تونس.. استثناء الاستثناء

الإشكالية الكبرى في الاستثناء التونسي أن الرئيس قيس سعيد لم يمتلك مقومات الشخصية للاستمرار، فربما تأتي قراراته قنطرةً لقوى أخرى ستعقبه ولا شك بعد أن يكون قد مهَّد لها الطريق نحو السلطوية المطلقة، وسيجد الشعب التونسي أنه فقد الحرية والخبز معاً!


 

مثَّلت تونس الشرارة الأولى للانتفاضات العربية التي حدثت أوائل العقد الماضي، ومثَّل استمرار الحالة التونسية وعدم النكوص عن المكاسب السياسية لعقد من الزمن استثناءً من قاعدة تلك الانتفاضات التي انتكست جميعُها. ومع إعلان الرئيس التونسي قيس سعيد إجراءاته الاستثنائية التي عطَّل بها البرلمان وعزل رئيس الحكومة، وشرع بتغييرات في المؤسسات الحكومية. (دشنت) تونس نهاية الاستثناء. لكنها لم تعُد بَعدُ إلى قعر ماضيها الاستبدادي القديم.

بين الرئيس والنخب الحاكمة والشعب، يأتي الاستثناء التونسي. فقيس سعيد لا يستطيع أن يملك قوة البطش الكافية لإثارة صخب الجماهير حوله، فلا هو جنرال يملك كاريزما البزة العسكرية، ولا مفكرٌ يملك الرؤية الإستراتيجية، ولا هو مناضل قديم ولا ثوري حديث، لا ينتمي إلى حزب، ولا يُحسَب على فريق. لم يجرِّب السياسة قبل الرئاسة إلا مشاركاً بصوت انتخابي أو متابعاً لها في الصحف والفضائيات ربما... إنه رئيس جاء من خارج كل السياقات. ربما أراد أن تكون بداية حكمه هي نهاية الاستثناء العربي الأخير.

أما النخب الحاكمة فتصارعت فيما بينها؛ بعضها قِطَطٌ انتفشت انتفاشة الأسد، وأخرى طأطأت الرأس وتنازلت عن قِوام قوَّتها، والجميع (ضعفاء وأقوياء) (أغلبية وأقلية) لم يكونوا على قدْر المسؤولية، والجميع صار خارج السياق.

أما الشعوب فقد ذاقت فعرفت، عشر سنوات مضت على الانتفاضة التونسية أنشأت أجيالاً لم تعرف للذل مذاقاً ولا للقيد مكاناً، عاشت الحرية وجربت أن تختار وأن تقول فيُسمَع قولها.

وفي مقالة (العبودية المختارة) يروي القاضي الفرنسي (إتيان دو لا بويسي) قصة الإسبارطيَّين اللَّذين نشأا على الحرية ورفضِ الاستبداد (بولس وسبرثيوس)، اللذين ذهبا لمقابلة (إكسرس) ملك فارس المعظَّم... وبينما هما في الطريق صادفا قصراً يملكه والٍ فارسيٌّ يدعى (هندران) كان الملك إكسرس قد عينه حاكماً على كل المدن الواقعة على الساحل. فرحب بهما وأكرمهما وأغدق عليهما من العطايا وفي خطته أن يغريهما ويستميلهما لجهته، فسألهما: لِمَ يرفضا صداقة الملك (إكسرس) وهو يملك كل تلك البلاد ويستطيع أن يجعل منهما صاحبي نفوذ مثله، وقائدين لقومهما وأميرين عليهم.

فكان ردُّ الرجلين: يا (هندران)! هذا الذي تُدِل به علينا من النعيم والسلطان لا تملكه بل أُعطيتَه واستذلَّك به الملك وغداً ينزعه منك ويعطيه لغيرك ولا تستطيع في ذلك قبولاً ولا رفضاً! أما ما نملكه نحن الإسبارطيين لا يمنحه لنا ملك ولا ينزعه عنا سلطان إنها الحرية والقانون. فخرس لسان (هندران) وما حار جواباً.

والشاهد من قصة (إتيان دو لا بويسي) أن الحرية لا يمكن انتزاعها من قلوب من ذاقها وعاشها مهما كانت المساومة عليها بلقمة عيش أو حديث عن أمان مزعوم.

لكن الإشكالية الكبرى في الاستثناء التونسي أن الرئيس قيس سعيد لم يمتلك مقومات الشخصية للاستمرار، فربما تأتي قراراته قنطرةً لقوى أخرى ستعقبه ولا شك بعد أن يكون قد مهَّد لها الطريق نحو السلطوية المطلقة، وسيجد الشعب التونسي أنه فقد الحرية والخبز معاً! لكن سنوات تونس العشر التي جربت بها الحرية ستكون لها الكلمة الفصل، لم تعشْ انتفاضة عربية مثل ما عاشت تونس، ولم تنعم دولة بمثل ما نعمت به من الحرية، ومن ذاق عرف ومن عرف اغترف، وليكن ما تمُرُّ به تونس من أزمات، درساً لنخبتها السياسية التي أساءت إلى مبادئها قبل أن تسيءَ إلى الشعب التونسي، إنها ثورة الياسمين وبائع المسك إما أن يُحذيك أو تبتاع منه أو تجد منه ريحاً طيبة، وسيمتد رحيق تلك الانتفاضة المباركة عبر السنين وعبر الحدود أيضاً لأنه لا أحد يستطيع مقاومة عجلة التاريخ. {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} [الرعد: 17].


أعلى