• - الموافق2024/11/21م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
تونس: صراع وفق تكتيكات هادئة ومتدرجة.. ماذا عن الحسم الإستراتيجي؟

أخذت تحركات الرئيس مساحة زمنية متمددة للوصول إلى مبتغاه، دون إحداث صدمة كبرى ودون صدام عنيف وواسع مع القوى الرافضة لرؤاه وتحركاته وأهدافه.


دخلت تونس مرحلة جديدة من الصراع مع إجراء استفتاء إقرار الدستور الجديد. تحددت جبهتا الصراع على نحو أعمق وأوضح، وصار الصراع محدد الأهداف على نحو أدق. ومع عبور القوى المشتبِكة في الصراع بوابة تغيير التوازنات التي حكمت المشهد حين بدا؛ بات التساؤل مطروحاً حول الحسم الإستراتيجي للصراع.

لقد شهدت تونس نمطاً فريداً من إستراتيجيات الصراع، بين قوى وتيارات سياسية ومؤسسات أهلية من جهة، ومؤسسات الدولة بقيادة الرئيس قيس سعيِّد مسنودة بقوى مجتمعية من جهة أخرى.

فعلى الرغم من التناقض الحاد بين الأهداف النهائية للمشتبكين في الصراع الجاري، إلا أن طرفا الصراع - ويصح القول أطراف الصراع - قد اعتمدا تكتيكات الحركة المتدرجة أو المتدحرجة، بلا ضجيج عالٍ ولا اشتباك حادٍّ في صراع بعضها مع بعض. وهو ما جعل الصراع يبدو في ملامحه الأعم - حتى لحظة الاستفتاء - كمباراة سياسية محكومة بقواعد لا تخرج أطرافها عنها، في حين هي عملية صراعية لا تجري وَفْقَ أسس وآليات الديمقراطية، تجري بين من يرى أن الرئيس قيس سعيِّد يغير قواعد الحكم الذي تشكل بإرادة شعبية بعد تغيير نظام حكم زين العابدين بن علي، وبين من يتمسك بما تم إرساؤه بعد هذا التغيير. وهي حالة تصل عند بعض المشتبكين حدَّ إلغاء الطرف الآخر.

وسؤال تونس منذ إزاحة اللثام عن الصراع الراهن - خاصة بعد اتضاح معالم وتكتيكات خوضه - لا يتعلق فقط بتوقع احتمالات نتائجه، ولا بقدرة أيٍّ من الطرفين على حسم الصراع لصالحه؛ بل بكيفية حسم الصراع في مرحلته الأخيرة؟

بدقة يدور التساؤل حول ما إذا كان الصراع سيسير هكذا حتى الوصول إلى نهايته، أم أن مرحلة حسم الصراع ستشهد تغييراً حادّاً، يُدخِل تونس في نمط صاخب أو عنيف كغيرها.

لقد تحرك الرئيس قيس بن سعيِّد بشكل تدرجي في محاولته تغيير الأوضاع القائمة وإرساء قواعد جديدة للحكم الذي تشكل بعد ما وصف بالربيع التونسي، متفادياً إحداث صدمة أو استخدام أدوات العنف المفرط.

ففي مسألة الحكومة بدأ الرئيس خطواته بالاعتراض على توزير وزراء فتعطل تشكيل الحكومة وأثار قضايا تتعلق بتنازع السلطات، وانتهى إلى تعيين حكومة بقرار منه هو وحدَه دون تصديق من البرلمان الذي بات معطلاً.

وبدأ المواجهة مع مجلس النواب فأوقف نشاطه وأغلق مقرَّه ونزع المزايا والحقوق التي يتمتع بها أعضاء المجلس. واختار الرئيس أن تتحرك أجهزة الدولة ضد بعض الشخصيات لا ضد كلِّ الشخصيات. وانتهى إلى تقديم رئيس مجلس النواب إلى المحاكمة.

وفي قضية الدستور بدأ تحركاته واتخذ قراراته استناداً إلى الدستور القائم، وتحرك بعدها تجاه تغيير الدستور، وأعلن عن بداية كتابة دستور جديد وشكَّل لجنة لأداء تلك المهمة، وقرر إجراء استشارات شعبية غير حزبية، وبعد أن أنجزت لجنة الدستور مهمتها أدخل ما رآه من تعديلات.

ثم تحرك نحو القضاء، وغيَّر أعضاء بالمجلس الأعلى، وحين ردَّ القضاة بإعلان الإضراب، لم يدخل في صدام أمني معهم.

أخذت تحركات الرئيس مساحة زمنية متمددة للوصول إلى مبتغاه، دون إحداث صدمة كبرى ودون صدام عنيف وواسع مع القوى الرافضة لرؤاه وتحركاته وأهدافه.

وفي المقابل جاءت تحركات المعارضة على النمط المتدرج نفسه، ودون تعبئة وحشد شعبي ودون السعي لوقوع اصطدام مع السلطات في الشارع.

ردَّت المعارضة على وقف نشاط البرلمان وإغلاق مقرِّه ومنع النواب من الدخول، بالوقوف أمام المقر، لوقت قصير؛ وكأنها اكتفت بتثبيت فكرة أن الرئيس أغلق المجلس بقرار غير دستوري. لم تحاول دخول المقر، وكان أقصى ما قامت به من بَعْدُ هو الإعلان عن عقد جلسات البرلمان عبر الإنترنت، وهي جلسات لم تتم فعلياً على نطاق واسع، وما صدر عنها لم يجرِ إسناده بحركة واسعة في الشارع. وفي مواجهة وقف تشكيل الرئيس حكومةً دون تصويت البرلمان عليها لاعتمادها ودخولها دولاب إدارة الدولة، تحركت الأحزاب بشكل لفظي في البداية لتثبيت الاعتراض، ثم انتقلت مؤخراً للحديث الصريح عن عدم شرعية ما قام به الرئيس.

باختصار: لم يسعَ الرئيس لمواجهة مباشرة وقوية؛ فلم يواجه مظاهرات المعارضة بعنف مفرط، وجاءت تحركات المعارضة محسوبة بدقة.

لكن كل ذلك لا يعني ضعف حدَّة الاختلاف، أو تقلص شدَّة التناقض بين الطرفين، أو أن هناك مباراة محكومة بقواعد متَّفَق عليها بين أطراف الصراع. وهو ما طرح تساؤلات حول أسباب وأبعاد تلك الحالة الفريدة، وحول إمكانية تواصل هذا النمط من الصراع، وكيف ستجري المراحل الختامية له.

بُعد الأزمة... أعمق:

رغم أن عنوان الأزمة وتفاعلاتها صار واضحاً وتتابعت إجراءات الرئيس قيس سعيِّد وتوسعت حتى أصبحت هي أساس وجوهر الصراع؛ إلا أن أزمة الحكم في تونس، كانت بادية وظاهرة قبل وصول الرئيس إلى سدَّة الحكم.

بل إن وصول رئيس من خارج الأحزاب التي قادت التغيير، كان هو نفسه عنوانَ ما وصلت إليه الأوضاع التي تشكلت بعد إنهاء حكم الرئيس بن علي.

كان واضحاً قبل وصول الرئيس قيس سعيِّد إلى سدة الحكم، أنَّ أجهزة الحكم الجديدة (التشريعية والتنفيذية) دخلت وضعية المأزق؛ إذ صارت مشلولة عن أداء دورها لأسباب في داخلها. وكان واضحاً أنَّ تلك السُّلطات باتت تعاني من انفضاض شعبي، لأسباب كثيرة على رأسها سوء الظروف المعيشية للمواطنين.

وكلا العاملين شكَّلا أساساً في تحديد طبيعة الصراع الذي جرى بعد وصول الرئيس سعيِّد، وفي دفع الطرفين المتصارعين، لاعتماد هذا النمط التدرجي من الصراع، وعدم الاندفاع إلى صدام عنيف؛ إذ تحرك الرئيس دون وجود ضغط شعبي كبير، وتحركت المعارضة دون سند شعبي كبير.

الانتخابات والانفضاض الجماهيري:

كانت مشاهد الانتخابات البرلمانية والرئاسية ونتائجهما التي جرت بعد إقرار الدستور في عام 2014م قبل وصول الرئيس قيس سعيِّد للحكم في عام 2019م؛ موحية بعدم رضا الشعب التونسي عن دور وأداء الأحزاب التي شكلت السلطتين التنفيذية والتشريعية، وبأن الحكم الجديد بات يعاني من أزمة عميقة.

شهدت تونس أوَّل انتخاباتها بعد التغيير في عام 2011م، وخلالها خرج التونسيون للمشاركة بكثافة، لانتخاب المجلس التأسيسي، وأظهرت النتائج دعماً شعبياً لحركة النهضة بقيادة راشد الغنوشي، ولحزب المؤتمر من أجل الجمهورية بقيادة د. المنصف المرزوقي. وأصبح الأول رئيساً للبرلمان والأخير رئيساً للبلاد من خلال انتخابات جرت بين أعضاء المجلس.

واستمرت الأحداث في دورتها تلك - وَفْقَ حالة الإقبال الجماهيري - بعد إقرار المجلس التأسيسي الدستور الجديد للبلاد في عام 2014م، حتى مع ما شهدته تلك الفترة من عمليتي اغتيال آثمتين لشخصيتين سياسيتين كان لهما تأثير في الحشد للتغيير.

كانت تلك مرحلة فوران جماهيري مشبعة بتصاعد الآمال.

لكن الأوضاع بدأت تأخذ منحىً تراجعياً بعد إقرار الدستور، وهو ما أظهرته انتخابات أول مجلس نواب وأول رئيس ينتخب مباشرة من الشعب، وَفْقَ الدستور الجديد المقرِّ في عام 2014م.

لقد حقق حزب نداء تونس برئاسة قائد السبسي أعلى النتائج في انتخابات مجلس النواب، في حين حلت حركة النهضة ثانياً وهي مَن كانت عنواناً للتغيير. وفاز قائد السبسي في الانتخابات الرئاسية التي جرت في ختام العام نفسه، بعد دورة ثانية جرت في مواجهة د. المنصف المرزوقي الذي كان رئيساً قبلها وكان حزبه قد حل في المرتبة الثانية في انتخابات المجلس الوطني التأسيسي.

كان واضحاً حدوث تغيير في توجُّهات الرأي العام.

وجرت أول انتخابات بلدية في عام 2018م، فرغم تصدُّر حركة النهضة للنتائج وهي أبرز القوى التي شاركت في التغيير، إلا أن الرأي العامَّ التونسي أرسل إشارة قوية عن عدم رضاه، إذ بلغت نسبة الامتناع عن المشاركة في التصويت، نحو 60 % من الناخبين.

وقد تواصل مسلسل الانفضاض عن القوى السياسية التي قادت حركة التغيير، وأصبح أشد وضوحاً في عام 2019م؛ إذ جرت انتخابات رئاسية بعد وفاة الرئيس قائد السبسي، حقق فيها أستاذ القانون الدستوري القادم من خارج أطر ونظم ومشاركات الأحزاب السياسية ونخب الحكم (القديم منها والجديد) انتصاراً عبر جولتي الانتخابات.

وجاءت انتخابات البرلمان موحية أكثر؛ إذ تراجعت حركة النهضة وتصاعدت قوة التيارات المضادة لها في البرلمان. وصارت مشاهد جلسات البرلمان عنواناً واضحاً على ما هو قادم من اضطراب وتغييرات.

مأزق البرلمان وحركة شعبية ارتدادية:

انفض الناس عن المؤسسات الجديدة، ومثَّل تراجع حركة النهضة وغياب المنصف المرزوقي من جهة، وفوز قائد السبسي ثم قيس سعيِّد من جهة أخرى، عنواناً لتغييرات أو انقلاب في توجهات الرأي العام.

ساهم في ذلك حالة الاضطراب والعراك والعجز الذي ظهر عليه البرلمان من جهة، وضعف الأداء الحكومي وتردِّي الأزمات المعيشية من جهة أخرى.

وهو ما تُرجم في تحركات جماهيرية تطالب بإنجاز الوعود وتبحث عمَّا حلمت به، وفي ظهور تجمعات شعبية وحركات مضادة للسلطة القائمة. لقد عادت المظاهرات إلى الشوارع منددة هذه المرة بعجز السلطة الجديدة عن تحسين الأوضاع المعيشية، ووقعت صدامات ليلية في عدة مدن متعددة، قابلتها السلطات بالاحتجاز والاعتقالات، كما تشكَّلت حركات شعبية مثل (مانيش مسامح) وغيرها.

حركة الصراع وتغيير التوازنات:

كان الوضع جاهزاً للانفجار والتغيير؛ المؤسسات شبه مشلولة، والجمهور متروك نهباً لتدهور الأوضاع المعيشية التي تفاقمت بفعل اضطراب حركة السياحة بسبب أزمة كورونا؛ وهي واحدة من أهم مداخيل الميزانية التونسية.

وفي هذه الظروف أصبح للبلاد رئيس جديد في عام 2019م، رئيس قادم من خارج كل المصفوفات الحزبية والتيارات المتناحرة.

تحرك الرئيس قيس سعيِّد نحو تغيير المعادلات القائمة، فتوجه إلى القطاعات الشعبية التي لم تلبَّ مطالب خروجهاً في عام 2011م، وتوجه بشكل خاص إلى القوى الاجتماعية التي سبق أن دعمت الرئيس قائد السبسي.

ورفع الرئيس شعارات التغيير ليحشد خلفه تيارات وقوى متنوعة.

وفي حين تراءى الصراع في البداية وكأنه صراع بين الرئيس ورئيس مجلس النواب، أو بين الرئيس وحركة النهضة؛ فقد تطور الصراع وتوسَّع وتعمَّق بعد قرارات الرئيس بشأن مجلس القضاء الأعلى وبشأن لجنة الانتخابات والدستور وغيرها.

تحرَّك الرئيس لتثبيت سلطاته وتعميق أبعاد التغيير الذي يقوم به، مستخدماً الصلاحيات التي مَنَحها له الدستور الذي أقرَّه المجلس التأسيسي الذي تشكل بعد التغيير، معتمداً على جِدَّة ممارسته للعمل السياسي والتنفيذي، ومستفيداً من أخطاء وصراعات النخب التي أدارت البلاد بعد التغيير الذي جرى في عام 2011م.وسيكون بعد إقرار الدستور على نحو أكثر حسماً وربما أشدَّ قسوة.

وفي المقابل تحركت المعارضة لإعادة وصف ما يقوم به الرئيس، فركَّزت على فكرة وحالة الصراع بين الديمقراطية والاستبداد. وعملت على الاستفادة القوى المتضررة من إجراءات الرئيس والتعاون معها. وأخذت في تشكيل منظومات جديدة للمواجهة، ووسَّعت تحالفاتها لتضمَّ القوى والمنظمات الشعبية والقوى الاجتماعية الرافضة للتغييرات والتوجهات التي أبداها الرئيس، حتى بدا أن المعارضة تستعيد قدراً من شعبيتها وأنها تتجهز لمواجهة واسعة وعميقة مع الرئيس؛ إذ بدأت ترفع شعارات تتحدث عن مواجهة انقلاب الرئيس.

ولذلك يطرح السؤال حول كيفية حسم الصراع؛ إذ الصراع يتعمَّق وحشد القوى يتصاعد!

أعلى