• - الموافق2024/04/20م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
فضائل المسجد الأقصى رؤية قرآنية

وما أجملَ ما سطَّره العلَّامة جمال الدِّين القاسمي عن فيض مشاعره الجَيَّاشة تجاه المسجد الأقصى المبارك حين زيارته، فعبَّرَ عن مشاعره حينَ وصوله بمداد دموعه، فقال: «فلا تَسَل عمَّا هجمَ علينا مِن السُّرور المُفْرِطِ، وانشراحِ الصدر، وبهجةِ النَّفْس، وانتعا


إنَّ الله سبحانه وتعالى يخلق ما يشاء ويختار، وكما فضَّل سبحانه وتعالى بعضَ الشهور والأيَّام والليالي والمساجد على غيرها، فإنه سبحانه وتعالى قد فضَّل بعض الأوطان على بعض، فأَبَان فضْلها في آيات كريمة مِن كتابه العظيم، وشَهد لها بِعِظَم المنزِلة، وذكَرها باسمها، وخصَّها دون غيرها، وكرَّر ذِكرها، وقد أكَّدت السنَّة المطهَّرة الفضائل الخاصَّة لبعض الأوطان.

ومِن الأوطان التي ثبتت فضائلها على ألسنة الرسل عليهم السلام في القرآن الكريم فلسطين المحتلَّة، ودُرَّتها المسجد الأقصى (فرَّج الله كربه)، فإنَّ بيت المقدِس كنز الله سبحانه وتعالى مِن أرضه، وهي حِرز المؤمنين عند وقوع الفتن، ومُهاجَر جند الإسلام قبل نهاية الزمان، ولعلَّ شدَّة المخاض الذي تعانيه هذه البلاد المبارَكة في هذه الآونة أَمَارة على ذلك الأمر الجليل.

وقد ثبتت البركة في شامة الشام (بيت المقدس) بآيات صريحة مِن الكتاب العزيز، ولهذه البقاع مكانة كبيرة في السنَّة المطهَّرة أيضاً.

وممَّا ورد في القرآن الكريم في فضل هذه الأرض المباركة، ما جاء على لسان الكليم موسى عليه السلام لقومه: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْـمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} [المائدة: 21].

ففي هذه الآية الكريمة نجد موسى عليه السلام يتطلَّع في آخِر مراحل عُمُره المبارك لفتح بيت المقدس، فيسير عليه السلام وبنو إسرائيل تجاه الأرض المقدَّسة فاتحاً، لولا خِذلانُ قومه له.

وها هو الخليل عليه السلام يهاجر إلى هذه الأرض المباركة دون سواها مِن الأوطان مع ابن أخيه لوط وزوجه سارة، يقول الله عز وجل: {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ 71 وَوَهَبْنَا لَهُ إسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِـحِينَ 72 وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إلَيْهِمْ فِعْلَ الْـخَيْرَاتِ وَإقَامَ الصَّلاةِ وَإيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} [الأنبياء: 71 - 73].

وها هو يوسف عليه السلام يوصي علماء بني إسـرائيل بأن يحملـوا جثمـانه مِن مصر إلى هذه الأرض المباركة[1].

ويدرك الصحابة رضي الله عنهم هذه المكانة العظيمة للأرض المقدَّسة، فما كان مِن عمر رضي الله عنه إلَّا أن خصَّ مدينة القدس دون غيرها مِن الأمصار بتسلُّم مفاتيحها[2].

وحُقَّ للكتَّاب والمؤرِّخين والزائرين أن ينعتوا القدس ومقدَّساتها بأجمل النُّعوت، ومِن ذلك ما وصفها به أبو شامة المقدسي، إذ قال في حقِّ المسجد الأقصى: «فما أجلَّه وأعظمَه، وأشرَفه وأفخمَه، وأعلاه وأجلاه، وأسماه وأسناه، وأيمنَ بركاتِه، وأبرَكَ ميامنَه، وأحسنَ حالاتِه، وأحلى محاسنَه، وأزيَنَ مباهجَه، وأبهَج مزاينَه، وقد أظهر اللهُ طُولَه وطَوْلَه بقوله: {الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء: ١] وكم فيه مِن الآيات التي أراها اللهُ نبيَّه، وجعل مسموعَنا مِن فضائله مرئيَّة»[3].

وما أجملَ ما سطَّره العلَّامة جمال الدِّين القاسمي عن فيض مشاعره الجَيَّاشة تجاه المسجد الأقصى المبارك حين زيارته، فعبَّرَ عن مشاعره حينَ وصوله بمداد دموعه، فقال: «فلا تَسَل عمَّا هجمَ علينا مِن السُّرور المُفْرِطِ، وانشراحِ الصدر، وبهجةِ النَّفْس، وانتعاشِ الفؤاد، وحَسِبناهُ قطعةً من الجنَّة قد دخلناها حامدِين شاكرِين لفضله، ونحنُ نُكفـكفُ الدَّمـعَ فيَنْهمِل!»[4].

ومِن عناية القادة بأمر المسلمين في شامة الشَّام (بيت المقدس)، ودرَّة تاجها المسجد الأقصى على وجه الخصوص، ما قاله ابن شدَّاد عن صلاح الدين من أنه «كان رحمه الله عنده من القدس أمرٌ عظيم، لا تحمِله إلا الجبالُ»[5]، وكذا الأمر مع نور الدِّين زَنْكي، فقد «جاءه ذات يوم جماعة مِن العلماء، حين نزل الفرنج على دمياط، فقالوا: جئنا نروي عنك بسند متَّصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم  حديثاً مسلسَلاً، قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم  وهو يبتسم، فتبسَّم نَروِه عنك، فالتفتَ إليهم نور الدِّين زَنْكي والهمُّ يَعصر فؤاده وهو يقول: «إنِّي لأستحيي مِن الله تعالى أن يراني مبتسماً والمسلمون محاصَرون بالفرنج»[6][7]! فقد كان الدفاع عن المسجد الأقصى وتحرير بلاد المسلمين يشغل بالهم، حتى إنَّه لَيجعلهم كالوالدة الثكلى مِن الهمِّ؛ فكيف يطيب لنا الفرح، وبيتُ المقدس بأيدي يهود؟!

وينبغي التنبُّه إلى أنَّ ما ورد على لسان الكليم موسى عليه السلام لقومه: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْـمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} [المائدة: 21]، ليس دليلاً على ادَّعاء يهود بأنَّ لهم حقّاً تاريخيّاً في فلسطين؛ لأن الله سبحانه وتعالى جعل سبب وراثة الأرض صلاحَ الناس واستقامتهم، ولمْ يجعلها لِـمَن يعيث فيها فساداً. واليهود - كما هو ظاهر - أهل فساد وغدر وكفر، فلمَّا كان بنو إسرائيل صالحِين مستقيمِين، أورثهم الله سبحانه وتعالى الأرض المقدَّسة، ومكَّن لهم فيها، لكنَّهم انحرفوا، وأفسَدوا فساداً عظيماً، فسلبَهم الله سبحانه وتعالى هذا الحقَّ، لهذا ذكَّرهم الله سبحانه وتعالى بقوله: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِـحُونَ} [الأنبياء: 105].

وإنَّ المتتبِّع لمَا يجري اليوم في فلسطين المحتلَّة خاصَّة، يكاد يجزِم بقُرب النصر، على الرَّغم مِن سطوة أهل الباطل وعلوِّهم، كما وعد المولى بهذه البشارة في قوله سبحانه وتعالى: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْـمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47]، وما يحصل في المواجهات الأخيرة بين ثلَّة مؤمنة مجاهدة في غزة هاشم وبين الصهاينة مِن شفاء لِـمَا في صدور المؤمنين، وإغاظة للصهاينة المحتلِّين، لهُوَ أمارة بيِّنة على قرب النصر الشامل على الأعداء.

ونخلُص مما سبق، بأن فلسطين حظيت برعاية ربَّانيَّة فائقة، فكانت مهوى أفئدة المرسَلِين عليهم السلام والصالحِين والقادة العظام.

ومِن هنا يتبيَّن لنا سُوءُ فِعل مَن يتغافل عن فضائل وطنه، ويسترها بل يجحدها، وقد ينطلق في نشر الأكاذيب عن وطنه وأبناء بلده؛ فكيف إذا أقدم على خيانة دياره لصالح عدوٍّ محتلٍّ لا يرقُب في مسلِم إلّاً ولا ذمَّةً!

ويتبيَّن ممَّا سبق، أنَّ ذِكر المرء لفضائل وطنه علامة على الانتماء الصادق له، وتنميةٌ لمعاني المحبَّة تجاهه، وشحذٌ لِلهِمم في الدفاع عن حياضه. ويؤكِّد ابن الجوزيِّ رحمه الله هذه المكانة قائلاً: «والأوطان أبداً محبوبة»[8]، ويقول الشاعر في حبِّ الوطن:

وللأوطان في دَمِ كلِّ حُرٍّ

يدٌ سَلَفَت ودَيْنٌ مُستَحَقُّ[9]

 مِن هنا دﻋﺎ الرُّسل والأنبياء عليهم السلام إلى تعزيز هذه اﻟﻘﻴﻤـﺔ العظﻤـﻰ في النفوس؛ وذلك لِـمَا لها مِن آثار طيِّبة على المجتمع، ومن ثَمَّ فقَمِنٌ بالمسلم أن يعرف قدْر وطنه، وأن ينشر محاسنه في الآفاق.

وإذا تقرَّر أنَّ حُبَّ عموم الأوطان أمرٌ جِبِلِّيٌّ أقرَّتْه شريعةُ الإسلام؛ فكيف ببلد يضُمُّ بين جغرافيَّته المسجدَ الأقصى الأسير (فرَّج الله كربه)، أُولى القبلتَين، ومسرى الرسول محمَّد صلى الله عليه وسلم ، واختلط ترابُه بدماء الشهداء، فهو غُرَّة جبين الأوطان، وشامة جِيد الزمان والمكان، فلا غرو أن يكون الحبُّ تجاهه أشـدَّ مِن غيره ما خلا الحرمَين الشريفَين، مِن هنا وجب تعزيز هذه القيمة وتعميقها في نفوس الشباب لا سيَّما النَّشء.

وما حدث في المواجهات الأخيرة بين المقاومة الفلسطينية والاحتلال اليهودي يؤكد المكانة السامية للمسجدِ الأقصى في قلوب المسلمين، فقد اندلعت شرارة هذه الهبَّة المباركة؛ نصرةً لبيت المقدس والمسجدِ الأقصى، فقد جاءت على إثر اقتحام قوَّات الاحتلال الصهيونيِّ المسجدَ الأقصى، وإخلائها عائلات مقدسيَّة مِن البلدة القديمة في مدينة القدس.

وعلى الرَّغم مِن تضييق الاحتلال الصهيونيِّ على المسجد الأقصى وعُمَّارِه، إذ يمنع الشباب الفلسطيني مِن الدخول إلى المسجد الأقصى بحجَّة محاولة «دخول القدس دون تصاريح»! وقد يصل الأمر إلى اعتقال بعض الشباب الفلسطيني تحت هذه الذريعة، إلَّا أنَّ هذا المسجد المبارك ما زال - ولله الحمد - يمتلئ بالعابدين رغم كلِّ المعيقات.


 


[1] أورد الحاكم هذه الرواية في مستدركه. انظر، الحاكم: المستدرك على الصحيحين، كتاب التفسير، باب تفسير سورة الشعراء، حديث رقم (3523)، (2/ 439)، وقال الألباني: «صحيح على شرط مسلم». الألباني: سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها، حديث رقم (313)، (1/ 622 - 623).

[2] الطبري: تاريخ الرسل والملوك، (3/ 607 - 610).

[3] أبو شامة: الروضتين في أخبار الدولتين النوريَّة والصلاحيَّة، (3/ 338).

[4] القاسمي: رحلتي إلى البيت المُقـدَّس، (ص53 - 54).

[5] ابن شداد: النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية، (1/ 322).

[6] أبو شامة: الروضتين، (2/ 143). والعفاني: تذكير النفس بحديث القدس واقدساه، (1/281).

[7] وقد اشتُهر عن نور الدِّين زَنْكي هذا القول لكنْ بلفظ آخَر، ويُنسب إلى كتاب (الروضتين)، وهو ما يُحكى عنه: «كيف ابتسِم والمسجد الأقصى راسف في قيود الذُّلِّ والهوان تحت سنابك خيل الأعداء؟». لكنَّ الباحث لمْ يجد هذا القول بنصِّه في الكتاب المُشار إليه.

[8] ابن الجوزي: مثير الغرام الساكن، (ص: 75).

[9] شوقي: ديوان أحمد شوقي، (ص: 193).

 

 


أعلى