فلعل من مقاصد الحج أن يُدعى المسلم إلى هذا المكان، الذي يتجلى فيه كرم الله سبحانه وعطاؤه أكثر من غيره من الأماكن، فتُكثَّف عليه العبادة في أيام معدودات ليعطى من هذه النعم وغيرها أكثر مما يعطى في بلده الذي جاء منه.
الحمد لله المنعم المتفضل، الذي عطاؤه منح، ومنعه منح، يبتلي ليمنح، ويعافي
ليختبر،
{وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْـخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء:
35]
{وَبَلَوْنَاهُم بِالْـحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ} [الأعراف:
168].
اختص الله بلده الحرام بكثير من الخصائص والأحكام، وحفل بالعديد من الحوادث العظام
على مر الدهور والأعوام، وألَّف الجهابذة فيه كتباً، وألقى فيه المفوهون خُطَباً،
وستجد تحت عنوان (أخبار مكة) عدداً من المؤلفات لثلة من المؤرخين، كالأزرقي
والفاكهي وغيرهما، تكلمت عن خصائصه وأحكامه وحوادثه وفضائله جملة، وفضائل أشياء
مخصوصة فيه.
فقد جعل الله له أحكاماً فقهية تخصه، ليست لغيره؛ فهو حرم يحرُم صيده وقطْعُ شجره،
وأخذ لُقَطَته، وغير ذلك من الخصائص والأحكام الفقهية المعلومة المعروفة المسطَّرة
في كتب العلم.
ومن خصائص هذا البلد الحرام أن جعل أفئدةً من الناس تهوي إليه، وبارك في أرزاقه
استجابةً لدعوة إبراهيم عليه السلام، إذ دعا أولاً لتلك الأرض المقفرة أن تكون
بلداً آمناً مرزوقاً: {وَإذْ قَالَ إبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا
آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ} [البقرة:
126]،
وقال عليه السلام: {رَبَّنَا إنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ
ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْـمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ
أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ
لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم:
37]،
ثم جدد الدعوة له بعد أن أصبح بلداً: {وَإذْ قَالَ إبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ
هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ}
[إبراهيم:
35].
ومن خصائصه أنَّ مَن أراد فيه ظلماً - ولو مجرد إرادة تدور في الخاطر - يذقه الله
من عذابٍ أليم: {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإلْـحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ
عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج:
25].
ومن خصائصه أن أحاط الله الحج إليه بسياج جغرافي فوقَّت المواقيت المكانية، وبنطاق
زماني يسبقه، فعين للحج شهوراً {الْـحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ} [البقرة:
197].
والمتأمل في شأن البلد الحرام - الذي هو أحب البقاع إلى الله - يجد أنه سبحانه
وتعالى خصه بخاصية فريدة عجيبة؛ وهي أن الله سبحانه وتعالى يعطي فيه من النعم
الأصلية كنعمة الهداية، والعلم النافع، والعمل الصالح، والحكمة، ويمنَح من مراتب
العبـودية كرتبة الإيمان والإحسان، والشهادة، والصدِّيقيَّة، وغيرها، أكثر وأسرع
مما يعطي في غيره من بقاع الأرض الأخرى.
ويستجيب الله فيه لمن طلب منه هذه النعم والمراتب، أسرع مما يستجيب في غيره من
البلدان؛ فالله سبحانه وتعالى يعطي هذه النعم في كل بلد من الأرض، ولكنه يعطيها في
مكة أسرع وأكثر والله أعلم.
فها هو سبحانه وتعالى - مثلاً - يُعطي نبيَّه إبراهيم عليه السلام خارج مكة رتبة
الإسلام والإيمان، والإحسان، والنبوة والرسالة، في ثنايا ابتلاءات كبيرة، كاد بعضها
أن يأتيَ على النفس، كمحاولة حرقه بالنار في العراق، وتُوجت هذه الابتلاءات في مكة
بترك محبوباته (لتَخْلص محبته وخلته لله وحده)؛ فقد ترك هاجر وابنها إسماعيل
وحيدهما في العراء، بلا غطاء ولا وِطاء، ولا غذاء ولا ماء، ولا كساء، ولا دواء!
وغاب عنهما سنين، لم تكتحل بهما عينه، ولم تسعد بهما نفسه.
ثم ابتلاه ثانية في البلد الحرام بما هو أشد... ابتلاه بذبح هذا الابن حين ترعرع
وأطاق السعي مع أبيه: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِـحِينَ
100
فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ
101
فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إنِّي أَرَى فِي الْـمَنَامِ
أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ
سَتَجِدُنِي إن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ
102
فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ
103
وَنَادَيْنَاهُ أَن يَا إبْرَاهِيمُ
104قَدْ
صَدَّقْتَ الرُّءْيَا إنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْـمُحْسِنِينَ
105
إنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْـمُبِينُ
106
وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ
107
وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ
108
سَلامٌ عَلَى إبْرَاهِيمَ
109
كَذَلِكَ نَجْزِي الْـمُحْسِنِينَ
110
إنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْـمُؤْمِنِينَ
111
وَبَشَّرْنَاهُ بِإسْحَاقَ نَبِيًّا مِّنَ الصَّالِـحِينَ
112
وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إسْحَاقَ وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِـمٌ
لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ} [الصافات:
100
-
113].
فلما فرغ قلبه مِن محبة مَن سوى مولاه سبحانه استحق أن يمنحه ربه رتبة الخُلَّة
(وهي أعلى الرُّتب).
وهذا ابنه، ودعوته المستجابة: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ}
[البقرة:
129]
نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يُملأ قلبه في مكة بكل النعم الأصلية بعد ابتلاءات
عظيمة، فقد أمضى في مكة من عمره الدعوي المليء بالصعاب أكثر وأشد مما عاشه في
المدينة، وهو ما استحق معه أن ينعم الله عليه برتبة الخلة، ففي حديث أبي سعيد
الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس على المنبر فقال:
«...
ولو كنت متخذاً خليلاً غير ربي لاتخذت أبا بكر ولكن أخوة الإسلام ومودته»[1]،
ويُثْبت عليه الصلاة والسلام خلته للرحمن جل وعلا كما في حديث عبد الله بن مسعود
رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
«وقد
اتخذ الله عز و جل صاحبكم خليلاً»،
وفي رواية عنه أنه قال:
«إن
صاحبكم خليل الله»[2]،
وفي حديث جندب رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس
وهو يقول:
«إني
أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل، فإن الله تعالى قد اتخذني خليلاً كما اتخذ
إبراهيم خليلاً، ولو كنت متخذاً من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، أَلَا وإن
من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، أَلَا فلا تتخذوا القبور
مساجد، إني أنهاكم عن ذلك»[3].
ولذلك فلعل من مقاصد الحج أن يُدعى المسلم إلى هذا المكان، الذي يتجلى فيه كرم الله
سبحانه وعطاؤه أكثر من غيره من الأماكن، فتُكثَّف عليه العبادة في أيام معدودات
ليعطى من هذه النعم وغيرها أكثر مما يعطى في بلده الذي جاء منه.
فإذا تأمل الحاج هذه الخاصية لمكة ألحَّ على الله سبحانه بالدعاء أن يُكثر له من
النعم كلها الأصلية والفرعية، خاصة الأصلية، وأن يرفع مقامه في العبودية، فربما
استجاب الله له في هذه الرحلة القصيرة، وضاعف علمه أو حكمته أو تقواه أو عمله
الصالح، أو رفع درجته، فجاء مسلماً ورجع مؤمناً، أو جاء مؤمناً ورجع محسناً، أو جاء
محسناً ورجع صدِّيقاً.
وسُنة الله في النعم الأصلية ألَّا يعطيها عبده حتى يبتليه ويختبره، ولذلك اشتد
الابتلاء على إبراهيم عليه السلام في مكة أكثر من العراق والشام، واشتد الابتلاء
على محمد عليه الصلاة والسلام في مكة أكثر من المدينة وذلك ليصلا إلى مرتبة الخلة
والله أعلم.
فلهذا يشتد الابتلاء والاختبار على الحاج في مكة تمهيداً لعطايا يرجوها من الله عز
وجل إن صبر واتقى الله سبحانه، يقول الله عز وجل: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي
أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إثْمَ عَلَيْهِ وَمَن
تَأَخَّرَ فَلا إثْمَ عَلَيْهِ لِـمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا
أَنَّكُمْ إلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [البقرة:
203].
فمعلوم أن من تعجل في يومين فقد خفف الله عنه فلا إثم عليه، ولكن قد يظن القارئ أن
يقال في حق المتأخر: ومن تأخر فله أجرٌ عظيم مثلاً! ولكن الله سبحانه وتعالى في هذه
الآية نفى الإثم أيضاً عن هذا المتأخر في الانصراف من الحج! الزائد يوماً في
العبادة! وأضاف إليه شرطاً جديداً وهو تقوى الله عز وجل ﴿لِـمَنِ اتَّقَى﴾
على القول بأن اشتراط التقوى في هذه الآية يعود على المتأخر فقط؛ وذلك - والله أعلم
- لأنه سيزيد له في الابتلاء ليزيد له في العطاء، إذ سيتعرض لمزيد من الفتن، كفتنة
النساء وغيرها.
فمن تأخر فسيجد عطاءً أكبر ولكن بعد ابتلاء أكثر، والله أعلم.
فوطِّن نفسك - أخي الحاج! - على التقوى، وتزود منها، واصبر عن الشهوات المحرَّمة
تَفُز بعطايا ربانية لا حصر لها. وعليك بالدعاء والإلحاح في الطلب، فربك غني كريم،
جواد عظيم.
[1] أخرجه البخاري (3454)، ومسلم (2382).
[2] أخرجه مسلم (2383).
[3] أخرجه مسلم (532).