يروِّج كثير من الكتاب أن الهيمنة الأمريكية في العالم تسير في اتجاه هبوط، وأن قوَّتها تنحسر عن العالم، وهو ما شجع قوى أخرى على مناكفتها ومزاحمتها ومحاولة تغيير هيكلية النظام الدولي بدلاً من هيمنة قطب واحد إلى نظام متعدد الأقطاب.
«نحن
ندعم أوكرانيا وشعبها ليحاربوا روسيا هناك بالنيابة عنا بدلاً من أن نحاربها هنا»
هذا ما قاله السيناتور الديمقراطي البارز آدم شيف خلال جلسة مساءلة الرئيس الأمريكي
السابق ترامب في الثالث من فبراير عام 2020م، أي منذ سنتين.
ثم جاءت نائبة وزير الخارجية الأمريكي للشؤون السياسية فيكتوريا نولاند خلال جلسة
استماع في الكونغرس في الثلاثاء الثامن من شهر مارس الحالي، لتقول فيها: إن
الولايات المتحدة ستسعى إلى إلحاق
«هزيمة
إستراتيجية»
بروسيا في أوكرانيا.
وأضافت نولاند: إن واشنطن وحلفاءها يمدُّون أوكرانيا بأسلحة تساعد على مواجهة الغزو
الروسي.وبعدها في حديث لقناة الجزيرة القطرية أكدت مساعدة وزير الخارجية الأمريكي
على هذا المعنى حين قالت: إن النهاية الوحيدة المناسبة لهذه الحرب هي هزيمة القوات
الروسية، فالتحالف الذي بنيناه ضد روسيا عبر مختلف بقاع العالم بقي موحداً، مشيرة
إلى أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يجب أن يواجه هزيمة إستراتيجية بعد حرب وحشية
شنَّها دون سبب.
هذان التصريحان هما كلمة السر في فهم الموقف الأمريكي من غزو روسيا لأوكرانيا.
باختصار أمريكا تريد جعل أوكرانيا مستنقعاً لهزيمة إستراتيجية تلحقها بروسيا.
فهل هذه الفرضية صحيحة؟
هل أمريكا بالفعل كما ذهب السيناتور الديمقراطي آدم شيف تريد هذا السيناريو؟
ولماذا تريد الولايات المتحدة إلحاق هزيمة إستراتيجية بروسيا كما تقول مساعدة وزير
الخارجية الأمريكية؟
لماذا تم اختيار أوكرانيا بالتحديد لتكون ساحة لتصفية الحسابات بين أمريكا وروسيا؟
وهل روسيا ساذجة لهذه الدرج حتى تكرر سيناريو سقوط الاتحاد السوفييتي وتفككه في
المستنقع الأفغاني في الثمانينيات من القرن الماضي؟
وللإجابة عن هذه الأسئلة يجب علينا فهم عدة أمور:
الأول: رؤية أمريكا للقوة الروسية وعلاقتها باستمرار التفوق الأمريكي وتربُّعه على
عرش النظام الدولي ثم إستراتيجياتها لذلك.
الثاني: الموقف الروسي من الإستراتيجية الأمريكية، أو الإستراتيجية الروسية
المضادة.
الهيمنة الأمريكية وروسيا:
يروِّج كثير من الكتاب أن الهيمنة الأمريكية في العالم تسير في اتجاه هبوط، وأن
قوَّتها تنحسر عن العالم، وهو ما شجع قوى أخرى على مناكفتها ومزاحمتها ومحاولة
تغيير هيكلية النظام الدولي بدلاً من هيمنة قطب واحد إلى نظام متعدد الأقطاب.
والحقيقة التي لا مفرَّ منها أن القوة الأمريكية بالرغم من أنها متراجعة شيئاً
مَّا، إلا أن النظام السياسي الأمريكي لا يزال يحتفظ - إلى حدٍّ كبير - بحيويته،
ولعل قدرة هذا النظام على تغيير الإدارات والإتيان بما تطلبه المرحلة والظرف الذي
تمر به الولايات المتحدة لخير مثال.
ففي أوائل الألفية الثانية جاءت إدارة الرئيس بوش التي تحكَّم فيها المحافظون
الجدد، الذين كانت لهم أجندة في بسط النفوذ الأمريكي العسكري في العالم، واستغلوا
أحداث الحادي عشر من سبتمبر لتحقيق تلك الغاية ونجحوا في احتلال أفغانستان والعراق
بالآلة العسكرية الأمريكية المكتسِحة، وتمكَّنوا من إسقاط نظامَي الحكم في كلٍّ من
البلدين، ولكن ما لم يتوقعوه أن تنهض المقاومة الإسلامية في أفغانستان والعراق
وتكبِّد الاحتلال الأمريكي مرارة الهزيمة والفشل.
ثم أتى الشعب الأمريكي بإدارة جديدة وهي إدارة أوباما التي تمكنت من تغيير
الإستراتيجية الأمريكية الفاشلة بانسحاب عسكري من المناطق الساخنة وإدارة المنطقة
من الخلف عن طريق الوكلاء، ومن ثَمَّ شرعت أمريكا في لملمة قوَّتها المنتشرة في
العالم وإعادة توزيعها لتركز على الملفات الأكثر خطورة بالنسبة لتحقيق هدفها
الإستراتيجي وهو الحفاظ على قمة النظام الدولي إذ هي القوة الأكبر عالمياً.
وفي عصر ترامب عندما مالت إدارته إلى إستراتيجية انعزال أمريكا عن العالم ومشاكله،
وانفض حلفاء أمريكا الأقوياء عنها في أوروبا، وتراجعت المكانة الأمريكية في العالم،
وتطلعت القوى الكبرى لأخذ المكانة الأمريكية، حينها لم يمهله الشعب الأمريكي إلا
فترة رئاسية واحدة لتجيء إدارة بايدن وتنهج نهجاً مخالفاً في محاولة استعادة الهيبة
الأمريكية وتوقف التراجع الأمريكي.
فما هو هذا النهج أو بالأحرى ما هي الأولويات الإستراتيجية لإدارة بايدن؟
دأبت الإدارات الأمريكية خاصة في العقود الأخيرة وعند استلام مقاليد الحكم، أن تنشر
وثيقة تحدد فيها التحديات أمامها والإستراتيجيات التي ستنتهجها إزاء هذه التحديات،
وبعدها يقوم الرئيس الأمريكي بشرح إنجازاته وما تحقق من هذه الأهداف في خطاب سنوي
أمريكي يطلق عليه حالة الاتحاد.
وعقب تولي إدارة الرئيس الأمريكي بايدن مقاليد السياسة الأمريكية في يناير 2021م،
وبعد مرور 45 يوماً في مارس من العام الماضي، جاءت وثيقة الدليل الإستراتيجي المؤقت
للأمن القومي الأمريكي، التي تناولت موضوعات ارتبطت بمشهد الأمن العالمي وأولويات
الأمن القومي الأمريكي؛ وتتألف الوثيقة التي تُغطي جوانب أمنية عديدة من 24 صفحة
تشكل التوجيه الرسمي العلني الأول الذي يصدر عن إدارة بايدن في هذا الشأن.
كانت أبرز التحديات التي تعرضت لها تلك الوثيقة: تداعيات جائحة كورونا، والانكماش
الاقتصادي الحاد، والتغييرات المناخية، والمنافسة مع روسيا والصين، والثورة
التكنولوجية.
ونصت تلك الوثيقة على أن الولايات المتحدة يجب أن تشكل مستقبل النظام العالمي كون
ذلك ضرورة ملحَّة الآن، كما ذكرت أن أمريكا لن تتردد في استخدام القوة عند الحاجة
لذلك من أجل الدفاع عن مصالحها.
ولكن الملاحظ في تلك الوثيقة أو كما يطلق عليها الدليل الإستراتيجي المؤقت للأمن
القومي الأمريكي الذي يقع في 24 صفحة، أنه يعكس أوزان اهتمام إدارة بايدن بما تشكله
روسيا والصين من تحديات أمام إدارة بادين، فقد جاء ذكر الصين فيها بشكل مباشر 18
مرة، وذُكرَت روسيا ست مرات، بينهم مرات جُمع فيها البلدان في سياق متصل، وأخرى
بشكل منفصل تماماً للحديث عن كل دولة على حدة وطبيعة التهديد الذي تشكله للرؤية
والمصالح الأمريكية.
بالنسبة لروسيا، سلطت الوثيقة الضوء على مساعي روسيا لبسط نفوذها العالمي. وذهبت
إلى اعتبار أن الدور الذي تلعبه روسيا هو دور مزعزِع للاستقرار على المستوى الدولي،
بما يقوِّض القوة الأمريكية ويعمل على الحدِّ من قدرتها في الدفاع عن نفسها
ومصالحها.
ولكن بشكل غير مباشر يذهب التقرير إلى القول بأن روسيا غير قادرة اليوم على الدخول
في مواجهة مباشرة وصريحة مع الولايات المتحدة.
ويفسر المستشار السابق بوزارة الخارجية الأمريكية عضو الحزب الجمهوري حازم الغبرا
ذلك التهديد فيقول: أعتقد أن هذا الأمر له شقان لم يُذكرا في الإستراتيجية بشكل
مباشر، لكنهما واضحان تماماً: الأول: الملف السوري. والثاني: مسألة صفقات السلاح
الروسية مع دول تشكل حليفاً إستراتيجياً للولايات المتحدة الأمريكية أو حتى أعضاء
في الناتو، مثل تركيا. مردفاً بقوله: هذا بالإضافة إلى القدرات السبرانية التي
تمتلكها روسيا واستعملتها مرة تلو الأخرى ضد واشنطن في السنوات الماضية.
روسيا بوتين:
بمجيء بوتين إلى سدة الرئاسة الروسية حاول تصحيحَ وضع روسيا المتدهور عالمياً في
أعقاب انهيار الاتحاد السوفييتي، والصعودَ مرة أخرى في النظام الدولي.
مرت إستراتيجيته بثلاثة مراحل: توافق مع النظام الدولي، ثم التحرك في الفراغ
واستغلال الأزمات، وأخيراً مرحلة التحدي.
ولكن قبل الولوج إلى مرحلة التحدي أسس فكرياً إستراتيجياً لهذا التحدي، فبعد مرور
شهر على توليه الرئاسة في مايو عام 2000 وقَّع بوتين وثيقة كشف عنها مجلس الأمن
القومي الروسي لاحقاً بعنوان:
«مفهوم
السياسة الخارجية في الاتحاد الروسي»،
تحدثت عن سعي موسكو إلى إعادة صياغة النظام الدولي وتحويله من نظام أحادي القطبية
إلى نظام آخر متعدد الأقطاب. وأمام مؤتمر ميونخ الأمني عام 2007م أعلن بوتين عن هذه
الوثيقة للمرة الأولى حين وجَّه لأول مرة نقداً علنياً مباشراً للسياسات الأمريكية
في العالم، مؤكداً أن النظام أحادي القطبية تسبب في حدوث تراجيديات إنسانية وخلق
مراكز جديدة للتوتر، وأعلن أن روسيا تسعى بالتعاون مع شركاء مستقلين لخلق نظام
عالمي يتسم بالعدالة ويتحلى بالديمقراطية. وفي فبراير من عام 2017م فاجأ وزير
الخارجية الروسي سيرغي لافروف في مؤتمر ميونخ الحضور بمصطلح جديد يحدد رؤية روسيا
للعالم سماه (نظام ما بعد الغرب)، وتساءل بوتين: ما الذي يعنيه النظام الأحادي
القطبية؟ ويجيب بأنه يعني مركزاً واحداً للسلطة ومركزاً واحداً للقوة ومركزاً
واحداً لاتخاذ القرار. إنه بعبارة أخرى عالم يهيمن عليه سيد واحد وقطب واحد ولن
تؤدي سياساته للإضرار بمصالح كل الدول داخل النظام الدولي فحسب؛ بل إنه يهدد القطب
الأوحد ذاته من خلال انهياره من الداخل عبر الزمن. وقال: إنه على القادة المسؤولين
أن يحددوا خيارهم بنظام عالمي ديمقراطي وعادل، وفي الحرب الأوكرانية الأخيرة دأب
لافروف على تكرار تصريحه قائلاً: الولايات المتحدة تسعى لإعادة العالم إلى نموذج
أحادي القطب.
بدأت روسيا - تنفيذاً لإستراتيجية التحدي تلك - بالتوسع والتمدد في نقاط إستراتيجية
عالمية تمثل تحدياً للنفوذ الأمريكي، في محاولة منها لجعل نفسها قطباً عالمياً
منافساً لأمريكا.
تمددت اقتصادياً بصفقات غاز ونفط وقمح وسلاح بشكل يجعلها بديلاً لا يمكن الاستغناء
عنه، وعلى سبيل المثال فأوروبا تعتمد على روسيا في نحو 40% من الغاز الطبيعي، وفي
أثناء حرب أوكرانيا عندما بدأت الولايات المتحدة وأوروبا استخدام سلاح العقوبات ضد
روسيا، هدد نائب رئيس الوزراء الروسي ألكسندر نوفاك بأن روسيا قد تقطع إمدادات
الغاز عبر خط الأنابيب نورد ستريم1 إلى ألمانيا، لكنها لم تتخذ حتى الآن مثل هذا
القرار.
أما التمدد الإستراتيجي الروسي، فقد اعتمد على تطبيق نظرية الإستراتيجي الروسي
ألكسندر دوغين (أكثر الشخصيات تأثيراً على بوتين) التي ترسم طريق روسيا للصعود مرة
أخرى في ميدان الهيمنة العالمية وتحدي النفوذ الأمريكي في العالم للوصول إلى عالم
متعدد الأقطاب. ويحدد دوغين أن الصعود الروسي يرتبط بمنطقتين:
الأولى
وهي أوراسيا وتضمُّ - وَفْق نظرية دوغين - روسيا ودول الاتحاد السوفييتي السابق.
والثانية
هي منطقة الشرق الأوسط وصولاً إلى ساحل البحر الأبيض.
وبتطبيق تلك النظرية استطاعت روسيا بناء نوع من الهيمنة حول دول منطقة أوراسيا، أما
التي استعصت على النفوذ الروسي، فقد اقتطعت منها أجزاء مثل جورجيا أو غزتها كما حدث
مؤخراً في أوكرانيا.
وبالنسبة للشرق الأوسط ونظراً لأهمية البحر المتوسط في إطار التنافس الجيوبولتيكي
بين الناتو وروسيا؛ تحاول روسيا (تطـويق) أوروبا جنوباً بتدخلها في ليبيا بإقامة
قاعدة عسكرية لها هناك، بعد أن تمكنت من حصار أوروبا في شرق المتوسط من خلال
القاعدة البحرية في طرطوس في سوريا ضمن اتفاق وُقِّع مع حكومة بشار الأسد عام
2017م.
لماذا أوكرانيا؟
مثَّلت أراضي أوكرانيا تقاطعاً بين إستراتيجية حلف الناتو الذي تقوده أمريكا في
التمدد شرقاً ومحاصرة روسيا، وبين إستراتيجية روسيا في إقامة حزام من الدولة
التابعة للنفوذ الروسي تحمي بها روسيا نفسها من التآكل أو التهديد الداخلي.
وجغرافية أوكرانيا السياسية تعدُّ أنموذجاً مثالياً لأرض يمكن أن تتقاطع فيها هذه
الإستراتيجيات، فأوكرانيا تعدُّ ثاني أكبر دولة أوروبية من حيث المساحة بعد روسيا،
كما يلعب موقعها الجغرافي دوراً كبيراً في عبور إمدادات الغاز الروسية إلى دول غرب
أوروبا.
وتمتلك أوكرانيا موقعاً إستراتيجياً؛ فهي تطل على السواحل الشمالية للبحر الأسود
وبحر آزوف، وتقع على الحدود مع عدد من الدول الأوروبية بولندا وسلوفاكيا والمجر في
الغرب، وروسيا البيضاء في الشمال، ومولدوفا ورومانيا في الجنوب الغربي، وروسيا في
الشرق.
وفي الوقت نفسه من حصاد التجربة السوفييتية فإن أوكرانيا تنقسم من الناحية السياسة
بين شرق يتحدث بغالبيته اللغة الروسية وبين غرب يتحدث الأوكرانية، ولكن الأغلبية في
أوكرانيا منبهرة بالنموذج الغربي وتريد أن تلتحق به، ولذلك أوصلت تلك الغالبية من
يمثلها إلى نظام الحكم، الذين شرعوا في بناء تحالفات مع الولايات المتحدة وأوروبا
وطلبوا الانضمام إلى الناتو والاتحاد الأوروبي، وهو الأمر الذي أغضب الروس.
والملاحظ أنه في شهر نوفمبر الماضي - أي منذ أربعة أشهر - وقَّعت الولايات المتحدة
وأوكرانيا ميثاق الشراكة الإستراتيجية، الذي أكد دعم أمريكا حق أوكرانيا في متابعة
العضوية في منظمة حلف شمال الأطلسي، وبعدها في شهر ديسمبر حدثت قمة افتراضية جمعت
الرئيسين الأمريكي والروسي وتخللتها مساومات حول أوكرانيا غير معلنة ويبدو أنها
فشلت، وفي أعقابها بدأت التحذيرات الأمريكية تزداد وتيرتها باستعداد روسيا لغزو
أوكرانيا.
وبحسب الكاتب في صحيفة واشنطن بوست أنتوني فايولا، فإن تعمُّد بايدن إطلاق تلك
التحذيرات المكثفة أدى إلى حرمان بوتين من فرصة التصرف في الظلام، بالإضافة إلى ذلك
ساهم هذا الإجراء في تسخين الجانب الأوكراني ضد الروس وعرقلة أي بوادر للتفاوض
بينهما.
صراع الإستراتيجيات:
هناك سعي أمريكي للحفاظ على مكانتها العالمية باعتبارها القوة الأولى في العالم، في
الوقت نفسه الذي تولَّد فيه تصميم روسي على الصعود عالمياً مرة أخرى؛ أي يمكن تسمية
ما يجري في أوكرانيا بانه صراع بين الحفاظ على وضع النظام الدولي بيد قطب وحيد
مسيطر، وبين من يريد تغييره إلى نظام متعدد الأقطاب.
ومن أجل تحقيق كل طرف لأهدافه المتناقضة مع الآخر، تصوغ كلٌّ من أمريكا وروسيا
إستراتيجيتين تتصارع إحداها مع الأخرى:
أمريكا تريد الحدَّ من الصعود الروسي عبر ثلاث أدوات:
الأولى:
استدراج الدب الروسي إلى مستنقع أوكرانيا ومن ثَمَّ استنزافه وتكرار النموذج
السوفييتي في أفغانستان، أو على الأقل إشغال روسيا بمحيطها بما يحدُّ من تمددها
الخارجي.
أما الأداة الثانية: فهي حشد أوروبا المتمردة على الولايات المتحدة مرة أخرى
تحت راية الناتو، وجعلها رأس حربة في الإستراتيجية الأمريكية والحد من الصعود
الروسي.
وتتمثل الأداة الثالثة في سلاح العقوبات والحصار الاقتصادي.
وثمة هدف أمريكي ضمني فيما يحدث، وهو اختبار مدى جدية التعاون الصيني الروسي، وقياس
درجة حجم التوافق الصيني الروسي وتأثيراته على النظام الدولي.
أما الإستراتيجية الروسية في مواجهة الإستراتيجية الأمريكية تلك، فهي الإصرار على
تحويل النظام الدولي إلى نظام متعدد الأقطاب وإنهاء الانفراد الأمريكي بالزعامة
العالمية، ومواصلة منافسة ومزاحمة القوة الأمريكية عبر ثلاث أدوات:
الأولى:
كسر الاحتواء الغربي ووقف تمدد الناتو بالحسم العسكري.
الثانية:
إقامة تحالفات قوية سواء مع الصين أم مع غيرها من القوى المنافسة الأخرى الساعية
لتغيير النظام الدولي إلى نظام متعدد الأقطاب أو مع قوى إقليمية كانت حليفة مع
الولايات المتحدة وشعرت بالخذلان مؤخراً من الحليف.
والأداة الثالثة:
محاولة حسم المعركة في أوكرانيا والانسحاب السريع منها تجنباً لسيناريو الاستنزاف،
بعد تثبيت وضع يتوافق مع الأهداف الروسية ويمنع تحويل تلك الأراضي إلى ورقة
إستراتيجية في يد أمريكا.
الأيام القادمة سترينا هل ستنجح الإستراتيجية الأمريكية في إلهاء الدب الروسي
بمشاكله في محيطه الإستراتيجي القريب، لينسحب ويتوقف تمدده في العالم. ومن ثَمَّ
تُحدُّ قوتُه ونفوذُه العالمي؟ أم ستتمكن روسيا من الخروج من مستنقع أوكرانيا بعد
أن تكون قد نجحت في تحييدها وأوقفت تهديدات الغرب ضدها، دون أي انسحاب إستراتيجي من
أماكن تمددها الدولي؟