُق كريم يرافق الصادق في خلوته وجلوته، ويزيده رقَّة وعبودية، ويُخلِّصه من بلاء العُجْب والإدلال على الخَلق أو على خالقهم -عياذًا بالله من الخذلان-، وبه يدرك القلب النقاء من أوشاب الدنيا وتطلّب الشرف والمنزلة.

وفي النص الآخر يُعلّمنا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم  أن الصبر على المظلمة مآله العز، والصبر المُثْنَى عليه قوة إيجابية دافعة، وليس قوة سلبية مانعة، ويقتضي هذا الصبر رباطة الجأش، والمُضِي في العمل للتغيير ورَفْع الضرر، ولا يعني بحالٍ الخنوع أو النكوص أو القعود أمام المظلمة مثل وتد يُطْرَق بلا حراك ولا حتى صراخ، فهذا ليس من الدين في شيء ألبتة، وقد ينصرف المعنى للمظالم اليسيرة التي تأتي من قرابة أو جيرة أو شراكة؛ فهذه احتمالها مروءة ومكرمة تُفْضِي إلى المعزة والسمو.

وفي الجزء الثاني من التوجيه النبوي الكريم تحذير من الولوج المخزي إلى باب المسألة للاستكثار والاستزادة؛ لأن مَن فتَح على نفسه هذا الباب المظلم المهين فليس أمامه سوى الفقر بمنافذه المشرعة له دون سُبُل الغِنَى المأمول، فضلًا عن الثراء الذي لا يأتي به الكسل أو المسكنة، وهو أمرٌ بالعمل، وإرشاد إلى الارتقاء بقَدْر الإنسان وقيمته عن وَصْف اليد السفلى الممتدة للأخذ دون العطاء.

فالعطاء وليس الأخذ أو الكنز هو الذي يزيد في المال عددًا، أو يزيد من بركته في نفسه وفي أهله وأعمارهم وأعمالهم وبيوتهم.

والعفو وليس البطش سبب لبلوغ المرء مرتبة العزة التي يرنو إليها الذين لا يعرفون سوى العنف والقسوة سببًا لتحصيل العزة دون أن يظفروا منها بقلامة ظفر.

والتواضع تخفيض للنفس يشبه المنصة التي ينطلق منها صاحبها للرفعة والسمو بشموخ، خلافًا للكِبْر والغطرسة التي تَهوي بأهلها نحو قعر سحيق، والمغرور المسكين يظن ذاته عالية وهي ليست كذلك.

والصبر على المظالم قوة لدَفْعها أو سببٌ لاحتمالها، وهو مَجْلَبة للعزّ، ولن ينتفع المرء من وَحل السؤال لغرض جَنْي المال بغير استحقاق، ومراكمة الدراهم بجَشَع وشُحّ.

كما يرد في القرآن الكريم ثلاث آيات تخبرنا يقينًا أن المكر السيئ يَحيق بأهله، بينما يظن الماكر بنفسه الدهاء والذكاء والمسابقة إلى أخذ الآخرين، ومبادأتهم قبل أن يفطنوا له، والفتك بالغافل قبل أن تضيع الفرصة عليه.

والثانية تفيدنا أن البغي يرتدّ على صاحبه، ولربما اعتقد الباغي بعَمَهِ البصيرة أنه منتصر، وما عرف أن الخسران مآل أكيد له، ومصير محتوم لأمثاله.

وتعلمنا الآية الثالثة أنَّ مَن نكَث في عهده فعلى نَفْسه ينكث، وأيُّ رُزْء يبوء به فاعله فيسوَدّ منه وجهه وتاريخه مثل الخيانة والغدر! وما أسرع إصابة الغادر بشيء من جنس غدراته وخياناته!

وهذه الأحكام الراسخة نجدها في القرآن العزيز؛ كما قال محمد بن كعب القرظي: «ثلاث من فعلهن لم يَنْجُ حتى ينزل به؛ مَن مكَر أو بغَى أو نكَث، وتصديقها في كتاب الله: {وَلا يَحِيقُ الْـمَكْرُ السَّيِّئُ إلَّا بِأَهْلِهِ} [فاطر: 43]، وفي قوله -تعالى-: {إنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم} [يونس: 23]، وآخرها في قول العليم الخبير: {فَمَن نَّكَثَ فَإنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ} [الفتح: 10]».

ومَن كان له مِن الله طالب فلا مفرّ له، ولا مهرب، ولن ينجو، ولو أحاطت به أسوار الدنيا من كلّ جانب، وإن طوّقت كتائب الحراسة، بمَن وما فيها، أماكنه وحركاته وسكناته، وإنها لمن سُنّة الله في الكون، ولن يجد أحدٌ لسُنة الله تبديلًا أو تحويلًا، وهذا درس جليّ في نَسْف الحتمية عن مقاييس الدنيا وقوانينها.

طبعًا هذا كله لا يعني بحالٍ الدعوة إلى التواكل، ونفي الأسباب، وترك العمل المُحْكَم المتواصل، وهَجْر السعي الدؤوب لإحقاق الحق، وتناسي عبودية إزهاق الباطل، والغفلة عن إحياء شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتمكين الشريعة من القلوب والواقع قَدْر المستطاع، فمثل هذا الفهم لا يتطرَّق لمن وعَى أوامر الوحي الشريف في القرآن العظيم والسُّنة المطهَّرة، ولا يتسلل إلى فَهْم مَن درس السيرة النبوية الزكية، ونظر إلى عصر الخلافة الراشدة، وأدرك أحكام الشريعة ومقاصدها التي تبتغي تعبيد الناس والحياة لله رب العالمين.

إنما الغاية نَفْي اليأس، وتعظيم الثقة بالمولى وقضائه وقدَره، فمَن يدري عمّا كتب ربنا -سبحانه- في اللوح المحفوظ، وماذا سيجري في قابل الأيام والأحداث. وفي الغالب إن فرعون لم يكن يعتقد أن البحر سيلتقمه ثمّ يقذفه ليعلن بلسانه الهزيمة والخسارة في الدنيا والبرزخ والآخرة، ومثله قارون الذي ظنَّ بأن كنوزه ستكون سببًا لسعادته ومَنَعته فخُسف به وبداره الأرض؛ لتصبح نهايته عِبْرة لمن عاصرَها فمن بعدهم.

وتبرز أمامنا الأمثلة التاريخية والمشاهدة بكثرة كاثرة، فتحكي لنا عن أهل كِبْر وعُتوّ وجَوْر وغطرسة أتاهم الأمر الرباني من حيث يأمنون ولا يحتسبون، وبعد صدود وجفاء من بعضهم أمام الناصح أو المُنْكِر أو الزاجِر، هذا إن لم يَطَلْهُ منهم سوء العاقبة، وفي النهاية جعل التدبير الرباني أولئك الكبراء والأسياد والملأ أثرًا بعد عين، وخبرًا بعد أن كانوا الفاعلين أو المستفردين بالفعل، وذهبوا غير مأسوف عليهم ليأخذوا مكانهم في سِجلّ العِبَر، ودروس العمر التي منها سقوط ديمومة موازين الدنيا.

 


 


[1] (رواه مسلم: 2588).

[2] (رواه الترمذي: 3225).

[3] (صحيح البخاري ١٤٤٢، ومسلم: ١٠١٠).

 

 

أعلى