• - الموافق2024/11/21م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
طبقات ابن سعد بين المستشرقين والباحثين المسلمين

لعل من أهم ما يُميِّز عمل (المستشرقين الألمان) هو اهتمام بعضهم بالدقة والضبط في التحقيق، حينما استعانوا بعلماء وأساتذة من العرب المسلمين كشيوخ الأزهر

 

يُعدُّ الاستشراق الألماني ممن أَوْلى عناية خاصة بالتراث الإسلامي كما هو معلوم، وذلك بدوافع متعددة، فكان كتاب الطبقات الكبرى لابن سعد من الكتب الأولى التي طُبعَت ضمن هذا النشاط عام 1918م، وقد تم إخراجه إلى حيِّز الوجود أوَّل مرة بإشراف المستشرق الألماني إدوارد سخاو، وقد حقَّقه بالاشتراك مع بروكلمان، ومع آخرين جميعهم من ألمانيا، وهم: جوزيف، وهورفتس، وليبيرت، ومايسنر، وميتفوخ، وشواللي، وتسترستين[1]، وكان تحقيق الكتاب من قبل هؤلاء على خمس مخطوطات، واستغرقت طباعة كتاب الطبقات لابن سعد أربعة عشر عاماً 1904 - 1918م في ليدن بهولندا، فخرج في ثمانية أجزاء، وبالرغم من عملهم على خمس مخطوطات إلا أنها لم تكن نسخاً كاملة لطبقات ابن سعد، ومن ثَمَّ لم يخرج الكتاب كاملاً.

وقد كَتَبَ د. إحسان عباس مقدمة طبعة دار صادر وهي من الطبعات الأولى للكتاب، تضمنت حديثاً عن هذه الجهود للمستشرقين، وعن أهمية إعادة طباعة الكتاب، ومما قال: «ومنذ سنة 1903م عمل في نشر هذا الكتاب جماعة من العلماء الألمان، فأشرف عليه سخاو وأعانه فيه هوروفتز ومتوخ وبروكلمان وشوالتي ولبرت وميسنر وسترستين، وكان اعتمادهم على مخطوطات خمس وجدوها، فجاء عملهم في حدود الإمكانات التي توفرت لهم [من النسخ] جيداً مضبوطاً دقيقاً. فإعادة طبع هذا الكتاب اليوم عملٌ هام ضروري، غايته تقريبه من أيدي الدارسين وتسهيل وصوله إليهم»[2].

وعن موضوعات كتاب الطبقات وأهميته للمكتبة الإسلامية مُحقَّقاً حول الروايات وطرق الإسناد أورد عباس كذلك القول واصفاً: «في صفحاته كنز لا ينضب من المعرفة لمن شاء أن يدرس سيرة الرسول وحياة القرنين الأولين من تاريخ الإسلام، وهو المنبع الذي يمد الباحثين بموضوعات جديدة في كتابة السير والبحث عن طرق الإسناد وكيفية تدوين الحديث، ويعلِّمنا الشيء الكثير عن الأمور الاجتماعية المتصلة بحياة البيت والسوق وأمور الزيِّ والطعام والشراب وعن جوانب من الأعمال والمهن والحياة التجارية، وعن كثير من النواحي الثقافية والأحكام الفقهية، والصراع بين السُّنة والأهواء، وعن عشرات من الموضوعات، كل ذلك في لغة سهلة مستوية جزلة، وفي اعتدال وقصد وموضوعية وتجرُّد لا يستطيعه إلا من كان مخلصاً، كابن سعد، يقدم الغاية العلمية على كل شيء آخر»[3].

جهود الباحثين المسلمين في تحقيق ونشر الناقص من طبقات ابن سعد:

كتب الباحث زياد منصور الذي يُعدُّ أول محققي الناقص من طبعة المستشرقين؛ إذ قام بتحقيق بعض طبقات التابعين، ومما قال حول أهمية الكتاب ووجوب اكتمال تحقيقه: «ومع هذا كله فلم يحظَ الكتاب بالعناية العلمية التي يستحقها، فكان أول من بادر إلى نشره طائفة من المستشرقين، غير أنهم لم يُعطوا المؤلف حقه في الترجمة، ولا الكتاب حقه في التحقيق، وعلى هذه الصورة طُبع الكتاب في (ليدن)، ولكن يبقى لهم فضل السبق في نشره على ضخامة حجمه. وقد فُقِدَت صفحات كثيرة من تابعي أهل المدينة في المجلد الخامس من الكتاب، وقد لفت نظري وأرشدني إلى هذا السقط - مشكوراً - الدكتور أكرم ضياء العُمري فوقفت على القطعة الساقطة، وحددت بدايتها ونهايتها، ورغبت في تحقيقها لأمور منها:

1- أنها تُكْمِل كتاباً هاماً اعتمده أصحاب المغازي والسير، والمؤرخون والنسَّابون وأئمة الجرح والتعديل.

2- أنها من أقدم وأوفى ما كُتب في التاريخ الثقافي للمدينة المنورة في القرنين الأولين من الهجرة، وقد فُقدَت المؤلفات المبكرة التي تناولت التاريخ الثقافي للمدينة، مما يجعل لهذه القطعة أهمية خاصة»[4].

وحول هذا النقص الكبير لكتاب الطبقات واكتشاف نقصه، وأهمية إكمال الناقص منه بتوضيحٍ أكثرَ كَتَبَ محقِّق الطبقة الرابعة من الصحابة عن هذه الطبقة وهو الدكتور عبد العزيز بن عبد الله السلومي، كما كتب حول الطبقة الخامسة لدى زميله السُّلَمي، وكلتاها تُعدُّ ناقصة من المطبوع كذلك، ومما قال: «كان قد تم نشر الكتاب وطبعه من قبل المستشرقين، ثم تلا ذلك تكراره وإعادة طبعه، وقد تصور الكثيرون بأن ما تم طبعه ونشره يمثل ما كتبه محمد بن سعد في الطبقات كاملاً، لكن تجلَّت حقيقة واضحة وهي أن طبعة المستشرقين وما تلاها من الطبعات كانت ناقصة، وتم اكتشاف بعض هذا النقص في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة في بداية الأمر؛ إذ لوحظ وجود سقط في طبقة تابعي المدينة؛ فقام بنشره في رسالة علمية الأستاذ زياد محمد منصور، وتم طبع هذا الجزء على نفقة الجامعة، كما تم للأخ الزميل محمد بن صامل السلمي اكتشاف الطبقة الخامسة من طبقات الصحابة وهي بعنوان «من توفي عنهم رسول الله # وهم أحداث الأسنان...» فعمل على تحقيقها وتقديمها في رسالة علمية في جامعة أم القرى. وقد تحقق لي بأن أعمل على تحقيق الطبقة الرابعة من الصحابة الذين أسلموا عند فتح مكة وما بعد ذلك، وقد كانت هي الأخرى ضمن الساقط من المطبوع، فبعد أن تصفحتها وعملت دراسة أولية لمحتوياتها وجدت أنها سِفرٌ عظيم ومهمٌّ وجدير بالعناية والتحقيق والنشر»[5].

وبهذه الجهود لثلاثة من الباحثين يكون إكمال معظم الناقص، فأحدهم أستاذ من الجامعة الإسلامية بالمدينة كما سبق، وأستاذان من جامعة أم القرى بمكة كما سبق إيضاحه كذلك، ليكون الباحث الرابع في إكمال النقص من جامعة ويلز (لامبتر) في بريطانيا هو محمد بن عبد الله السلومي عن قسم (المضريون) من الطبقة الثالثة من الصحابة (مطبوع إلكترونياً) ومنشور على الشابكة المعلوماتية، ثم كان الاكتمال بالباحث الخامس من جامعة جلاسجو ببريطانيا وهو محمد بن سليمان العبده عن القسم الآخر (اليمنيون) من الطبقة الثالثة من الصحابة، وهو مطبوع إلكترونياً كذلك، ومنشور على الشابكة المعلوماتية كذلك.

وباكتمال تحقيق وطبع الطبقات الثالثة والرابعة والخامسة، وإكمال نقص الثانية من طبقات الصحابة من قِبل الدكتور السُّلمي تم استيفاء نقص تراجم الصحابة في كتاب (الطبقات الكبير) حسب بعض التسميات، وطُبعت بعضها بطبعات منفصلة عن بعضها الآخر، لكن لم يتم جمعها بكتابٍ واحد أو سلسلةٍ جامعة.

وفي عموم هذه الإضافات من الناقص اكْتَسَبَتْ المكتبة العربية الإسلامية ثراءً في إكمال هذا المصنف الكبير والمهم في تراث أمتنا الإسلامية، بل كشفت بوضوح عن الفوارق أو الاختلاف بين منهج المستشرقين ومنهج المسلمين في منهجية التحقيق.

وبما أن هذه الجهود السابقة للمستشرقين في أجزائه الثمانية كانت بعدم تحقيقها على منهج المحدثين، ثم جاء بعد المستشرقين اكتشاف الناقص الذي تم تحقيقه بالمنهج العلمي الحديثي على أيدي خمسة من المحققين العرب المسلمين؛ فإن هذا وذاك مما يطرح (مشروعاً مقترحاً) لإخراجها بطباعةٍ كاملة بمنهج علمي موحَّد، وهو المأمول من أي باحث أو دار نشر علمية ذات رسالة ومهنية بالتحقيق، لا سيما أن ما سبق يكشف عن جهود المحققين السابقة واللاحقة حول تسلسل التحقيق والطباعة للكتاب حينما كان ناقصاً أو مكتملاً أو متفرقاً.

وفي سياق الاهتمام بكتب التاريخ ومخطوطاته ووثائقه يتأكد ما هو أكثر من إعادة طباعة كتاب الطبقات الكبرى لابن سعد على أهميته؛ وذلك بـ (مشروع آخر مقترح) إذ يتعرض التاريخ الإسلامي ومناهجه في العالم العربي والإسلامي لمحاولات غير أمينة من الطمس أو التشويه والتجاهل للمعالم الحضارية، مع إخفاءٍ مُتَعمَّد لحقيقة الهوية التاريخية للمسلمين، وهو ما يتطلب ميلاد (حاضنة) للتاريخ تقوم بالأرشفة العلمية المعنية بحفظ كتب التاريخ الوثائقية ومؤلفاته ‏وبحوثه ودراساته ومجلاته الموثَّقة ومحاضراته المتميزة ومخطوطاته، وممكن أن يبدأ بالتنادي من المتخصصين بالتاريخ لإنشاء مشروع (موقع إلكتروني) متخصص في مصادر التاريخ الإسلامي ومراجعه ‏بمجاميع شاملة أو كاملة وأيقونات تضم ‏الكتب المحقَّقة، وأخرى للأبحاث والدراسات الموثَّقة، وكتابات التاريخ الموجَّهة، والمجلات العلمية المعنية بالتاريخ، لا سيما الكتب المحقَّقة عن تاريخ الدول الإسلامية المتعاقبة عبر التاريخ كأمهات الكتب، ويمكن أن تكون بداية هذا المشروع محدَّدةً بالإطار الزماني في مرحلته الأولى من (بداية ‏عهد الخلفاء الراشدين ‏حتى نهاية الدولة العثمانية وتفتيت أقاليم العالم الإسلامي)، ومن نوافذ هذا الموقع نافذة عن كتب ومخطوطات الحضارة الإسلامية وتقصِّي الكتابات والمحاضرات التي أبرزت علماء الإسلام في العلوم التجريبية والتطبيقية في عصور حضارة الإسلام، ويتم اختيار المواد العلمية وَفْقَ معايير علمية واضحة، وهذا ما يخدم في تشكيل مرجعية معرفية ‏ومعلوماتية للأجيال وللباحثين والطلاب عن تاريخ الدول والمجتمعات وعن الحركات والمؤسسات والتراجم والمعاجم الخاصة بالتاريخ، ويقوم المشروع بجمع المؤلفات ‏وتصنيفها (وليس بالتأليف) بحيث يصبح هذا الموقع مَصدراً أساسياً في التاريخ مثل مواقع كتب اللغة العربية المتخصصة، أو العلوم الشرعية الفقهية والحديثية، أو بما ‏يماثل (المكتبة الشاملة)؛ ‏لا سيما بعد أن توفر التحقيق لبعض كتب التاريخ، وَوُجِد التأليف عن بعض موضوعاته بتحقيق ينقصه الإشهار الكبير والإعلان الواسع والتوظيف الوثائقي للتاريخ وللباحثين فيه، كما ينقصه الجمع في موقع واحد أو مجموعة واحدة أو مشروع واحد، ويُعزِّز هذا المشروع المقترح أن الجانب الإلكتروني وتقدم وسائله وتنوعها يخدم بتحفيز المتطوعين لهذا المشروع وإنجاحه بتجاوز المكان الواحد للعاملين والمتطوعين في هذا المشروع.

من مميزات الاستشراق الألماني وفروقاته:

لعل من أهم ما يُميِّز عمل (المستشرقين الألمان) هو اهتمام بعضهم بالدقة والضبط في التحقيق، حينما استعانوا بعلماء وأساتذة من العرب المسلمين كشيوخ الأزهر، وفي مقدمتهم الشيخ محمد عبده (ت1323هـ/1905م)، ومن الأساتذة المبدعين المحسوبين على جهود الألمان في هذا المجال الأستاذ فؤاد سزكين[6] الذي لم تكن جهوده في التحقيق فحسب بقدر ما كان مؤسساً لإحياء التراث ومكتشفاً لمخطوطاته ومسروقاته بعمل مؤسسي عملاق بإنشاء معهد متخصص ومكتبة ومتحف في جامعة فرانكفورت في ألمانيا، ثم في إسطنبول بوقف علمي ومكتبة ومتحف، ومن الأمثلة كذلك على اهتمام الاستشراق الألماني بضبط التحقيق العلمي ما عمله المستشرق سخاو حينما أرسل مسودات مطبوعة من تحقيقه إلى وزير المعارف المصرية آنذاك فخري باشا لعرضه على علماء الأزهر لمراجعته، فكان الشيخ محمد عبده أحد العلماء الذين راجعوا وصححوا أكثر من مائة وخمسين موضعاً، وكان هذا عكس واقع عموم الاستشراق الغربي الذي لم تكن له اتصالات أو استعانة بالعرب المسلمين[7].

ويُميِّز بعض الباحثين من المسلمين بين الباحثين المستشرقين الإنجليز والفرنسيين والهولنديين من جهة، والألمان من جهة أخرى بمزايا وفروقات أو اختلافات في بعض الأهداف والدوافع، لعل هذه من أبرزها:

 لم يخضع الاستشراق الألماني عند مقارنته بغيره - وذلك حسب رأي كثيرٍ من الباحثين - لغايات سياسية أو استعمارية أو دينية كالاستشراق في بلدان أوروبية أخرى... فألمانيا لم يتَح لها أن تستعمر البلاد العربية أو الإسلامية، ولم تهتم ألمانيا مقارنةً بغيرها بنشر الدين النصراني في الشرق. لذلك لم تُؤثِّر هذه الأهداف في دراسات المستشرقين الألمان، وظلت محافظة في الأغلب على التجرد والروح العلمية. وإذا ظهر في بعض الدراسات الاستشراقية الألمانية بعض الانحراف في الرأي أو الخطأ فهذا أمر لا يمكن تعميمه في الدراسات كلها حسب قول رائد أمير[8].

 لم تكن جميع دراسات المستشرقين الألمان عن العرب والإسلام والحضارة الإسلامية العربية متصفة بروح عدائية، بالرغم من وجود بعض المستشرقين الألمان غير المنصفين ممن لديهم آراء خاطئة عن الإسلام والتراث العربي الإسلامي... فالاستشراق الألماني بعمومه لم يعرف مستشرقين جعلوا ديدنهم عداء الإسلام، وتعمَّدوا الدس والتشويه في دراساتهم، بل على العكس رافقت دراساتهم روحُ إعجاب وتقدير وحب وإنصاف، وتجد هذه الروح عند رايسكة الذي سمى نفسه شهيد الأدب العربي، وتجدها عند جورج جاكوب GEORG JACOB (1862 - 1937م) في كتابه أثر الشرق في العصر الوسيط[9]، كما هي عند زيغريد هونكة في كتابها شمس العرب تسطع على الغرب.

 يقول الدكتور رائد عن بعض جوانب التميُّز الألماني: كانت للألمان علاقات طيبة مع الدولة العثمانية، من خلال دراساتنا واستقرائنا لتاريخ ألمانيا وعلاقاتها بالعالم الإسلامي. وعند استعراض سِيَر كثير من المستشرقين، لا سيما المستشرقون الألمان في غالبيتهم، وتتبُّع أنشطتهم الاستشراقية نجد أنها اتسمت بالعلمية أكثر من أنشطة المستشرقين الآخرين، وهذا لا يعني أن الاستشراق الألماني خالٍ من الأهداف الاستشراقية المعروفة من توجيه العديد من الافتراءات حول الإسلام ورموزه... التي تُرضي اللاهوتيين، وكتاب تاريخ الشعوب الإسلامية لبروكلمان المتوفى عام 1956م، دليل على عدم النزاهة المطلقة لدى المستشرقين الألمان[10].

 ويقول الدكتور رائد عن نزاهة وسائل الألمان في الحصول على المخطوطات التراثية واختلافهم عن غيرهم ببعض الوسائل: «لقد تميَّز الألمان عن باقي المستشرقين الأوروبيين أنهم جمعوا المخطوطات من خلال طريق واحد هو الإهداءات والشراء، بعكس المستشرقين الإنكليز والفرنسيين... الذين تعددت طرقهم للجمع منها الاعتداء والسرقة... وهذا ما لم يثبت عن الألمان، حيث كان عدد المخطوطات حتى مطلع القرن الثامن عشر قليلاً، وبعد ذلك الزمن دخلت لألمانيا كميات هائلة من المخطوطات الشرقية النفيسة، لا يُحصى عددها في حوزة المكتبات الألمانية حتى منتصف القرن العشرين من خلال الشراء والإهداء»[11].

وحول تحقيق المخطوطات والتأليف تحديداً من قبل عموم المستشرقين فإن مما يجب ملاحظته هو التفريق بين تحقيق مخطوط وتأليف كتاب من أحدهم، فالتحقيق يُعدُّ الموضوع الآمن كما يُقال Safe Supject سواء حققه مسلم أم غير مسلم، ما دام أن التحقيق لا يتجاوز إخراج المخطوط إلى كتاب مطبوع، في حين يعطي التأليف مساحات من الاجتهادات الخاطئة بقصد أو بغير قصد، وهذا ما يظهر بوضوح على سبيل المثال بين شخصية المستشرق الألماني بروكلمان (المؤلف) في كتابه «تاريخ الشعوب الإسلامية»، وبين بروكلمان (المُحقِّق) في «طبقات ابن سعد» أو المُحقِّق في غير هذا من المخطوطات التي قام بها.

وعن هذا كتب كثير من الناقدين للمستشرق بروكلمان حول كتابه (تاريخ الشعوب الإسلامية) حينما أورد فيه كثيراً من المغالطات والافتراءات حول الإسلام ونبوة الرسول محمد #، بما يختلف عند المقارنة مع كتابه الآخر الذي نال شهرته بين الأوساط العربية والإسلامية (تاريخ الأدب العربي) الذي وَصف فيه مئات من المخطوطات المحفوظة في خزائن العالم بأمانة علمية، ومثله كان التحقيق في كتاب طبقات ابن سعد مع بقية زملائه من المستشرقين؛ فقد تميَّز الاستشراق الألماني بجمع المخطوطات وتحقيقها وفهرستها ونشرها بأمانة علمية خلافاً للتأليف[12].

وبالرغم من هذا الواقع العام للاستشراق في ميدان التأليف فإن لبعض المستشرقين كتاباتٍ علميةً موضوعيةً منصفةً حول التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية وتراثها، ومن ذلك كتاب غوستاف لوبون (حضارة العرب) مع بعض ما فيه من أخطاء، وكتاب زيغريد هونكة (شمس الله تشرق على الغرب) حسب الترجمة الصحيحة للعنوان، وهو أيضاً كتاب لا يخلو من هنَّات علمية[13].

ومع ما سبق من تشخيص مختصر تضمَّن بعض فوارق الاستشراق الألماني عن غيره، إلا أن الإضافة في التشخيص مما تكتمل به الصورة؛ إذ إن صدور كُتب وموسوعات علمية وتاريخية بأعمال استشراقية ألمانية وعلى رأسها ثمان (8) مجلدات أو أجزاء من كتاب الطبقات الكبرى لابن سعد تمنح المزيد من التشخيص، فالدارس لحقيقة هذا العمل الاستشراقي في مجال التحقيق دون التأليف يقول بإنصاف وعدالة بعيداً عن التحيز في المدح أو القدح: «بعض الدراسات كانت تقترب من صفة النزاهة والحياد، إلا أنها في النهاية وبكل المقاييس تبقى مظهراً من مظاهر الاحتواء الثقافي، وقد نجحت أيضاً في فرض شكلية معينة من التحقيق والتقويم والنقد، وأوجدت القدوة والأنموذج، ويمكن القول: إن معظم الكتابات العربية المعالجة للتراث قد سارت على هذا النهج، ولم تتجاوزه إلا في القليل النادر، إلى درجة إيجاد ركائزَ ثقافيةٍ عربيةٍ مُعبِّرةٍ، ومُتبنِّيةٍ لوجهة نظرها، ومدافعةٍ عن المواقع الثقافية التي شَغَلتها، وحتى في الجامعات والمؤسسات العلمية لا يزال الخضوع والاحتكام للقوالب الفكرية التي اكتسبها المثقفون المسلمون من الجامعات الأوروبية»[14].

وأقول: بالرغم من هذا القول للدكتور رائد حول الاحتواء والخضوع والاحتكام لمنهجية الغرب في تحقيق كتب التراث، إلا أنني أرى أنه عمَّم ولم يَسنُد قوله بأدلةٍ علمية حول منهج المسلمين والعرب في تحقيق تراثهم المتأخر بعد أعمال المستشرقين، وأن التحقيق ما يزال أسيراً لمنهج الغرب! فهذا القول مما يُتحفَّظ عليه؛ ذلك أن واقع البحوث والنشر والتأليف والأبحاث والدراسات ومسارها العلمي لدى المسلمين في عصورهم المتأخرة بعد حقبة الاستشراق والاحتلال يختلف إلى حدٍّ كبير بمنهجيته العلمية عن منهج المستشرقين، لا سيما أن معظم الباحثين المسلمين عادوا إلى مناهجهم الخاصة بهم وبتراثهم، وإن كان بعضهم لا يزال أسيراً للقوالب الفكرية الغربية، لكن ما لدى المسلمين من منهجٍ علمي رصين سابق لغيرهم يُعدُّ كافياً، لا سيما مع لغتهم الخادمة لهم في هذه الاستقلالية العلمية، بل إن من علماء المسلمين من يرى أن منهج المستشرقين مستمدٌ من منهج المسلمين في التحقيق لكن دون الأخذ بكل معاييره.


 


[1] يُلحظ اختلاف كتابة حروف أسماء هؤلاء المستشرقين فيما بين الكتابات العربية، وفي معجم أسماء المستشرقين ليحيى مراد، وردت كالتالي: «هوروفيتش، وليبيرت، وسترستين، وبروكلمان، ومايسنر، وميتفوخ، وشواللى»، ص650.

[2] انظر مقدمة إحسان عباس في الطبقات الكبرى لابن سعد السيرة النبوية الشريفة، بيروت: دار صادر: 1/16.

[3] انظر مقدمة إحسان عباس في الطبقات الكبرى: 1/16.

[4] انظر: مقدمة زياد محمد منصور، في الطبقات الكبرى لابن سعد من ربع الطبقة الثالثة إلى منتصف الطبقة السادسة من التابعين، ص10 - 11.

[5] انظر: مقدمة عبد العزيز عبد الله السلومي، في الطبقات الكبرى الطبقة الرابعة من الصحابة: 1/9.

[6] هو البروفسور الدكتور محمد فؤاد سزكين تركي الأصل، مولود سنة (1924م)، والذي كان انتقاله لألمانيا بوابة علمية ومعرفية للتراث العربي والإسلامي، وقد أسس وأشرف على معهد (تاريخ العلوم العربية والإسلامية) وأنجح مكتبة المعهد والمتحف الحضاري لتاريخ التراث الإسلامي في جامعة غوته - فرانكفورت في جمهورية ألمانيا الاتحادية، وقد أصدر أكثر من ألف مجلد تخصُّ العلوم العربية والإسلامية، واشتهر كتابه (تاريخ التراث العربي) 18 مجلداً مرجعاً في التراث العربي الإسلامي. انظر: علي بن إبراهيم النملة، محاضرة بعنوان: (محمد فؤاد سزكين: انطلاقة عالم)، أسبوعية الأستاذ الدكتور عبد المحسن القحاني، بتاريخ 8 رجب 1443هـ الموافق (9 فبراير 2022م).

[7] انظر: رائد أمير عبد الله، بحث بعنوان: (المستشرقون الألمان وجهودهم تجاه المخطوطات العربية الإسلامية)، ص20.

[8] انظر: رائد أمير عبد الله، ص12 - 13.

[9] انظر: رائد أمير عبد الله، ص12 - 13.

[10] انظر: ابن يوسف شتيج، بحث بعنوان: (جهود المستشرقين في تحقيق المخطوطات العربية المستشرقون الألمان نموذجاً)، ص85 - 86. وانظر: رائد أمير عبد الله، ص7 - 8.

[11] انظر: رائد أمير عبد الله، ص12 - 13.

[12] انظر حول الفرق بين التحقيق والتأليف بأنموذج: رائد أمير عبد الله، ص7 - 8.

[13] طُبع الكتاب بترجمته العربية بعنوان (شمس العرب تسطع على الغرب) إذ القوميون العرب ربما أرادوا الفضل للعرب ابتداءً.

[14] انظر: رائد أمير عبد الله، ص12.

 

 


أعلى