الحمد
لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على نبينا محمَّد وعلى آله وصحبه، وبعد:
يروي الإمام البخاري - رحمه الله - في صحيحه عن النَّبي صلى الله
عليه وسلم أنَّه قال: «بلِّغوا عنِّي ولو آية» الحديث[1]، ولا شك أنَّ هذا القدرَ اليسيرَ من البلاغ يستطيعه
كثير من النَّاس؛ فمَنْ حفظ استطاع البلاغ، ومَنْ علم سَهُل عليه أمر التَّبليغ، ومَنْ
يملك وسيلة اتصال فلا حجَّة له في ترك الإبلاغ.
وفي ماضي الأيام كنَّا نشعر بالضَّيق من إقصائية إعلامنا، وخنقه الأصوات
المخالفة لزبانيته وروَّاد ناديه، وكان الإسلاميون لا يجدون سبيلاً لعرض أفكارهم، أو
الرَّد على مخالفيهم، أو توضيح آرائهم إلا في المساجد التي يتعاظم حصارها في بعض البلدان.
ومَنْ استطاع منهم الوصول إلى وسيلة إعلامية للقيام بعبادة البلاغ لا يضمن تمكينه من
إكمال رسالته، أو يخشى من تشويهها من باب الإثارة أو لتحقيق مآرب خاصَّة.
واليوم لا زالت الإقصائية و (الشِّللية) الإعلامية حاضرة في مشهدنا الإعلامي
التَّقليدي، بَيْد أنَّ الله امتَّن على عباده بالقدرة على تجاوز هذه الوسائل التي
فقدت كثيراً من المصداقية، وبدأت تهرم وهي في طريقها للعزلة أو الموت القريب، وإن غداً
لناظره قريب؛ فلا قيمة عند العقلاء لوسيلة إعلامية تبتعد عن المهنية والمواثيق المتعارَف
عليها، ولا قيمة عند الفضلاء لوسيلة تفتقد العمق الشَّعبي لأنَّها تخالف مبادئ المجتمع،
ولا تتورع عن مهاجمة مقدَّساته والتَّشنيع على رجالاته.
وقد فتحت شبكة الإنترنت ومنتجاتها أبواباً من التَّواصل والاتِّصال لم
تكُ متوافرة من قبل، وها نحن اليوم نعيش عصر الإعلام الجديد، وزمن الإعلام المتحرك،
وقد استطاعت الشُّعوب العربية الاستفادة من هذه الفرص؛ فأزاح أهلنا في تونس ومصر نظامين
عاتيين وطاغوتين ظالمين، والطَّريق مستمر حتى يفرِّج الله عن أهلنا في ليبيا وشامنا
ويمننا.
ولذا اهتبل المصلحون هذا الفتح المعلوماتي والإعلامي لتبليغ دين الله،
والذَّب عن الفضيلة وحماية الدِّين والمجتمع من نزغات شياطين الإنس، والأمثلة تعزُّ
على الحصر؛ فمنها المواقع المفيدة المباركة للفتوى وتقريب العلوم ونشر دين الله، والارتقاء
بوعي العامَّة وذائقتهم الأدبية، وقد استفاد من هذه المواقع فئام من المسلمين حُرمَت
ديارهم من بركة العلم، واقتصرت وسائل إعلامهم على مشايخ يعبِّرون عن رأي السُّلطة ولا
يوقِّعون عن ربِّ العالمين، فجاءت هذه المواقع لتكون زاداً للمسلم الذي يرنو لاتباع
رسالة الإسلام كي يعيش الإسلام اليوم كما عاشه الأسلاف على هدي الكتاب والسنَّة وفَهْم
سلف الأمة لهما.
وأيضا التَّطبيقات الجذَّابة على الهواتف الذَّكية التي تنتشر بين أهم
فئات المجتمع وهم الشَّباب من الجنسين؛ فبواسطة هذه التَّطبيقات تصل رسالة الخير للشَّاب
في مجلسه، وللفتاة في خدرها، فأصبح العلم المبثوث في الدَّوواين والأسفار قريب المأخذ،
وفي متناول جيل غضٍّ يحتفظ بشيء من فطرته السَّوية وإن رانت عليها آثام الانفتاح وجرائر
التَّساهل وتمييع الأحكام، وكم من مفهوم شرعي ترسَّخ في وجدان الشُّبان والفتيات من
خلال الرَّسائل الجماعية والمقاطع النَّقية المتبادلة.
وفي فضاء الشَّبكة مواقع علمية سنية، تيسَّر الوصول إلى درر الكتب مع
سلاسة في البحث والجَمْع، وفي الفيسبوك وتويتر وغوغل بلس صفحات كثيرة لمشايخ ودعاة،
ومفكرين وكتَّاب، وأعمال خيرية وأنشطة دعوية، تجاوز عدد متابعيها والمعجبين بها مئات
الآلاف بينما كان إعلامنا يضع علامات استفهام وتعجُّب على أصحابها! وفي قنوات اليوتيوب
والمشاهد النَّقية بلغ عدد زيارات قنوات بعض مشاهير القرَّاء أكثر من أربعين مليون
زيارة، وفي بعض الصَّباحات الجميلة يفاجئنا الشَّباب النَّضر على قنوات توثيق الحقيقة
بمقاطع مرئية تدمغ الباطل وأهله، وتنصر الحقَّ وأصحابه، وياباغيَ الإصلاح أقبل فثمَّ
فجاجٌ واسعة رحبة.
ونتيجةً طبيعيةً لهذا الانفتاح انجذبت الجماهير المتعطِّشة للحقيقة، والمشتاقة
لسماع أصوات ممثِّليها وموضع ثقتها، إلى مواقع المشايخ والمصلحين على الشَّبكة العالمية؛
نهلاً من مَعِين علمهم الصَّافي، وإفادة من خبراتهم وتجاربهم الصَّادقة، واستنارة بآرائهم
وتعليقاتهم المكتوبة والمسموعة والمرئية، بعد أن كانت حروفهم وأصواتهم وصورهم من المحرَّمات
على الإعلام المختطف في كثير من ديار المسلمين. هذا غير الانصراف الكبير من قِبَل غالبية
المجتمع عن الصُّحف الورقية باتجاه الصَّحافة الإلكترونية ومواقع التَّواصل الاجتماعي
للبحث عن الأخبار الحيادية والصورة الكاملة للأحداث. والحمد لله أن دخل الصَّالحون
في هذا العالم الافتراضي المؤثر بقوة في عالمنا الحقيقي، وكان لهم فيه صولات مشهودة
وجولات موفقة.
وقد صارت شبكات الإنترنت والاتِّصال بابَ خير ودعوة، واكتسابَ أجرٍ لجمهرة
من المسلمين الذين يحبون نشر الخير، ونصرة دينهم ولغتهم وتاريخهم من خلال الإفادة من
المجموعات البريدية، والإجابة على أسئلة مواقع محرِّكات البحث، أو كتابة المعلومات
الصَّحيحة في الويكيبيديا، ونشر الكتب الإلكترونية، وإبراز المقالات والتَّحقيقات والتَّقارير،
وإدارة حملات بناء المفيد وهدم الضَّار، وغير ذلك ممَّا كان حكراً على إعلام رسمي أو
شبه رسمي، وإنِّها لنعمة ربَّانية جديرة بشكرها فعلاً وقولاً، والتعبُّد لله بالعمل
من خلالها، ويا باغيَ التَّغيير الإيجابي الآمن! أقبل فثمَّ الجهد والنَّتيجة السَّارة!
وكم ترك الأول للآخر، وكم في الإنترنت ووسائل الاتِّصال من سبل وطرق للإحسان
والإصلاح والاحتساب، فالمدَّونات الشَّخصية، والمنتديات الرَّاقية، والمجموعات البريدية،
والصُّحف الإلكترونية، والمواقع الشَّخصية أو الدَّعوية أو الاجتماعية فضلاً عن مواقع
الأسرة والمرأة والطفل، وقنوات الرَّسائل النَّصية المجانية أو مدفوعة الثَّمن، وبرامج
أجهزة الهاتف المتنقل، كلُّها منافذ خير، وطرق عبور إلى عمق المجتمع، وخارطة طريق تنتظر
مَنْ يرسمها باحتراف ليقود الأمة إلى ما ينفعها في شأن دينها وأمر دنياها.
وعبر الإنترنت يمكن للأخيار تبنِّي مشاريع قد يصعب عليهم طرحها عبر وسائل
محتكَرة، مثل إغاثة أيِّ شعب مسلم منكوب، وفضح جرائم المفسدين والطُّغاة ضدَّ المدنيين.
ومن المشاريع تكاتف الجهود لتعرية التَّغريب وأدواته ورموزه ووسائله، ومن المشاريع
إيجاد قنوات تواصل متنوعة لعلماء الأمة مع شبابها، ومنها كذلك نشر الأحكام الشَّرعية
في النَّوازل والمستجدات، وإنشاء محرِّكات بحث ومواقع تواصل تراعي البيئة الإسلامية
وثقافة المسلمين، وتعميم الدَّعوة إلى الله بجميع اللغات، والأفكار أكثر من أن يشار
إليها، وفي عقول المبدعين من شباب المسلمين وبناتهم أفكار ومشروعات غير مسبوقة تنتظر
المبادر والدَّاعم والمسدِّد، والأجر على الله.
ومع هذا الانفتاح الكبير يجدر بفضلاء الأمة متابعة تطورات التَّقنية وتغيراتها
المتلاحقة لما في ذلك من أثر بالغ على استشراف المستقبل واستثمار هذه الفتوحات، كما
ينبغي العناية بترسيخ وتعميق مفاهيم التَّعاون على البِّر والتَّقوى لدى جيل التَّقنية
انطلاقاً من قول الله - تعالى -: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا
تَعَاوَنُوا عَلَى الإثْمِ والْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ شَدِيدُ
الْعِقَابِ} [المائدة: ٢]، فالتَّعاون على البِّر والتَّقوى من مقتضيات الولاية للمؤمنين
كما في قوله - جلَّ شأنه -: {وَالْـمُؤْمِنُونَ وَالْـمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ
أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْـمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْـمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ
الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ
اللَّهُ إنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 71].
والتَّكامل من
خصائص العمل النَّاجح، فلا داعي لتكرار الجهود؛ خاصة أن السَّاحة روض أُنُف لمن شاء
أن يعمل ويبدع، والميادين متاحة، والأفكار ملقاة تنتظر مَنْ يلتقطها ويحسن عرضها، ونضَّر
الله وجه السَّامع الذي يبلِّغ؛ فرُّب مبلَّغ أوعى من سامع كما في الحديث الشَّريف،
والأجر يدرَك -
بإذن الله
- مَنْ بدأ الأعمال الفاضلة الجديدة وإن رحل عن دنيا النَّاس مصداقاً لحديث النَّبي
الأكرم صلى الله عليه وسلم: «مَنْ سنَّ في
الإسلام سنَّة حسنة، فله أجرها، وأجر مَنْ عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء» الحديث[2].
[1] رقم الحديث (3461)،
نقلاً عن موقع الدرر السنية.
[2] رواه مسلم، رقم الحديث
1017، نقلاً عن موقع الدرر السنية.