• - الموافق2024/11/21م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
عن أية علمانية يتحدثون؟

لا نحتاج إلى عناء التفكير لكي نقول لهذه الدول التي تتبجح بالعلمانية والحرية الدينية والمساواة، إنها دول دينية بالأحرى


قال إريك زمور، المرشح الفرنسي للرئاسة الفرنسية، في تصريح صحفي: «إذا أصبحتُ رئيساً لفرنسا فسأمنع تسمية المواليد بـ (محمد)»، وفي معرض جوابه عمَّا إذا كان سيطلب من المسلمين إنكارَ دينهم حتى يُقبَلوا ضمن الجمهورية الفرنسية قال: «سأفعل ما فعله نابليون بونابرت مع اليهود أثناء الثورة الفرنسية»؛ إذ كان نابليون قد شرع قانوناً يمنع تسمية المولودين في فرنسا بأسماء غير فرنسية. كما أعلن ماكرون أن فرنسا ستموِّل المدارس النصرانية في الشرق الأوسط. أما في الهند - الدولة العلمانية حسب الدستور الذي ينص على الفصل بين الدين والدولة، ويكفل حرية الملبس للمواطنين - فتقوم هذه الدولة، بين فينة وأخرى، بإجراءات وتشريعات عنصرية ضد المسلمين، لعل آخرها قرار حظر الحجاب في المدارس والجامعات، بولاية كارناتاكا جنوب البلاد، الذي أثار موجة غضب واستنكار واسعة بالولاية، وأدى إلى صدامات بين الهندوس والمسلمين.

بدأت الإرهاصات الأولى للعلمانية مع عصر النهضة الأوروبية، والثورة على الفكر (القروسطي) الذي تمثله الكنيسة الكاثوليكية، وانطلاق حركة الإصلاح الديني بعد ظهور مذهب جديد هو البروتستانتية على يد مارتن لوثر. وبعد حرب الثلاثين سنة خلال القرن السابع عشر بين الكاثوليك والبروتستانت، تم التوقيع على (اتفاقيات وستفاليا) التي تعدُّ مدخلاً للحداثة؛ إذ أقرت المساواة بين المذهبين، وأنهت الصراعات الدينية، وأسست للتعددية الدينية والسياسية، في إطار مبدأ أن (لكل منطقة دينها).

لم يعمِّر مشروع العلمانية هذا طويلاً، فسرعان ما تعرض لضربة موجعة بعد الحرب العالمية الأولى، بعد ظهور ثلاث ديكتاتوريات في ألمانيا وإيطاليا وإسبانيا. إذ تم التراجع في مجال الحريات والحقوق والعلمانية، مقابل تصاعد المد القومي والديني العنصري. فهذا فرانكو، الديكتاتور الإسباني، حمل لقب caudillo الذي حمله القادة النصرانيون إبَّان حرب الاسترداد ضد المسلمين في الأندلس. وعندما ثار هذا الأخير ضد النظام الجمهوري، ناصرته الكنيسة وعدَّت ذلك بعثاً للكاثوليكية، كما وصف الأساقفةُ الإسبان الحرب الأهلية التي يقودها فرانكو ضد الجمهوريين، بأنها حرب مقدسة وعادلة، وأنها حرب ضد الكفار الجمهوريين، وكان الشعار الذي رفعه جيش فرانكو أثناء هذه الحرب هو: «من أجل القديس يعقوب ونصرة إسبانيا». وبعد انتصار فرانكو في الحرب عام 1939م، تلقَّى رسالة من البابا بيوس الثاني عشر تحن لزمن الحروب الصليبية يقول فيها: «نرفع قلوبنا إلى الرب لنشكره من أعماقنا... على هذا النصر الكاثوليكي... نتمنى لهذا البلد الحبيب... أن يستعيد بعزم متجدد تقاليده المسيحية العتيدة... إلخ»، وردَّ فرانكو على هذه الرسالة، قائلاً إنه خاض حرباً صليبية ضد أعداء الدين والوطن والحضارة الإنسانية.

إن الجدل الدائر اليوم حول العديد من التشريعات والتصريحات المشحونة بالنزعة الدينية، الصادرة عن بعض الدول المسماة (علمانية) ضد الأقليات المسلمة فيها، يدفع إلى مساءلة حقيقة وواقع العلمانية من حيث هي مبدأ وسياسة في هذه الدول، ومراجعة مفهوم العلمانية، بما هي فصل للدين عن الدولة، واستقلالية وحيادية الدولة عن أية أيديولوجيا، والإقرار بالتعددية الدينية والسياسية، والتحرر من الدوغمائية، والتطبيق العملي لمبادئ الديمقراطية والعقلانية، وضمان الحرية وحق الاختلاف الثقافي... إلخ.

والمفارقة هنا، هي أن الدولتين اللتين تثيران كل هذا اللغط والجدل، وهما فرنسا والهند، تعدان نموذجاً في العلمانية، وينص دستورهما عليها، وهو ما يجعل الدول التي تدعي العلمانية اليوم في تناقض صارخ بين القيم العلمانية، والخطابات والتشريعات الدينية المنحازة. وهذه الخلاصة هي التي عبر عنها جواهر لال نهرو سابقاً وقال: «يبدو أننا في الهند نملك شخصية منفصمة؛ فنحن نتحدث عن اللاعنف وعن مدنيتنا وثقافتنا بينما ننحدر في سلوكنا اليوم إلى مستوى من العنف غير مدني أبداً».

الواقع أن انزعاج الدول التي تتدعي العلمانية من بعض المظاهر البسيطة والشكليات الهندامية كالحجاب، يسائل قوة ومتانة ومفهوم العلمانية لدى هذه الدول؛ فأي خطر وأي تهديد يمثله سلوك بسيط يتجلى في ارتداء منديل على الرأس أو حول الجسد أو حمل أي رمز، على الدولة والمجتمع؟ أليست هذه السلوكيات والاختيارات الشخصية، تعبير عن ارتياحات الشخص، وحقه الطبيعي في حرية التصرف في جسده، كما كفلته له منظومة حقوق الإنسان، وفلسفة الحق الطبيعي، علماً بأن هذه الدول تعدُّ نفسها الحامية والساهرة على حماية وترويج حقوق الإنسان في الدول المتأخرة؟ في هذا الإطار يقول الفيلسوف الفرنسي البلغاري (تزيفتان تودوروف): «تثير الأحزاب الشعبوية، باستمرار، قضية (النزعة الإسلامو - فاشية) كما لو أن ما يعيق حياتنا - قبل كل شيء - هو مصادفة النساء المحجَّبات في الشارع!)، ويضيف أنه «لا يرى أي شيء مخزٍ أو شائن في أن تقوم النساء بارتداء الحجاب في أثناء مرافقة أبنائهن في الرحلة المدرسية».

الخطير في الأمر، هو أنه إذا كانت المدرسة - كما تقول الدول العلمانية - هي أساس ومنبت الديمقراطية وقيم الدولة، انطلاقاً من كونها تحضيراً لمواطنِ ومجتمعِ الغد المنفتح والمتعدد؛ فإن التسييس والأدلجة والتلاعب الذي يتم بعلمانية المدرسة، سينعكس حتماً على المجتمع لاحقاً، من حيث هو مجتمع رافض للآخر، ومتشبع بالعنصرية والتطرف الديني. وهو ما يضع الحداثة وخطاب القيم الكونية - على رأسها العلمانية التي تتباهى بها هذه الدول - في مأزق ويجعلها محل ريبة وشك من قبل الدول المتخلفة ودعاة العلمنة واحتذاء النموذج الغربي في التقدم، حول قدرتها على ضمان مجتمع منفتح، يحتضن كافة الأطياف الدينية والفكرية، في إطار التعددية الثقافية.

إن الإجراءات والتطورات العنصرية التي تجري في الدول العلمانية اليوم تؤكد - كما أشار إلى ذلك الفيلسوف تودوروف - تآكل الديمقراطية من الداخل. فبعد القضاء على (أعداء) الديمقراطية في الخارج بسقوط الشيوعية، ونهاية التاريخ كما يزعم فوكوياما، أصبحت الآن مهددة من الداخل؛ من لدن الشعبوية الصاعدة، التي تدفع إلى مجتمع أكثر انغلاقاً وشوفينية، وتؤجج كراهية الأجانب. وهذا ما يضع الديمقراطية أمام امتحان صعب، ويدعوها إلى مراجعة نفسها قبل أن تنقلب إلى ديكتاتورية تجر العالم مجدداً إلى حرب عالمية جديدة أبشع وأخطر.

لا نحتاج إلى عناء التفكير لكي نقول لهذه الدول التي تتبجح بالعلمانية والحرية الدينية والمساواة، إنها دول دينية بالأحرى. فالدين في هذه الدول لم يمُت أبداً، رغم السياقات التاريخية التي مرت بها، بل الملاحظ أنه يعود بقوة إلى المشهد السياسي، ويسيطر على المشاعر والوجدان، ويظهر جليّاً في القرارات الحكومية المتأثرة بالنزعة الدينية.

إذن بعد كل هذه التراجعات والانتكاسات القيمية، التي تحدث في كل حين بالدول العلمانية؛ هل ما زال رؤوس العلمانية في العالم العربي متشبثين بآرائهم ودعوتهم إلى اقتباس العلمانية ونسخ تجارب دولها، والقطع مع التراث، بزعم أن ذلك هو الحل لتجاوز مشكلات التخلف في بلدانهم؟

أليس الإسلام هو الحل، لجميع مشكلاتنا للخروج من حالة القصور والتأخر التي وضَعْنا أنفسنا فيها عندما تخلينا عن ديننا الذي سبق أن بوَّأنا سيادة العالم والحضارة؟

المسلمون أمام مصدرين للخروج من الحفرة الحضارية:

الأول: مصدر بشري تمثله الدول المسماة بـ (الحداثية)، وهو مصدر غير موثوق، وبرهن عن إخفاقات وتراجع عن المشروع الحداثي الكوني الذي بشَّر به.

الثاني: مصدر إلهي هو الإسلام، ثابت ودائم في مبادئه وقيمه وتشريعاته، أنتج مجتمعاً راقياً ومتقدماً، عندما طبقت مبادئه وتشريعاته، وجعلته دستوراً للدولة. ويشرح الأستاذ عبد الهادي بوطالب هذه المسألة قائلاً: إن ما يمنَحَه الإنسان مؤقَّتٌ ومتغيِّر؛ إذ قد يتراجع عنه في أي لحظة حسب الظروف والمزاج، فيصادره ويسحبه بالطريقة نفسها التي منحه بها. أما ما يمنحه الله للإنسان، فيتسم بالديمومة والثبات، ومن ثَمَّ لا خوف من فقدانه. وهكذا نرى أن الإسلام باقٍ هو ذاته في مبادئه وتشريعاته، منذ الوحي إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. فاختاروا - أيها المسلمون - ما الذي تريدون؟

 


أعلى