• - الموافق2025/07/28م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
وقفات مع قول الله تعالى: ﴿وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء﴾

في هذه الآية الكريمة تتجلّى حكمة الله -عز وجل-؛ وهي أن هذا الشخص لعلّه بالفعل أراد أن يغدر بك، وأقدم على بعض التمهيد لذلك، لكنَّ الله هداه، فتراجَع وجدَّد العهد بينه وبين نفسه


تُؤسِّس هذه الآية الكريمة شخصيَّة الإنسان المسلم، فما دام قد آمَن بالإسلام، فهو يكون مُمثِّلًا للقِيَم الإسلاميَّة، فأوَّل ما على المسلم أن يتمتَّع به هو أن يكون واضحًا وصادقًا ومُسالِمًا، مع الناس كافة، سواء كانوا مسلمين، أو غير مسلمين، فلا يجوز له أن يَغْدر، أو يكذب، أو يَجْنح إلى الرياء والغموض في علاقاته مع الناس، بل عليه أن يكون صريحًا وواضحًا.

يقول الله -سبحانه وتعالى-: ﴿وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ﴾ [الأنفال: 58].

والخيانة لا تكون إلّا من خلال نقض المُعاهدة، فبدون وجود مُعاهَدة، لا توجد خيانة. وإن قلنا عن ﴿خِيَانَة﴾ وَقَعَت بين طَرَفَيْن، فلا بدَّ أن يكون أحدهما قد نَقَض عهدًا بينهما. وإلاّ، فلا خِيَانَة؛ لأنه لا مُعاهَدة بالأصل.

﴿وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً﴾

لكن لعلّكَ عاهدتَ شخصًا سواء كان مسلمًا، أو غير مسلم، على أمرٍ ما، ثم بدأتْ الشكوك تظهر حوله بأنه سيخون هذا العهد الذي بينك وبينه، وسيغدر بك. هنا سوف تأخذ الاحتياط، وتَعتبر أن العهد ما عاد سويًّا بينكما.

ثم لعلّك مع بثّ الإشارات القويَّة إليك بأنه مُقبِل لا محالة ليطعنك في الظَّهر، ويغدر بك؛ قد تنجرّ خلف هذه المُعطَيات، فتسبقه بالضربة حتى تردعه عن غَدْره بك. وهذه نقطة مهمّة تنبّهكَ الآيةُ إليها، فتُخبرك أنه لا يجوز لك فِعْل ذلك؛ لأنك ستكون قد خنتَ عهدك مع ذاك الشخص سواء كان مسلمًا أو كافرًا، فلا يدعَك الإسلام أن يُسجِّل عليك ذاك الشخص هذه المُؤاخذة، أو حتى ينظر إليك نظرة أنك خائن.

﴿فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء﴾

فإن تسرَّبَت إليك شكوك حول اتفاقٍ بينك وبين شخصٍ ما؛ ﴿فَانْبِذْ﴾ إليه، أَخْبِرْه وبَيِّن له بأن الاتّفاق الذي بينك وبينه قد حُلَّ، وهو اعتبارًا من الآن لا وجود له، كما لو أنه لم يكن.

وجاءت الكلمة مكتنزة ومتفرّعة في دلالاتها، ولكنها جميعًا تصبّ في المَعنى ذاته، ﴿فَانبِذْ﴾؛ أن تنبذ أحدًا، أي تتصرَّف حياله بطريقةٍ تُبيِّن له بأن ما هو عليه من سلوكٍ، يجعله منبوذًا من الآخرين، لعلَّه ينتبه ويُصلح من سلوكه.

والمنبوذ هو نقيض المرغوب، لا أحد يأمنه على شيء، والناس جميعًا يتحاشونه؛ لأنهم لا يثقون به من مختلف النواحي، فكيفما قلبته، يُتَوَقَّع منه الأذى. فأنتَ تُعْلِم الخائن بأنك علمتَ منه بوادر الخيانة، ولم تترصَّده حتى يأتيك، فتكون كمن يضع له كَمينًا، وهذا غير لائق بسلوك الإنسان المسلم؛ لأنك إذا فعلتَ ذلك، يكون قد استطاع أن يجعلك مثله خائنًا؛ لأن المُعاهدة لا تزال قائمة بينكما، وأنتما لم تعملا بموجبها. ولذلك جاءت كلمة الخوف، والخوف في هذا المقام يأتي بمعنى الحذر الشديد من الخائن الغدّار، فهو يمكن له أن يبطش ويتجاوز كل الأعراف الإنسانية بدمٍ بارد، ويرتكب الانتهاكات المروعة.

﴿وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً﴾؛ إذن الذي يخون، لا بدَّ أن يُخاف من بَطْشه، ويُحسَب له حِساب؛ لأنه كائنٌ مُنفَلت، ويُتَوَقَّع منه ما يَخطر وما لا يخطر في البال. فإن حصل معك ذلك مع شخصٍ تخاف منه ﴿خِيَانَةً، فعليك أن تتصرَّف بحكمةٍ؛ لأن الموقف بالغ الحساسية، وقد يَستدرجك إلى خيانةٍ شبيهة.

هنا يرشدك الله -سبحانه وتعالى- الإرشاد الصحيح السليم، وهو أن تُخبره بحلّ المُعاهدة؛ ﴿فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء﴾؛ أي: تجعله مِثْلك ﴿عَلَى سَوَاء﴾، يعلم بأنك علمتَ منه هذه البوادر، فتكونا بذلك أمام الحقيقة ﴿عَلَى سَوَاء﴾.

وكلمة ﴿فَانبِذْ﴾، بالغة الدِّقَّة؛ لأنه قد يسأل عن سبب حَلّك للاتفاق، فلا تُخْفِ عنه الحقيقة، وانبذه فيما بَدَر منه. عندئذ سوف يتراجع عن إلحاق الأذى بك؛ لأنه يُصبح على عِلْمٍ بأنّك عَلِمْتَ بِمَا كان يُخفيه لك، ثم لعلّه يُصلح من شأن نفسه بعد ذلك، ويبدأ صفحةً جديدةً في حياته، فتكون قد أبعدتَ أذاه عنك، وأيضًا منحته فرصة للإصلاح.

﴿عَلَى سَوَاء﴾؛ أي: دون أن تظلمه بشيءٍ، فيكون حلّ الاتفاق مُتساويًا، وليس جائرًا، وفق هذا الإرشاد الإلهي.

﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ﴾

وإذا رأيتَ بك شيئًا من التردُّد، فإن الشطر الآخَر من الآية الكريمة يرفع عنك هذا التردُّد، ويجعل هذا الشرط مرتهنًا بحُبّ الله لك، أو عدم حبّه لك؛ يقول الله -سبحانه وتعالى-: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ﴾. الذين يخونون عهودهم مع الناس، ولا ينبذوا ﴿إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء﴾، في حال الخوف من الغدر، بل يُقابِلوا الغدرَ بالغدر، والمُعاهَدة ما تزال قائمة.

وبذلك يجوز أن يكون نظير ذلك: إن الله يُحِب المُوفين لعهودهم، حتى سواء مع المسلمين أو مع غير المسلمين. فحتى في حالات الحرب، فلا يجوز أن تُفاجِؤوا الأعداء بشنّ الحرب، مادامَت المُعاهدةُ قائمة، وكذلك في المُعاهَدات الفردية بين الناس في شتى الأمور.

والنبي صلى الله عليه وسلم  قدَّم مثالًا طيّبًا في العلاقة مع المشركين في صلح الحديبية، من خلال المُعاهدة مع سهيل بن عمرو مُمثِّل المشركين؛ فعندما جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فَلَمّا رَأَى سُهَيْلٌ أَبَا جَنْدَلٍ قَامَ إلَيْهِ فَضَرَبَ وَجْهَهُ، وَأَخَذَ بِتَلْبِيبِهِ؛ ثُمّ قَالَ: يَا مُحَمّدُ؛ قَدْ لَجَّتْ[1] الْقَضِيّةُ بَيْنِي وَبَيْنَك قَبْل أَنْ يَأْتِيَك هَذَا. قَالَ: صَدَقْتَ. فَجَعَلَ يَنْتُرُهُ بِتَلْبِيبِهِ، وَيَجُرّهُ لِيَرُدَّهُ إلَى قُرَيْش، وَجَعَلَ أَبُو جَنْدَل يَصْرُخُ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، أَأُرَدُّ إلَى الْمُشْرِكِينَ يَفْتِنُونِي فِي دِينِي؟ فَزَادَ ذَلِكَ النّاسَ إلَى مَا بِهِمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : يَا أَبَا جَنْدَل؛ اصْبِرْ وَاحْتَسِبْ؛ فَإِنّ اللهَ جَاعِلٌ لَك وَلِمَنْ مَعَك مِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ فَرَجًا وَمَخْرَجًا، إنّا قَدْ عَقَدْنَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ صُلْحًا، وَأَعْطَيْنَاهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَأَعْطَوْنَا عَهْدَ اللهِ، وَإِنّا لَا نَغْدِرُ بِهِمْ[2].

وقام جعفر بن أبي طالب -رضي الله عنه- بين يدَي النجاشي مَلِك الحبشة، عندما لجأ إليه مع المسلمين الأوائل؛ قائلًا: «أيها الملك، لقد كنَّا قومًا أهل الجاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فبعث الله إلينا رسولًا منا، نعرف نَسَبه وصِدْقه، وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنعبَده ونُوحِّده، ونخلع ما كنّا نعبد نحن وآباؤنا من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وحُسن الجوار، والكفّ عن المحارم والدماء والأوثان، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام، فعدا علينا قومنا، فعذّبونا وفتنونا في ديننا ليردّونا إلى عبادة الأوثان، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وضيّقوا علينا، خرجنا إلى بلادك، ورغبنا في جوارك، ورجونا ألَّا نُظلَم عندك أيها الملك»[3].

 حكمة الله عز وجل

في هذه الآية الكريمة تتجلّى حكمة الله -عز وجل-؛ وهي أن هذا الشخص لعلّه بالفعل أراد أن يغدر بك، وأقدم على بعض التمهيد لذلك، لكنَّ الله هداه، فتراجَع وجدَّد العهد بينه وبين نفسه، ففي هذه الحال إذا بادرته بغتةً، ستكون قد غدرتَ به وظلمته، ولكن إذا بيَّنتَ له المُعطيات التي بَلَغَتك عنه، ومحاولاته لنقض العهد؛ فقد يُصارحك هو الآخر بما قد حصل معه، أو لعلّ أحدًا قد أوصل إليه معلومات خاطئة عنك، حتى يجعلكما تصطدمان لغايةٍ في نفسه. وبذلك يمكن لكما أن تكونا على بيِّنة تُخفِّف حالة المشاحنة بينكما.

والوجه الآخر من هذه الحكمة، هو أن هذا الشخص، بعد أن يرى منك كلّ هذا الصدق، قد يتأثّر ويُعيد النظر فيما هو عليه من ضلال ويجنح إلى الحق.

﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ﴾ بشكلٍ عامّ وفي كل زمانٍ ومكان. والخيانة لا تكون مع الناس فحسب، بل تكون حتى مع الله -سبحانه وتعالى-، فينقض الإنسان عهده مع الله؛ يُعاهِد الله على أمرٍ، ثم ينقضه، أو حتى يُبرِّر لنفسه نقض العهد في ظروفٍ ما يُفصح فيها عن ضعف إيمانه.

الخيانة ممارسة مفتوحة ومتفرِّعة، وتؤدِّي إلى بعضها بعضًا، فإن تحدَّث لك شخصٌ بسِرّ، وأفشيتَ سرّه، وشهَّرت به، فقد خُنْته؛ لأنه ائتمنك على سرّه، فلم تحفظ الأمانة، إن أودع شخصٌ لديك مالًا، فأنكرته عليه، سواء كله أو جزءًا منه، فقد خُنْته، إن أدخلك شخصٌ بيته، فنظرت نظرة حرامٍ إلى أهله، فقد خُنْته، والله يعلم منك تلك النظرة الجائرة، فهو الذي ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾ [غافر: 19].

وبعض الناس يمتهنون التجسُّس، ويشاركون في تجمّعات الناس وينقلون أحاديثهم، وإن لم يجدوا شيئًا، يستدرجون الناس حتى يوقعوا بهم الأذى، فحتى وإن كان هذا المُستَدرَج خائنًا، فإن نقضك لعهدك معه يُعدّ خيانة، فذاك شأن، وخيانتك له شأن آخر.

وفي زماننا استُحدِثَت أشكالٌ للخيانة والوشاية، مثل اصطياد ما يدور بين الناس من خلال التقنيات التواصلية الحديثة، فيدَّعي شخصٌ بأنه يريد أن يكون صديقًا لك، ويتودَّد لك حتى تقبله صديقًا، فيتجسَّس على ما تقول، وما يدور بينك وبين أصدقائك. فيقوم بتصوير وتوثيق مبتغاه كي يبقى محتفظًا به حتى لو قمتَ بحذف ذلك، فتلك يمكن تسميتها بالخيانة الإلكترونية.

وفتح مُكبِّر الصوت عند تبادل الحديث الهاتفي كي يسمع شخصٌ آخَر هذا الحديث يُعدّ غدرًا ما دمتَ لم تأذن لمُحدِّثكَ بذلك، بل يدخل هذا ضمن الوشاية.

وكم من أشخاصٍ تعرَّضوا للأذى، نتيجة ما دوَّنوه في هذه الوسائل! وكم من أشخاصٍ تعرَّضوا للانتهاكات والاعتقالات بسبب ذلك! وكم فَتَكَت هذه الوسائل بأناسٍ! وكل ذلك نتيجة شخصٍ ادَّعى الصداقة والتواصل، وقدَّم عهدًا بالصداقة، ثم خان عهده وغَدَرَ بصديقه.

 كلمة الختام

الخائن هو كائنٌ منبوذٌ ومكروهٌ، فالذي لا يحبُّه الله، لا يحبُّه مَن يؤمن بالله، فهو كائن مُجَرَّد من الإخلاص ومن الأخلاق، فحتى الذين يكونون شركاء له في الخيانة، أو الذين يؤازرونه عليها، لا يكونون مخلصين معه، وفي أيّ لحظةٍ يُتوَقَّع أن يغدروا به، كما أنه في أيّ لحظةٍ يُتَوَقَّع أن يغدر بهم، بل حتى عياله وأقرباؤه، لا يأمنون خيانته، لأنه ممتهنٌ للوشاية ونقض العهد؛ ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ﴾.

هذا هو الدِّين الذي أرسى دعائمه مَن قال الله -عز وجل- عنه في القرآن: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم: 4]، وشهد له بذلك؛ فالمسلم الحقيقي هو الذي يُحسن العمل بهذا الدِّين، ويكون خير مُمثِّل له.


 


[1] لجَّت: أَيْ: وَجَبت. النهاية في غريب الأثر: ٤/٤٤٠.

[2] الروض الأنف، للسهيلي، تحقيق الوكيل: ٦/٤٦٣. البداية والنهاية لابن كثير، تحقيق التركي: ٦/٢١٨.

[3] أخرجه أحمد (١٧٤٠)، وابن خزيمة (٢٢٦٠)، وأبو نعيم في حلية الأولياء، (١/ ١١٥)، وقال الألباني في فقه السيرة (١١٥): إسناده صحيح.

  

أعلى