أظهرت هذه الحالة بالتزامن مع الشلل السياسي العربي والإسلامي وانشغال العالم بالحرب الأوكرانية أن دولة الاحتلال الصهيوني تنكمش وتحاول تقليل مجازفتها وتغولها في حال فقدت رعاتها ودعمهم
قامت حركة التحرر الفلسطيني على قاعدة سياسية واحدة هدفها طرد المحتل الإنجليزي
والصهيوني من فلسطين التاريخية بعد هزيمة العثمانيين إثر الحرب العالمية الأولى عام
1918م، ويمكن الاستبحار في السرد التاريخي للتعرف على التركيبة السياسية الفلسطينية
آنذاك التي ورثت الهزيمة العثمانية وأُجبرت على خوض معركة تحرر كان عنوانها في
مراحلها الأولى شعبوياً جهادياً ارتبط بقدسية المكان وهوية المشروع الاستيطاني
اليهودي في فلسطين، وقد توجت هذه المرحلة من حالة التحرر الفلسطيني بانعقاد المؤتمر
القومي الأول في القدس عام 1919م وصدر عنه ميثاق نص على رفض وعد بلفور والهجرة
الصهيونية والانتداب البريطاني في فلسطين.
في أبريل 1920م انطلقت شرارة الثورة في القدس وكانت موجهة بالدرجة الأولى ضد
التجمعات اليهودية في المدينة، لكنها واجهت القمع من قبل البوليس الإنجليزي الذي
شكَّل لجنة لفضِّها عرفت باسم (لجنة بالن)، لكن تلك الشرارة التي قمعها الإنجليز في
مهدها أثارت مخاوف الصهيونية العالمية التي ضغطت على الإنجليز لتنصيب المندوب
السامي البريطاني اليهودي (هربرت صموائيل)، وكان ذلك يجسد بداية إشهار التبني
الرسمي الإنجليزي للمشروع الصهيوني، فقد دعم صموائيل هجرة اليهود من أوروبا إلى
فلسطين المحتلة، وقد نشرت جريدة الدفاع الفلسطينية في تلك الحقبة تصريحات له يشجع
فيها اليهود على القدوم إلى فلسطين بصفتها (وطن الرخاء)، تبع ذلك خطوات شعبية
فلسطينية تجسدت في المؤتمرات واللقاءات الوطنية لبلورة مشروع سياسي واضح المعالم
للتصدي لعمليات التهويد التي ترعاها بريطانيا، وفي يناير 1934م تأسس حزب الدفاع
الفلسطيني برئاسة راغب النشاشيبي، ثم ظهر الحزب العربي الفلسطيني بقيادة جمال
الحسيني ومفتي القدس الحاج أمين الحسيني الذي تحول فيما بعد لأهم قادة الثورة
الفلسطينية، وتعدُّ تلك الحقبة ذروة النشاط الوطني الفلسطيني ضد الإنجليز واليهود
حتى انطلق ما يعرف بــ (جماعة القائد عز الدين القسام) في 20 نوفمبر 1935م.
عقب تلك النقلة النوعية في العمل الجهادي الفلسطيني انطلقت ثورة البراق في أبريل
1936م التي تُوِّجت بالإضراب الشهير الذي استمر 183 يوماً، وكلما زاد زخم المقاومة
الفلسطينية وتنوعت مشاربها وهويتها الفكرية والسياسية زاد الإنجليز في ترسيخ
الاستيطان اليهودي، إلى أن انتهى هذا المسار بمعركة القسطل الشهيرة في القدس
المحتلة التي استشهد خلالها القيادي الفلسطيني عبد القادر الحسيني، الذي تلا رحيلَه
حالة صدمة عمت الشعب الفلسطيني، تبعها دخول الجيوش العربية عبر ثلاث جهات هي (جيش
الإنقاذ) و (الجهاد المقدس)، و (اللجان المقاومة الفلسطينية)، وبالتزامن مع هذا
الحدث أعلن المندوب البريطاني مغادرة فلسطين من ميناء حيفا، وأعلن اليهود دولتهم
وأصبح التحرك الفلسطيني السياسي رهينة بالإطار السياسي الذي فرضته عليهم جامعة
الدول العربية التي أصبحت هي الداعم الوحيد لتحرير بلادهم.
رغم أن الرواية التاريخية الرسمية تختلف كثيراً عن الرواية الشعبية الفلسطينية حول
طبيعة سرد الحقائق في زمن النكبة والتعاطي العربي معها وهو لا يختلف كثيراً عن
واقعنا المعاصر؛ إلا أن بذور المقاومة بشقيها الوطني والجهادي التي وضع أسسها كلٌّ
من عبد القادر الحسيني والشاب السوري اليافع عز الدين القسام، لا تزال هي القاعدة
الأهم لتجربة التحرر الفلسطيني، لذلك نجد في قطاع غزة تركيبةً من الفصائل المتنوعة
التي تختلف في ميولها الفكرية والسياسية لكنها تتفق على هدف وحيد هو تحرير فلسطين
من بحرها إلى نهرها، وفي مدينة القدس المحتلة التي تُعَد أهم مناطق الاحتكاك مع
جماعات الاستيطان اليهودي منذ الاحتلال البريطاني لفلسطين، يتم توثيق أفضل نماذج
المقاومة الفلسطينية فقد جسد ذلك ما يُعرَف بــ (حملة الفجر العظيم) التي يتم
خلالها حشد الفلسطينيين من الضفة المحتلة ومناطق الــخط الأخضر للرباط في المسجد
الأقصى، ويتم تنظيم هذه الحملة لتعويض العجز الإسلامي والعربي للتصدي لحملات
المستوطنين الصهاينة التي تستهدف تهويد المسجد الأقصى وفرضت التقسيم الزماني
والمكاني، ومن ذلك أيضاً أداء طقوس توراتية خاصة بجماعة أمناء الهيكل، فقد حاولت
بكل ثقلها السياسي بالتزامن مع عيدالفصح اليهودي المقرر في منتصف أبريل، ترسيخ
وجودها داخل المسجد الأقصى؛ إلا أن عشرات الآلاف من المرابطين أحبطوا هذه المحاولات
عبر تضحياتهم التي بلغت 16 شهيداً ومئات الإصابات منذ بداية شهر رمضان المبارك.
أظهرت هذه الحالة بالتزامن مع الشلل السياسي العربي والإسلامي وانشغال العالم
بالحرب الأوكرانية أن دولة الاحتلال الصهيوني تنكمش وتحاول تقليل مجازفتها وتغولها
في حال فقدت رعاتها ودعمهم؛ فمنذ إدراكها أنها يمكن أن تخسر الدعم الأمريكي الغربي
أو الروسي بسبب أولويات تلك الأطراف حالياً، لم يعد باستطاعتها المجازفة والتصعيد؛
فقد وصل الأمر إلى أن أصدر نفتالي بنيت رئيس الوزراء الصهيوني قراراً بمنع دخول
الجماعات الاستيطانية اليهودية إلى ساحات الأقصى حتى نهاية رمضان عقب أربعة أيام من
الصمود المتواصل من قبل المرابطين، وهذا الأمر يجسد أهمية العمق الشعبي الفلسطيني
والركون إليه وقدرته على الثبات وإحباط مخططات العدو الذي امتهن إذلال السياسيين
واستدراجهم لحالة من الإلهاء والإشغال التي تهدف إلى التغطية على الواقع الإستيطاني
المرير الذي تعيشه فلسطين المحتلة.
هناك ثلاثة مسارات تقلق الكيان الصهيوني:
أولها: انشغال حلفائها التقليديين في الحرب الأوكرانية التي تعد بداية معركة طويلة
الأمد بين تحالف شرقي يضم روسيا والصين وتحالف غربي تقوده واشنطن، وهذا الأمر
سينعكس عليها، وبدأ ذلك يتجسد بتصريحات روسية متتالية تنتقد السياسيات الصهيونية
بسبب موقف الدولة العبرية من الحرب وعدم اتخاذها موقفاً واضحاً منها، لذلك تحاول
جاهدة الانغماس في المحيط العربي عبر مسارات التطبيع الأمنية والاقتصادية والسياسية
لتعويض هذه الخسارة.
أما المسار الآخر: فيتعلق بضعف الائتلاف الحكومي وإمكانية انهياره في أي لحظة؛
خصوصاً عقب أحداث المسجد الأقصى، وتعليق القائمة العربية الموحدة مشاركتها في حكومة
بنيت.
أما المسار الثالث: فهو حالة الصراع داخل حركة فتح التي تقود السلطة الفلسطينية،
والتوقعات بانهيارها مع رحيل الرئيس الفلسطيني محمود عباس، وثمة محاولات من قبل
الحكومة الصهيونية لترسيخ حسين الشيخ بديلاً عنه، لكن قوة محمد دحلان الإقليمية
وضعف الشيخ قد يفسدان هذا المخطط؛ لا سيما في ظل وجود منافسة من قبل ماجد فرج الذي
يدير جهاز المخابرات الفلسطينية على منصب رئاسة السلطة، وفي كل الأحوال فإن القبول
الشعبي لهذا المثلث ضعيف جداً ويدفع تجاه انهيار السلطة؛ لذلك ينصبُّ تركيز الرئيس
الفلسطيني محمود عباس على تسجيل خروج آمن لأبنائه من الضفة المحتلة.
لذلك يمكن القول: إن الكتلة الغربية بكافة مكوناتها تتجه حالياً للانشغال عن دعم
الاحتلال الصهيوني، ويتم تعويض ذلك عبر توسيع دوائر التطبيع بصفته المسار الوحيد
للقبول بشرعية هذا الكيان على المستوى الشعبي العربي والإسلامي، فقادة الكيان
الصهيوني يعلمون جيداً أن معركة بقائهم هي مع الشعوب وليس مع الحكومات؛ لكنهم
يبحثون عن جسور للعبور عبر التطبيع وتدجين الوعي العربي والإسلامي للقبول بهم، لذلك
ومع اختلاف الروايات الرسمية كثيراً عن الواقع فإن الرواية الشعبية هي الرواية
الحقيقية الوحيدة التي يمكن الثقة بها والرهان عليها في إقرار مشروعية الحق
الفلسطيني والحفاظ على هذه القضية ضمن أولويات كل مسلم.