إن الصراع بين الصرب والألبان في كوسوفو لا يمكن تفسيره في سياق عرقي وتجاوز قرون من الصراع الديني بين الإسلام والنصرانية في عمق أوروبا، لذلك يجب أن يكون اليقين الثابت لدينا هو أن هذه الأزمة هي جزء من الصراع الحضاري الدائر على مستوى العالم
يمكن تفسير الأزمات الإقليمية على أنها الوجه الخفي لتضخم الصراعات الدولية في
العالم، لذلك نجد دائماً أهم الفاعلين في تلك الأزمات هم مَن يسيطرون على صناعة
القرار العالمي مثل الولايات المتحدة والصين وروسيا والكتلة الأوروبية باعتبارها
أحد أنماط السلوك الأمريكي على مستوى العالم. لكن مع تضخم النفوذ الصيني والروسي في
الآونة الأخيرة وظهور مساحات فارغة خلَّفتها الانسحابات الأمريكية والتهاوي
الأوروبي؛ بدأت قوى إقليمية مثل تركيا تحاول استغلال تلك المساحات سواء في شرق
البحر المتوسط وفي سوريا أو في أذربيجان، وحالياً تُبادر بمحاولة لاحتواء الصراع
بين كوسوفو وصربيا بعد سلسلة طويلة من الفشل الأوروبي الأمريكي المشترك لإنهاء هذه
الأزمة.
كوسوفو هي مساحة جغرافية تقدر بــ 11 ألف كم، يسكنها قرابة مليوني نسمة، غالبيتهم
من المسلمين الألبان وفيهم أقلية نصرانية من الأرثوذكس الصرب، وبعض الأتراك. وتعد
في ديموغرافيتها جزءاً من المعضلة الأوروبية الكبرى التي يمثلها أكبر تجمع للمسلمين
في أوروبا يشمل البوسنة وكوسوفو وأقلية مسلمة تصل إلى 200 ألف نسمة في الجبل
الأسود، لذلك ولأنها أزمة مرتبطة بالصراع على الهوية الدينية رغم المحاولات الصربية
المختلفة لتغطيتها بغطاء عرقي وسياسي؛ فإن الاعتبارات التي يظهرها دائماً الزعماء
الصرب مرتبطة بالتراث النصراني الأرثوذكسي، فهم يعدونها أرضاً مقدسة شهدت هزيمتهم
المريرة على يد العثمانيين في معركة (ميرل) عام 1389م، لذلك ومنذ استيلائهم عليها
مرة أخرى عام 1913م حاولوا طمس هوية السكان المسلمين وترحيلهم بشتى الطرق.
ففي عام 1989م ألغت الحكومة الصربية إدارة الحكم الذاتي في كوسوفو، وأصبح الإقليم
يخضع لسلطة بلغراد المركزية التي بدأت في إقالة جميع القادة المحليين المسلمين
الألبان واستبدلت بهم صرباً، وعقب انهيار النظام الشيوعي عام 1990م واصلت الحكومة
الصربية الضغط على السكان الألبان، وأمعن الرئيس الصربي (سلوبودان ميلوسيفيتش) في
(صربنة) كوسوفو من خلال إجراءات قمعية كانت تستهدف كل طبقات المجتمع المسلم فيها؛
سواء بمنع استخدام اللغة الألبانية في مؤسسات التعليم أم بطرد الأكاديميين
والمعلمين المسلمين من وظائفهم واستبدل بهم آخرين صرباً، وكذلك ترديد شعارات واضحة
العداء للإسلام في كوسوفو من بينها
«نحن
حماة النصرانية من خطر الإسلام»،
و
«لا
لعودة الحكم التركي»
و
«
لا لكوسوفو 1389م»،
وهي شعارات تذكِّر بالصرب بالحكم العثماني لكوسوفو، لذلك كانت السلطات الصربية
حريصة على استهداف كل مصدر للهوية الإسلامية في الإقليم، فاعتقلت 43 شخصية من علماء
المسلمين من بينهم الشيخ (رجب بويا)، رئيس المشيخة الإسلامية في كوسوفو حتى بلغت
نسبة البطالة بين المسلمين الألبان 40 %، إلى أن جاءت اتفاقية (دايتون) التي رسمت
ملامحها وزيرة الخارجية الأمريكية اليهودية (مادلين أولبرايت) بهدف إنهاء الحملة
الصربية على البوسنة والهرسك، والتي أسهمت في إدخال البوسنة في حالة من التعايش
السياسي مع الصراع على الهوية، فأولبرايت أثناء المفاوضات بين الطرفين قالت جملة
شهيرة بشأن الفصائل الجهادية التي شاركت في قتال الصرب في البوسنة مفادها:
«يجب
أن تتخلص أوروبا من هذه البقعة السوداء»،
وهي بذلك تشير إلى الديموغرافيا المسلمة التي أصبحت عنصراً مهماً في الأمن القومي
الأوروبي والصراع بين روسيا والكتلة الغربية.
وفي الوقت الذي بدأت فيه المدافع تخمد نارها في البوسنة، زاد سعار الزعيم الصربي
(سلوبودان ميلوسيفيتش) ليصعِّد من حملته القمعية ضد مسلمي كوسوفو الذين بدؤوا
بالمطالبة بانفصالهم واستقلالهم عن يوغسلافيا، وفي عام 1998م بدأت القوات
اليوغسلافية بشن حرب شاملة عبر إرسال فِرَق من الجيش لسحق الاحتجاجات في كوسوفو وتم
تنفيذ حملة شرسة لتدمير المساكن والمساجد بهدف طرد المسلمين وتعديل التركيبة
الديموغرافية للإقليم، وقد تسببت الحملة الصربية بنزوح أكثر من مليون نسمة من
كوسوفو وبلغ عدد الضحايا قرابة 15 ألف مدني، ومع اشتداد الحملة الصربية تدخلت أطراف
أوروبية مثل فرنسا وبريطانيا وألمانيا لاحتواء الصراع مع تزايد الضربات التي بدأ
يوجهها جيش تحرير كوسوفو إلى القوات الصربية، وكذلك تفجُّر أزمة أمنية معقدة قد تضر
بالأمن القومي الأوروبي مع تضخم موجة الهجرة بفعل الصراع، ومع انتهاء مفاوضات
(رامبوييه) في فرنسا بتعنت الصرب ورفضهم الحلول السياسية التي تقضي بالقبول بخطة
سلام تضمن منح كوسوفو الحكم الذاتي، ورفض بلغراد وقف الحملة العسكرية؛ تدخلت
المنظومة الغربية عبر يدها العسكرية حلف شمال الأطلسي وقصف القوات الصربية في
كوسوفو لإجبارها على القبول بالحل السياسي، وتمَّت صياغة اتفاق جديد يقضي بانسحاب
القوات الصربية ونشر قوات دولية لضمان استقرار الأوضاع الأمنية في الإقليم.
في فبراير 2008م تبنى برلمان كوسوفو بالإجماع قراراً يقضي بانفصال الإقليم عن صربيا
وإعلان استقلاله، وقاطعت الأقلية الصربية في مدينة متروفيتشا الشمالية على الحدود
مع صربيا الإعلان، وفشلت بلغراد في حشد دعم دولي لإبطال القرار وتمكنت كوسوفو من
الحصول على اعتراف 97 دولة حول العالم أهمها الكتلة الأوروبية وبريطانيا والولايات
المتحدة وتركيا التي تلعب في السنوات الأخيرة دوراً فاعلاً في احتواء الأزمة بين
الجانبين التي تطورت بفعل إعلان كوسوفو تكوين جيش خاص بها عام 2018م، وقيامها
مؤخراً بتقديم طلب لألبانيا بالوحدة معها وهو أمر طالما رغبت به ألبانيا، ورفضه
الروس الذين يدعمون السياسية الصربية في التعامل مع كوسوفو.
إن الصراع بين الصرب والألبان في كوسوفو لا يمكن تفسيره في سياق عرقي وتجاوز قرون
من الصراع الديني بين الإسلام والنصرانية في عمق أوروبا، لذلك يجب أن يكون اليقين
الثابت لدينا هو أن هذه الأزمة هي جزء من الصراع الحضاري الدائر على مستوى العالم،
فالكتلة الأوروبية تعتقد أن الحيز الديموغرافي الإسلامي يعد نقطة احتواء لتغلغل
النفوذ الروسي في القارة العجوز، وهو أمر حدث في أوكرانيا وجورجيا ولا يستبعَد
حدوثه مرة أخرى ولا سيما أن بلغراد تخضع خضوعاً تامّاً للقيادة الروسية بشقيها
السياسي والكنسي. ومن جانب آخر فإن الكتلة الأوروبية عبَّرت على لسان الرئيس
الفرنسي إيمانويل ماكرون بوضوح بأنها لا ترغب في كيانات مسلمة داخل الكتلة
الأوروبية واضعة بذلك كثيراً من العراقيل أمام انضمام كوسوفو للاتحاد الأوروبي، ومع
استمرار فشل الاحتواء الأوروبي للأزمة بين الطرفين وجدت تركيا مساحة سياسية يمكن أن
تمارس فيها دوراً فاعلاً ليس من منطلق الحاضنة السياسية لكوسوفو؛ بل في سياق إقليمي
أكثر شمولاً يتعلق بقيامها بدور سياسي بديل عن الاتحاد الأوروبي خصوصاً أنها تتمتع
بعلاقات دافئة مع جميع أطراف الأزمة.
في يوليو الماضي أرسل الرئيس التركي (رجب طيب أردوغان) رسالة غير سارة إلى صربيا
بعد تصريحه بقيام تركيا بالضغط على عدد من الدول من أجل الاعتراف بكوسوفو، وهنا
ينبغي التطرق إلى جذور السياسة التركية الحديثة في التعامل مع الأزمة في البلقان،
وهي سياسة عرَّابها وزير الخارجية التركي الأسبق (أحمد داوود أوغلو) الذي حاول
تعزيز مكانة تركيا في المنطقة وسط المجتمعات المسلمة باعتبارها وسيطاً ومانحاً
ومغناطيساً ثقافياً ودينياً عبر مجموعة من المشاريعة الخيرية والاقتصادية
والتعليمية، تنفذها مؤسسات ومراكز مثل مركز يونس إمرة، ومؤسسة (ديانت) التركية
الشهيرة. مؤخراً استضاف وزير الدفاع التركي (خلوصي آكار) نظيره الكوسوفي (أرميند
مهاج) في عشاء عمل شارك فيه وزراء دفاع أوكرانيا وجورجيا وأذربيجان وليبيا، وفسرت
هذه الخطوة بأنها مناورة تركية مدفوعة باستياء أنقرة من السياسيات الصربية التي طفت
على السطح خلال الصراع بين أرمينيا وأذربيجان وقيام بلغراد بتسليم أرمينيا ذخائر
ومدافع من العيار الثقيل، بالإضافة إلى إدراك أردوغان الفشل الأوروبي في هذا الملف؛
الأمر الذي يساهم في خلق مساحة لمبادرات جديدة، قد يمهد لها الدور الاستثماري
الكبير الذي تقوم به تركيا في كوسوفو عبر إدارتها للمطار الرئيسي في البلاد، وبعض
مشاريع البنية التحتية.
خلال الأيام القليلة الماضية بدأت بلغراد بحشد قواتها الخاصة على الحدود مع كوسوفو
بعد قرار من الأخيرة يمنع المركبات التي تحمل لوحات صربية من دخول أراضيها
باعتبارها تعبر حدود دولة أخرى، وقد يكون أحد دوافع تصاعد نبرة الصراع بين الطرفين
هو تضاؤل التأثير الأوروبي في هذا الملف، وكذلك عدم اهتمام الإدارة الأمريكية
الحالية بالأزمة، فقد أشارت مجموعة الأزمات الدولية في أحد تقاريرها إلى عودة أصداء
مقلقة لصراع التسعينيات من القرن الماضي في غرب البلقان مع توقف المحادثات التي
يرعها الاتحاد الأوروبي.
في الفترة الماضية أرسلت الإدارة الأمريكية إلى كسوفو 55 عربة أمنية مصفحة لدعم جيش
كوسوفو الذي يبلغ تعداده 3400 جندي. تأتي الخطوة الأمريكية بالتزامن مع الحشود
الصربية على الحدود وفي انتهاك واضح لاتفاق نزع السلاح في المنطقة الحدودية، وهذه
الخطوة من بلغراد فُسِّرت على أنها مراهنة على صعود اليمين المسيحي الشعبوي في
الدول الغربية، في الوقت نفسه تعتقد كوسوفو أن رهانها على الولايات المتحدة غير
مجدٍ في ظل المتغيرات الإقليمية، وقد عبَّر عن ذلك أحد قادة المجتمع المدني في
كوسوفو في أحد النقاشات السياسية بقوله:
«بينما
لم يعد أصدقاء كوسوفو ينظرون إلى صربيا على أنها عدو، يواصل أصدقاء صربيا بالنظر
إلى كوسوفو على أنها المشكلة».
تبْني صربيا مشروعها السياسي تجاه كوسوفو على أساس تاريخي ديني يسمى (العالم
الصربي)، وهو ليس معتقداً سياسياً فقط بل موروثاً دينياً وعرقياً أيضاً بالنسبة
للصرب؛ يُفشِل أي مبادرة للسلام في المنطقة. لذلك تبحث القيادة السياسية في كوسوفو
عن الخروج من مأزق الرهان على الحلول الأوروبية، وبدأت بالبحث عن حاضنة تحميها من
التغول الصربي عبر الوحدة مع ألبانيا أو تعميق العلاقات مع تركيا، وقد صرح رئيس
الوزراء الألباني (إيدي راما) أنه سيصوت لمشروع الوحدة بين ألبانيا وكوسوفو في حال
جرى استفتاء على ذلك.
في عهد الرئيس الأمريكي السابق (دونالد ترامب) تم تعيين (ريتشارد جرينبل) مبعوثاً
لتسوية العلاقات بين صربيا وكوسوفو، وكان الحل على الطريقة الأمريكية يقضي بتوقيع
اتفاقية اقتصادية بين البلدين قبل الخوض في الخلافات السياسية، وتضمنت الاتفاقية
فتح خطوط الطيران بين بريشتينا وبلغراد وهي متوقفة منذ حرب كوسوفو 1998م، وإقامة
منطقة تجارة حرة، وتعليق جهود كوسوفو للانضمام إلى المنظمات الدولية يقابله وقف
الضغط الصربي على الأطراف الدولية لسحب الاعتراف بكوسوفو. إلا أنه لم تنفَّذ أي
نقطة جرى الحديث بشأنها باستثناء استجابة كوسوفو لطلب أمريكي بإنشاء سفارة لها في
القدس المحتلة وإقامة علاقات دبلوماسية مع الدولة العبرية.
تضغط روسيا بشدة لتهيئة ظروف تساعد حلفاءها الصرب عبر محاولة انقلابية ساهمت بدعمها
في الجبل الأسود عام 2016م وكذلك منع حصول كوسوفو على الاعتراف الدولي الكامل في
مجلس الأمن، ودعم الجيش الصربي ردّاً على اقتراح قدمته البوسنة للانضمام إلى حلف
الناتو... كل ذلك يقابله الانسحاب الأمريكي من هذا الملف، وكذلك ترهل موقف الاتحاد
الأوروبي بعد حالة الانهيار التي أصابت مشروع توسعه عقب الانفصال البريطاني
والأزمات التي ضربته سواء فيما يتعلق بكورونا أم بأزمة اللاجئين والخلافات
الأمريكية الأوروبية حول ميزانية حلف شمال الأطلسي وفشله في أفغانستان، أم
بالخلافات الألمانية الفرنسية التي انتهت برحيل المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل
عن كرسي الحكم في ألمانيا مخلِّفة ورائها فراغاً سياسياً كبيراً في قيادة الاتحاد
الأوروبي.