أي حرب من الحروب المعاصرة إلا وتخرج الأطراف المتنازعة منهارة القوى وتخرج شركات الأسلحة وسماسرة الحرب بثروة هائلة، وهو ما يدل على أن من مصلحة الشركات استمرار الحروب ولو تطلَّب الأمر افتعالها أو على الأقل افتعال الأزمات التي تدفع الأطراف إلى السباق نحو الت
الموت حدث طبيعي وسُنة كونية يصيب جميع المخلوقات والكائنات الحية. يجعل الكائن
ينتقل من هذه الحياة إلى حياة أخرى أو يختفي من الحياة الدنيوية نهائياً، هكذا موقف
الناس في العالم تجاه الموت كلٌّ حسب مرجعيته الدينية والفكرية.
في الدين
الإسلامي يُعرف الموت بالحدث الذي يحصل بانفصال الروح عن الجسد وانتقال الإنسان
بعدئذٍ إلى الحياة الأبدية. أما من الناحية الطبية فيقع الموت بتوقف جميع أعضاء
الجسد عن العمل. في عالم الإنسان يتميز الموت من حيث تجلياتُه وتأثيراته الاجتماعية
عن باقي الكائنات الأخرى؛ لأن الإنسان كائن اجتماعي غير منفصل عن محيطه، ومتفاعل
معه بالتأثير والتأثُّر. إذ يخلق الموت له آثاراً اجتماعية تفاعلية تلقائية تتمثل
في مشاعر الحزن وقيم التضامن والتكافل وتقسيم الميراث والانتقام إذا كان الموت
قتلاً. ولعل هذا سبب تشريع الجنائز والمآتم وطقوسهما. كل ذلك لأن الإنسان يختلف عن
باقي الكائنات الحية، بل هو كائن مكرَّم عن باقي المخلوقات بالتقرير القرآني.
رغم كون الموت ظاهرة طبيعية، إلا أنه في ظل التعقيدات الاجتماعية وتضارب المصالح
والصراع السياسي أضحى حدثاً له موقع بارز في التخطيط الإستراتيجي لأي تصور أو عمل
سياسي: إما أن يكون هدفاً بعينه أو يكون وسيلة لهدف معيَّن، بأن يخطط لهدف معين عن
طريقه. وإما بموت شخص أو أشخاص أو بقتلهم لأنهم يشكلون عقبة لهذا المشروع. لأن
التخطيط الإستراتيجي في أصله هو تحديد الإجراءات لتحقيق أهداف وغايات محددة بعد
تعيين الوسائل والموارد المناسبة.
لطرفي الموضوع (الموت والتخطيط الإستراتيجي) علاقة وطيدة وراسخة القدم في التاريخ
البشري، منذ أن وعى الإنسان كونه فرداً مجتمعياً يختلف عن أخيه الآخر اجتماعياً
وثقافياً وحتى سياسياً. إن علاقة حدث الموت بهذا النوع من المخططات مرتبطة بالأساس
بالتحولات المجتمعية والصراع والتنافس الذي يتحكم فيها: إما بين جماعتين بشريتين أو
أكثر، وإما بين المجتمع والسلطة التي تحكمه، وإما بين سُلطتين نديتين. كما له
ارتباط وثيق بالمال وما يسمى بصناعة الموت. كما هو واضح في النقاط الآتية.
أولاً:
البحث عن شرعية الاحتجاج بالموت
نجد هذا الأمر في أدبيات الحركات الاحتجاجية السياسية والاجتماعية من قبيل الحركات
الطلابية والعمالية والنقابية و (النسوية)... إذ تحاول أن تكسب الشرعية أو تضفيها
على ما تقوم به من احتجاج وإزعاج للسلطة والنظام القائم، وحتى تكون ذات تأثير قوي
في الجماهير تستغل حدث موت أو قتل أحد أعضائها أو حتى من خارج مجموعتها من قِبَل
رجال الشرطة والعسكر، والترويج له على نطاق واسع وبكل الوسائل على أساس أنه شهيد
القضية، وأنه ضحية سياسة تعسُّف وظلم الدولة والسلطة المحتج عليها. وبهذا الحدث
تستطيع هذا الحركات أن تقنع باقي الأطراف المتعاطفة وعامة الشعب بأطروحتها السياسية
والأيديولوجية أو على الأقل أن تكسب ودَّها وتعاطفها.
وفي حالة لم تستطيع أن تقدم شهيداً للحركة بهذه الطريقة: إما لضبط النفس الذي
تنتهجه السلطة أحياناً، وإما لاعتبارات أخرى تراها الجهات النافذة في الدولة غير
مناسبة في الوقت نفسه؛ كأن ترى مثلاً أي تدخل منها بالقوة قد يجعل القضية رأياً
عامّاً دولياً، فإذاك يعمل قادة الحركات الاحتجاجية على التضحية بأحد أفرادها؛ كأن
تدفع بالمتعاطفين إلى مهاجمة الأجهزة الأمنية والمواجهة معها، وهي تعلم مسبقاً بأن
هذا الفعل الذي أقدمت عليه سينجم عنه وفيات في صفوف هؤلاء... لكن من أجل شرعية
الاحتجاج فإنها تتمادى في هذا الأمر وتضحي بالذي تناضل من أجله دون أدنى حسٍّ
أخلاقي، فقط انتصاراً لفكرتها السياسية والأيديولوجية.
ثانياً:
الحركات الثورية والإرهاب
إن هذه الحركات الثورية في الأصل حركات احتجاجية سياسية أيديولوجية لها تصور سياسي
أيديولوجي أو ديني، مخالف للأنظمة السياسية التي تناهضها وتحاربها. إلا أن ما يميز
هذه الحركات هو اختيارها الطريق المسلح، على خلاف الحركات السياسية السلمية. فقد
اختارت الطريق المسلح والعمل العسكري منظماً كان أم بطريقة العصابات وحرب الشوارع
والاغتيالات للتعبير عن أيديولوجيتها ولإحلال نظامها الجديد ولتحرير الشعب مما
تسميه بالأنظمة الفاسدة؛ بقلب النظام السياسي كاملاً إذا ما استطاعت أن تقنع جزءاً
من الجيش بأطروحتها، أو للاستقلال ببقعة جغرافية تراها محتلة يجب تحريرها. وهي في
هذا الأمر واضحة في مسارها واختياراتها منذ البداية.
والذي يميز أغلب الحركات الثورية والجماعات المسلحة هو عملياتها العسكرية النوعية
التي تتسم بِسِمة الإرهاب؛ أي أنها تلجأ إلى هذا الأسلوب باعتباره وسيلة من وسائل
الإكراه. فقد تستخدم العنف المتعمد من أجل زعزعة الأمن وإثارة الرعب والخوف والفزع
في نفوس المتعاطفين مع النظام بما في ذلك المدنيون. وذلك عن طريق تفجير السكك
الحديدية والموانئ والمطارات والمنشآت الحيوية وتسميم المياه ونشر الأمراض المعدية
واستهداف المسؤولين وعائلاتهم وحتى قادة الجيش بالاختطاف والاغتيال، فضلاً عن
المواجهة المباشرة مع رجال الشرطة والجيش... كل ذلك لخلق حالة من الفوضى والرعب
وعدم الاستقرار بين أفراد المجتمع. بعض الجماعات المسلحة تُفْرط في القتل وتنهج
سياسة الموت الشامل لإرهاب المتعاطفين ومعاقبتهم على مساندتهم للنظام السياسي؛ خاصة
إذا كانت هذه الجماعات جزءاً من النظام السياسي والدولة وتم إقصاؤها وإبعادها عن
طريق الانقلاب العسكري.
ثالثاً:
فرض القانون بالموت
عندما تعجز الدولة أو السلطة عن تمرير قانون معيَّن أو فرضه نظراً ليقظة المجتمع أو
لشدة مقاومته أو خشية المقاومة من المعارضة أو لصعوبة تنزيله بالصورة المعهودة، أو
حينما تفشل في تنزيله بقواتها الناعمة، فإنها تلجأ إلى الطريق الثالث الذي هو
استغلال حدث الموت قتلاً كان أم طبيعياً، أو أنها تفتعل وتخلق حدث الموت قتلاً
بواسطة جهازي الشرطة السرية والاستخبارات، حتى يتسنى للجهة المسؤولة أن تفرض ما
تراه يدخل في إطار أمنها القومي أو الوطني؛ كنظام الطوارئ، وغلق شواطئ الاستجمام
لأهداف عسكرية سرية، وحظر التجوال في أماكن معيَّنة، وفرض قانون الإرهاب.
من بين هذه الأحداث التي تم استغلالها بكثرة: نجد (الإرهاب)، إذ كثير من الدول
افتعلت أحداثاً إرهابية فقط لتمرر قانون الإرهاب ولتكون مطية لمتابعة ومعاقبة
المعارضين السياسيين أو جزء من الشعب لدوافع أيديولوجية، أو تنفيذاً لالتزامات
خارجية. في الدول غير الإسلامية وبالأخص الغربية منها تم استغلال الأحداث الإرهابية
لتضييق الخناق على الجاليات المسلمة، بسن قوانين مجحفة في حق المسلمين كمنع الأذان
بالمساجد، وحظر الحجاب في الأماكن العامة، والسخرية في الإعلام من كل ما هو إسلامي
وعربي، إلى غير ذلك... وهو ما نجم عنه ارتفاع ظاهرة إسلاموفوبيا في تلك الدول. بل
إن حكومة (بوش الابن) استغلت اصطدام الطائرتين ببرجي التجارة العالمية يوم 11
سبتمبر 2001م، لغزو أفغانستان الذي دام عشرين سنة، ومن بعدها العراق، وهو ما نجم
عنه ارتفاع عدد اللاجئين وتدمير البُنَى التحتية، دون الحديث عن مئات الوفيات.
والمستفيد من كل هذا هو شركات الأسلحة، والكيان الصهيوني الذي يرى تدمير محيطه
الإقليمي يندرج ضمن أمنه القومي.
وأحياناً تكون جهة نافذة في الدولة هي التي تسهر على تنفيذ عمليات الاغتيال وأعمال
إرهابية لإحراج المسؤولين المنتخبين أمام الشعب ومن ثَمَّ إرغامهم على تقديم
الاستقالة، أو لإرغام المسؤولين الجدد على القبول بالوضع القائم والنهج الذي تسير
عليه الدولة العميقة.
يُدرَج في هذه الخانة المرتزقة والحروب بالوكالة، إذ إن الدولة نفسها أو الجهات
النافذة داخل الدولة تلجأ إلى تنفيذ قوانين معيَّنة بالاغتيالات المخالفة للقانون.
فتستعين عن طريق مخابراتها بالمرتزقة المحترفين للقيام بالمهام الموكولة إليها
مقابل المال ومن غير التزامات ولا أي شيء يدل على تورط الدولة في الأمر؛ إذ هدف
الدولة هو تمرير القانون الذي ترمي إلى تطبيقه، وهدف المرتزقة هو المال لا غير،
لأنه لا يقاتل لأجل هدف سياسي أو أخلاقي، بالإضافة إلى أنه لا يشكل عبئاً على
الدولة. تلجأ الحكومات إلى هذا السلوك حينما يتعلق الأمر بقضية خارج حدودها
السياسية والجغرافية، وبالأخص في مناطق النزاع: إما لإجلاء أو حماية موظفيها
ورعاياها، وإما لدعم الجهات الموالية لها سياسياً ويكون من الصعب عليها الإفصاح عن
الدعم المباشر. فتحمي بذلك نفسها من المساءلة والمتابعة القانونية من قبل الشعب أو
من قبل المجتمع الدولي، بإخفائها للصلة المباشرة والروابط بينها وبين ما تفرضه من
القوانين وما تغيره في أرض الواقع من الأحداث بطرق مخالفة للقانون.
يندرج ضمن هذه الخانة أيضاً ما يُعرَف بسياسة الأرض المحروقة، وهي سياسة تعتمدها
الدولة حينما تكون في حرب مع متمردين متمرسين وأقوياء، يستمدون قوَّتهم من شعبهم
ومن الظروف الدولية ومن جغرافية مناطقهم التي تتسم بالوعورة... فتلجأ الدولة إلى
اعتماد هذا الأسلوب بقصف جميع الجبهات بجميع أنواع الأسلحة دون تمييز بين عسكري
ومدني ولا بين امرأة وطفل... في غياب تام لأي التزام بقوانين وأخلاق الحرب، كل ذلك
لإخضاع المتمردين كما تراهم دولتهم. إذ تطلق الدولة في هذه الحالة العنان للجيش
يفعل ما يشاء، فيستحل الأرض والعباد بالنهب للأموال والممتلكات واغتصاب النساء وقتل
المدنيين وحرق المنازل والحقول وغير ذلك من الأعمال التي تندرج تحت خانة جريمة حرب.
رابعاً:
صناعة الموت
تعد التجارة في مآسي الناس وأوضاعهم الأمنية والحروب الأهلية، والحرب بشكل عام مصدر
ثراء هائل لدى صناع الموت. هؤلاء هم الذين يسمونهم بسماسرة وبائعي الأسلحة بكل
أنواعها ابتداء من الخفيفة حتى الثقيلة في السوق السوداء، وحتى الشركات الكبرى
المنتجة والبائعة بشكل قانوني، فهؤلاء هم الرابحون بالدرجة الأولى من استمرار
الحروب، لأن الهدف المثالي هو المال لا غير دون مراعاة مخلفات هذه الحروب من قتل
وتشريد للأبرياء والمدنيين. يقوم السماسرة بالبحث عن مناطق النزاع وربط اتصال
بزعماء وقادة الميليشيات وعقد صفقات معهم حول الأسلحة التي حصلوا عليها بدورهم من
أنظمة فاسدة أو موظفين فاسدين نافذين في الدول والحكومات. يشتغل هؤلاء الأشخاص في
السوق السوداء بعيداً عن الأنظار، ويتميزون بسعة المعرفة والدراية الواسعة بطرق
الإقناع وإتمام عقد البيع وإيصال الشحنة إلى المشتري. تتم هذه العملية مع أمراء
الحرب والانقلابيين والمتمردين والجماعات المسلحة والحركات الإرهابية. إبَّان الحرب
الباردة لعب هؤلاء السماسرة دوراً هاماً في إيصال الأسلحة إلى الأطراف المتنازعة
وإلى مناطق التوتر، مقابل المال فقط.
فأي حرب من الحروب المعاصرة إلا وتخرج الأطراف المتنازعة منهارة القوى وتخرج شركات
الأسلحة وسماسرة الحرب بثروة هائلة، وهو ما يدل على أن من مصلحة الشركات استمرار
الحروب ولو تطلَّب الأمر افتعالها أو على الأقل افتعال الأزمات التي تدفع الأطراف
إلى السباق نحو التسلح، ومن ثَمَّ طرق أبوابها. وإننا نرى ذلك بشكل جلي في أزمة
الحدود بين الدول التي كانت مستعمرات للدول الإمبريالية سابقاً وما تزال. فحينما
غادر الاستعمار والاحتلال مستعمراته خلَّف وراءه مشكلاً أمنياً مرتبطاً بالحدود
الجغرافية والسياسية للدول المتجاورة تنشغل به عن الاستثمار والتطور والتقدم، فقد
رسم الحدود بشكل يظل النزاع قائماً بين الدول المتجاورة: إما بتقسيم أرض وشعب
متجانس بين دولتين ندِّيتين وإما بتكوين دولة من عرقيات مختلفة غير متجانسة
ومتحاربة وإما بترك حدود جغرافية غير مرسومة وغير محدد بدقة، وهو ما يسمح باستمرار
النزاع ومن ثَمَّ ضمان سوق بيع الأسلحة الدفاعية غير الهجومية، حتى وإن اقتضى الأمر
الدفع بهما إلى حرب حدودية غير شاملة حتى لا يكون هناك طرف منتصر وتظل الحالة على
ما هي عليه، ويستمر المستعمر وشركاته الدفاعية في جني الثروة الهائلة.
في الولايات المتحدة الأمريكية تباع مختلف الأسلحة بشكل قانوني، إذ من حق أي مواطن
أمريكي اقتناء السلاح الذي يرغب فيه، في المقابل كل يوم تسجل حالات القتل بالسلاح
الناري في صفوف أفراد المجتمع بمن في ذلك الأطفال والمراهقون. وبالرغم من احتجاج
مستمر للمجتمع المدني ومطالبته بتجريم اقتناء وحيازة الأسلحة النارية إلا أن
شركات الأسلحة وعبر وسطائها السياسيين تضغط وتَحُوْل دون إقرار قانون منع حيازة
الأسلحة النارية، وإلى حدِّ الساعة لم يستطيع أي رئيس أمريكي سن قانون تجريم حيازة
الأسلحة وبيعها. يعني أن مصلحة شركات الأسلحة هو استمرار بيع السلاح وحيازته
واستمرار النزاعات. هذا في أمريكا والعملية تتم بشكل قانوني؛ فما بالك بالدول التي
تعرف انتشار الأسلحة بين أفراد المجتمع بشكل غير قانوني ولم تستطيع حكوماتها
السيطرة على الوضع؟
حاصل الكلام: هو أن عالم السياسة يكاد يلتصق بالموت والقتل والدسائس والمؤامرات،
لطبيعة الصراع الذي يتسم بها، ففي هذا العالم لم يحفظ للموت مكانته ورمزيته
المقدسة؛ وإنما وُظِّف أبشع توظيف لأهداف سياسية، ضمن عمليات توصف بأنها
إستراتيجية؛ إذ أسسها التخطيط والتنفيذ المحمكين. تستمد الدولة والحركات الثورية
والجماعات المسلحة شرعية هذا التصرف من مرجعيتها الفكرية والدينية والأيديولوجية،
تبرر به أفعالها وتقنع المنتمين إليها بأن ما تقوم به أمر صائب لا يرقى إلى عمل
إجرامي؛ بل إن العمل الإجرامي يرجى منه المال فقط أو الانتقام، أما هذا فيعد عملاً
نبيلاً يرجى من ورائه المصلحة العامة، وهذه قضية أخرى تدفعنا إلى التفكير في مسألة
كيف أصبح الإنسان ينتج فكراً ويمسي أسيراً له، ولعل قاعدة (الوسيلة تبرر الغاية)
خير دليل على ذلك. يعني أن الوسائل والطرق لا يجب مناقشتها إن كانت ستوصلنا إلى
الغاية المرجوة. إذاً هكذا انتقل الموت من حدث اجتماعي يستدعي التضامن والتآزر
ومشاركة الأحزان إلى وسيلة مبررة للوصول إلى الهدف المنشود من قبل مرتكبيه، بل أضحى
وسيلة لكسب المال بطرق ملتوية في نظام يسمى صناعة الموت.