• - الموافق2024/11/21م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
ما بعد الانتصار.. معضلة طالبان

هناك عدة موضوعات وأسس نظرية مختلفة يمكن عن طريقها الإلمام بالأبعاد الفكرية لحركة طالبان، ولكن هناك مصطلحان يعبِّران أصدق تعبير عن التوجهات الفكرية لأي مجموعة أو تجمع بشري، وهما: الهوية، وطبيعة الفكر السياسي.


«نريد حكومة تشاركية مع مختلف مكونات الشعب الأفغاني»

هذا أول تصريح رسمي لحركة طالبان جاء على لسان قيادي في الحركة من داخل القصر الرئاسي في أعقاب استعادة طالبان للعاصمة كابول ودخولها القصر الرئاسي، ويواصل القيادي تصريحه قائلاً: لا يمكن لأي جهة أن تسيطر على الحكم بمفردها، فتأمين كابول مسؤولية كبرى وهي تختلف عن المدينة التي غادرناها قبل 20 عاماً.

ففي الأسابيع الأخيرة سارت الأحداث في أفغانستان بوتيرة سريعة نحو سيطرة طالبان على حكم أفغانستان، حيث التقدم الميداني لقوات طالبان التي اجتاحت الولايات الأفغانية الواحدةَ تِلْو الأخرى بصورة مذهلة، وعلى الرغم من هذا التقدم الحثيث إلا أن سقوط العاصمة الأفغانية كابول لم يكن يتوقعه أحد، حتى فوجئ الناس باستعادة حركة طالبان العاصمة بعد أن تم إخراجها منها قبل عشرين عاماً، ثم توالى وصول أربعة رؤساء على حكم أفغانستان تحت ظلال الاحتلال الأمريكي.

وبعد سيطرة طالبان على أفغانستان بصورة شاملة أضخم بكثير من سيطرتها قبل ذلك، كان السؤال المتداول والأكثر إلحاحاً بين الجميع: هل طالبان التي وصلت إلى الحكم عام 2021م هي نفسها طالبان التي كانت في الحكم عام 1996م، أم أنها تغيرت وأصبحت كما يصرِّح قادتها حريصةً على أن تظهر بشكل جديد؟

منطق التاريخ والاجتماع يقول إنه ليست هناك جماعة أو دولة - في الغالب - تظل بالإستراتيجيات والأفكار نفسها طوال هذه السنوات؛ بل هناك دائماً متغيرات ومستجدات تطرأ على الدول والجماعات البشرية التي ليست قوالب صماء؛ خاصة عندما تتعرض لهزات وزلازل كتلك التي تعرضت لها طالبان، والتي - لا شك - أنها أحدثت تغييرات داخل الحركة خلال العشرين عاماً الماضية، فطالبان الآن تختلف عن طالبان تسعينيات القرن الماضي وبداية الألفية.

ولكن كيف نحلل التغيرات التي تمر بها طالبان؟

تبدو طالبان حركةً اجتماعية، وأداةُ تحليل تلك الحركات هي منظومة تعتمد على ستة أبعاد، ثلاثة منها داخل الحركة وهي (الفكر والإستراتيجية والتنظيم)، وثلاثة منها ترتبط بالخارج وهي (التفاعل مع البيئة المحلية والإقليمية والدولية).

ونظراً لضيق المساحة سنحاول تحليل التغيرات الداخلية للحركة على ضوء أبعادها الثلاثة:

أولاً: فكر طالبان

هناك عدة موضوعات وأسس نظرية مختلفة يمكن عن طريقها الإلمام بالأبعاد الفكرية لحركة طالبان، ولكن هناك مصطلحان يعبِّران أصدق تعبير عن التوجهات الفكرية لأي مجموعة أو تجمع بشري، وهما: الهوية، وطبيعة الفكر السياسي.

الهوية في أبسط تعريفها هي إجابة عن تساؤل محدد: من (أنا)، وما علاقتي بالآخر؟ سواء كان هذا الـ (أنا) فرداً أم جماعة أم دولة. فهوية أي أمة أو مجتمع أو مجموعة هي صفاتها التي تميزها عن باقي الأمم لتعبِّر عن شخصيتها الحضارية.

والهُوية دائماً تجمع ثلاثة عناصر، هي: العقيدة التي توفر رؤية للوجود، واللسان الذي يجري التعبير به، والتراث الثقافي طويل المدى.

طالبان في مرحلة حكمها الأولى عام 1996م، كان يغلب عليها العنصر أو العِرْق البشتوني، ومن المعلوم أن البشتون يمثِّلون أقل قليلاً من نصف سكان أفغانستان، في حين يمثل الطاجيك حوالي ربع السكان، وهناك أيضاً عرقية الهزارة وعرقية الأوزبك، ولكن في مرحلتها الثانية وطيلة العشرين عاماً الماضية، حرصت طالبان على توسيع عضويتها لتجنِّد ويلتحق بها العديد من العرقيات غير البشتونية لتمتد بالفعل داخل الأجناس الموجودة في أفغانستان. ولعل ما حدث من تمدُّد سريع لطالبان واستعادتها الولايات بشكل أذهل العالم أجمع يعطي مؤشراً على ذلك؛ إذ تمكنت الحركة من دخول المناطق غير البشتونية وسيطرت عليها بسهولة، نظراً لوجود قيادات وعناصر من الأعراق الأخرى التحقت بطالبان وسهَّلت لها التواصل مع المكونات العرقية ذاتها.

بالنسبة لعنصر الهوية الآخر وهو الدين، فإن كثيراً من المحللين يعدُّ طالبان منبثقة من المدرسة الديبوندية، ويفرِّق الخبير الأفغاني مصباح عبد الباقي ومؤلف الكتاب الشهير (المدارس الدينية في باكستان) بين قادة طالبان وبقية أفراد الحركة، فيَعُدُّ قادة طالبان جميعَهم يتبعون هذه المدرسة وهم متصوفة بالعموم، لافتاً النظر - على سبيل المثال - إلى أن سراج الدين حقاني زعيم شبكة حقاني يتبع الطريقة النقشبندية. أما على مستوى العناصر في الحركة، فقد لفت عبد الباقي إلى وجود تيارات مختلفة؛ إذ هنالك تيارات صوفية تختلف فيما بينها أيضاً، فضلاً عن التيار السلفي الذي يبرز في شرق البلاد، بالإضافة إلى بعض المتأثرين بفكر الإخوان المسلمين والجماعة الإسلامية في باكستان.

وفي رأيي أن الديبوندية ليست تصنيفاً مذهبياً أو عقيدياً أو فقهياً، ولكنه تصنيف ينتمي إلى مدرسة وجامعة، يطلق على من ينتمون إليها اسم تلك المدرسة، كمن يسمى أزهرياً أي ينتمي إلى جامعة الأزهر، فكما يمكن أن يكون الأزهري أشعرياً أو صوفياً أو سلفياً أو غير ذلك من المسميات، فإن الديبوندي يمكن أن يكون كذلك أيضاً.

في مرحلة الحكم الأول تشددت قيادة طالبان في اختياراتها الفقهية، فعلى سبيل المثال في لباس المرأة فرضت الشادور الأفغاني، وحرمت ومنعت أي طريقة حجاب أخرى حتى ولو كان النقاب الذي يعرف في المنطقة العربية، ولكن في مرحلتها الثانية توسعت اختياراتها الفقهية الملزمة لعامة الناس ولكن في إطار الشريعة.

وفي هذا يؤكد الباحث في شؤون الإسلام السياسي حسن أبو هنية على حقيقة أنه لا توجد في أدبيات الحركة أي مراجعات فكرية، وما تزال تلتزم بثوابتها ولا تريد التحول إلى إمارة ليبرالية، وهي مصرَّة على حكم الشريعة ولكن منظورات الشريعة بدأت تتغير فقد كانت لا تسمح بالتصوير وفي لباس المرأة كانت الحركة تفرض البرقع الأفغاني وترفض النقاب، والجهاد تغير لديها ليصبح الجهاد محلياً وليس خارجياً.

في حين يؤكد الخبير في الشأن الأفغاني تيسير علوني على أن التغييرات في حركة طالبان هي مسألة قشور، ولن يساوموا في تطبيق الشريعة.

أما الفكر السياسي لدى طالبان فلم يقع بين يديَّ أيُّ تأصيل لفكرة الدولة لدى مرجعيات حركة طالبان العلمية، ولكن عن طريق بعض التصريحات المتداولة والممارسات السابقة والحالية نستطيع أن نرصد أنه في بداياتها الأولى حدد الملا محمد عمر في كلمته التي ألقاها أمام العلماء في قندهار عام 1996م طبيعة الحكم الذي ستسير عليه إمارته الإسلامية، ثم نشرت الحركة هذه الخصائص فكان أهمها: إقامة الحكومة الإسلامية على نهج الخلافة الراشدة، وأن يكون الإسلام دين الشعب والحكومة جميعاً، وأن يكون قانون الدولة مستمداً من الشريعة الإسلامية، كما يتم اختيار العلماء والملتزمين بالإسلام للمناصب المهمة في الحكومة، مع حفظ أهل الذمة والمستأمنين وصيانة أنفسهم وأموالهم وأعراضهم ورعاية حقوقهم المنصوص عليها في الشريعة الإسلامية، ويتبع ذلك توثيق العلاقات مع جميع الدول والمنظمات الإٍسلامية وَفْقَ القواعد الشرعية.

أما تداول السلطة فإنه لم يكن مطروحاً لدى قيادات طالبان، فموقفها من الديمقراطية والانتخابات كان وما يزال هو رفض هذه الانتخابات واعتماد توافق أهل الحل والعقد في مناطق أفغانستان المختلفة على الحكم، وهم أعيان القبائل والعشائر وزعماؤها والعلماء في كل ولاية.

هذا بالنسبة للقاعدة الفكرية للنظام السياسي الذي تريده طالبان، أما شكل النظام السياسي فبعد سيطرة طالبان على حكم أفغانستان من جديد، فقد توالت التصريحات من جانب زعماء الحركة وتنوعت حول شكل النظام السياسي المزمع إنشاؤه، وحتى كتابة هذه السطور لم يتم الإعلان عن هذا النظام بصفة رسمية، ولكن ما صدر من قيادات طالبان بخصوص هذا النظام فكان أبرزه ما أعلنه القيادي في طالبان وحيد الله هاشمي حين قال لرويترز: إن أفغانستان قد تُدار من قبل مجلس حاكم جديد، لكن القرار الأعلى سيتركز على الأرجح في يد زعيم الحركة هبة الله آخند زاده، وأوضح هاشمي أن دور آخند زاده سيكون بمثابة رئيس الدولة، مضيفاً: ربما سيؤدي نائبه دور الرئيس.

ثانياً: هيكلية طالبان

طالبان على العموم ليست حركة تعتمد الهياكل التنظيمية الصارمة كبعض الجماعات في المنطقة العربية، ولكنها إطار شامل لأفراد وعلماء وزعماء قبائل وحركات متحالفة معها بداخلها تدين بالولاء والبيعة لأمير طالبان.

فالحركة ليس لها بنية وهيكلية تنظيمية هرمية كحال القاعدة وداعش، بل هي أقرب إلى الكتلة من الناس التي لها شيخ تخضع له بالسمع والطاعة ويطلق عليه أمير المؤمنين، وهو حالياً الملا هبة الله آخند زاده الزعيم الأعلى لطالبان، وله ثلاثة نواب هم (مولوي يعقوب نجل الملا عمر، وسراج الدين حقاني زعيم شبكة حقاني، وعبد الغني برادر رئيس المكتب السياسي لطالبان وأحد الأعضاء المؤسسين للحركة)، ولا يجوز عزل أمير المؤمنين عند طالبان إلا إذا خالف الشرع، أو عجز عن القيام بمسؤولياته، ويبقى في منصبه حتى الوفاة.

وهناك ثلاثة أنواع من مجالس الشورى للحركة مع تبنِّي الحركة الرأي الفقهي الذي يقول إن الشورى مُعلِمة وليست مُلزِمة:

أحد تلك المجالس مجلس الشورى المركزي للحركة وليس لهذا المجلس عدد ثابت وأعضاء معيَّنون، وإن كانت الحركة في بداية تشكيله أعلنت أنه يضم 70 عضواً.

وهناك أيضاً ما يُطلَق عليه مجلس الشورى العالي لحركة طالبان وتُعدُّ كلُّ القيادات المعروفة داخل الحركة أعضاءً في هذا المجلس ولا يوجد أعضاء محددون له.

وأخيراً هناك ما يعرف بمجالس الشورى في الولايات، إذ شكل كلُّ والٍ مجلس شورى له تناقش فيه الأمور المتعلقة بإدارة حكومة الولاية وحركة طالبان.

وداخل هيكلية طالبان يوجد ما يُعرَف بدار الإفتاء المركزية، وتضم عدداً من العلماء لاستفتائهم في الأمور الشرعية ومقرُّها قندهار.

ولكن هناك تكتلات تنظيمية داخل الحركة قد تكون أكثر تنظيماً من الحركة الأم؛ فهناك - مثلاً - شبكة حقاني وهي مجموعة قوية متحالفة مع طالبان، وأسسها مولوي جلال الدين حقاني، وهو أحد قادة المجاهدين الذين قاوموا منذ بدايات الاحتلال السوفييتي، وتوجد عمليات هذه الشبكة في شرق أفغانستان خاصة في ولايات بكتيا وبكتيكا وخوست ووردك. وقد اتهمتها الولايات المتحدة بهجمات على الأمريكيين من أبرزها هجوم على دارٍ للضيافة في كابل عام 2009م، أسفر عن مقتل سبعة من الاستخبارات الأمريكية.

وهذه الشبكة أكثر تنظيماً من طالبان نفسها ويكاد يُجمع المراقبون على أنها المجموعة الأعقد هيكلية داخل حركة طالبان، فتوجد كتنظيم عنقودي لا تعرف فيه مجموعة شيئاً عن المجموعة الأخرى وهذا يسهل عملها أمنياً.

لذلك في أثناء اشتداد الحرب بين أمريكا وطالبان وفي عام 2014م أعلنت وزارة الخارجية الأمريكية مكافأة مالية قدرها 30 مليون دولار لمن يدلي بمكان خمسة من كبار قادة شبكة حقاني، وخمسة ملايين دولار لكل من يدلي بمعلومات تمكِّن من اعتقال أحد الأربعة، وهم عزيز حقاني وخليل الرحمن حقاني ويحيى حقاني وعبد الرؤوف ذاكر، وعشرة ملايين دولار لمن يدلي بمعلومات عن سراج الدين حقاني، ويقود خليل حقاني حالياً المفاوضات التي تديرها طالبان مع القوى السياسية في كابول، كما أُسند لمجموعة حقاني مهمة تنظيم الحركة حول مطار كابول بعد حالة الفوضى التي أعقبت تحرير العاصمة، وتتولى هذه المهمة إحدى كتائب حقاني واسمها الكتيبة 313 (بدر) التي ترتدي زيّاً عسكرياً موحداً.

ثالثاً: إستراتيجية طالبان

تتعدد التعريفات التي تفصِّل في شرح الإستراتيجية، ولكنها كلها تجتمع على معنى واحد وهو فكرة نستطيع أن نصف بها مساراً يحاول الانتقال من واقع حالي إلى مستقبل مأمول ينتج عن ذلك تحقيق الهدف الرئيس.

ومن خلال هذا التعريف يمكن استنتاج عنصرين هامَّين في تكوين أي إستراتيجية، هما: الهدف الرئيسي أو الإستراتيجي، والمسار الذي يمكن به الانتقال من الواقع إلى الهدف النهائي.

بالنسبة للهدف الإستراتيجي، فقد بدا هذا الهدف الإستراتيجي بسيطاً عندما أراد الملا محمد عمر مؤسس الحركة القضاء على مظاهر الفساد الأخلاقي، وإعادة أجواء الأمن والاستقرار في قريته قندهار، ثم تحوَّل إلى قرى الإقليم، حتى امتد إلى سائر أنحاء أفغانستان وتخليص البلاد من سيطرة الميليشيات المتنافسة وأمراء الحرب الذين يعيثون فيها فساداً وقتلاً ونهباً، وساعده على ذلك طلبة المدارس الدينية الذين بايعوه أميراً لهم عام 1994م، حتى تحول الهدف إلى إقامة إمارة إسلامية في أرض أفغانستان، وهي التي تم الإعلان عنها بالفعل عام 1996م عندما سقطت كابول في أيدي طالبان.

ولكن هل هذا التغير في الهدف الإستراتيجي من محاربة الفساد الأخلاقي إلى إقامة إمارة إسلامية تحكم بالشريعة جاء تلقائياً أم أن أطرافاً أخرى كانت سبباً في هذا التغيير؟

هناك تقارير صحفية عديدة تتحدث عن أن المخابرات الباكستانية قد تبنَّت حركة طالبان ودعمتها، لتتمكن بواسطتها من السيطرة على القرار السياسي الأفغاني واتخاذ أفغانستان حديقة خلفية وظهيراً إستراتيجياً لها، يحميها من التوغل الهندي الذي يحاول ابتلاع باكستان وإعادة توحيد شبه القارة الهندية مرة أخرى.

لذلك فإنه من المدهش - مثلاً - رؤية الحركة وهي تتقدم تجاه كابول عام 1996م وفي حوزتها دبابات وطائرات؛ فمن أين أتى طلبة العلم بهذه الأسلحة الثقيلة فضلاً عن تسييرها؟

في النسخة الجديدة لا يبدو أن طالبان تخلَّت عن دولتها الإسلامية، فهي قد تتجاوز موضوع التسمية فلا تطلق عليها اسم (إمارة) أو تستمر في تسميتها القديمة، ولكن لم تتخلَّ عن الحلم أو الهدف الإستراتيجي وهو تأسيس نواة لدولة إسلامية مع بقاء الهدف المعلن أنها في حدود أفغانستان ولا تتعدى حدودها، وأن هذه الدولة لن تكون مصدراً لتهديد أي دولة أخرى.

وضعت طالبان عدة مسارات لإستراتيجيتها القادمة: وسوف نتناول في هذه المقالة المسار الداخلي ثم الاقتصادي.

أولاً: داخلياً

حرصت الحركة في سبيل تحقيق سيطرتها على جميع أرض أفغانستان على أمرين:

الأول: رفع شعار المشاركة مع جميع المكونات العرقية والمذهبية في أفغانستان، ولكن وَفْقَ شروط طالبان ومنهجها الفكري، ووَفْقَ إستراتيجيتها تلك أعلنت فيها العفو العام عن جميع معارضيها السابقين ودخلت في مفاوضات معهم ما تزال جارية حتى تاريخ كتابة هذه السطور.

وبشكل عام فإن طالبان تمضي في مسارين لشكل النظام القادم:

الأول: مناقشات موسعة تجريها طالبان داخل صفوفها بين عناصرها والمجموعات المنضوية تحتها مع استشارة العلماء والفقهاء لضمان عدم مخالفة رؤيتها للشريعة وأيضاً لضمان قبول كتلٍ جماهيرية لاختياراتها ولضمان تماسك الحركة واجتماعها.

أما المسار الثاني: فيتم مع القوى السياسية والاجتماعية لضم أكبر مجموعة من هؤلاء داخل النظام الذي سوف تتفق عليه طالبان داخلها. 

الأمر الثاني الذي تعتمد عليه طالبان في إستراتيجيتها الداخلية هو إنشاء منظومة أمنية قوية، وكمثال على ذلك فقد اعترف مسؤولون عسكريون أمريكيون لصحيفة The Intercept الأمريكية أن طالبان سيطرت على (كنز بيولوجي) كبير يبدو أنها كانت تعرفه جيداً وتخطط له منذ زمن؛ فعندما بدأت السيطرة على المدن كانت تصادر أجهزة البيانات البيومترية؛ وهي أجهزة محمولة تُستَخدَم لجمع البيانات الحيوية للجسم: البصمات، قزحية العين، مسح للوجه... إلخ. وهذه بيانات لا تتغير مدى الحياة، ولذا فبمجرد جمعها ثم حفظها بإرسالها إلى قواعد البيانات المركزية يمكن استخدامها لتحديد هوية الشخص مدى الحياة، في البداية لم يلاحظ أحد أن طالبان قد سيطرت على تلك المعلومات، حتى لوحظ أن طالبان كانت كلما سيطرت على مدينة اهتمت بمصادرة هذه الأجهزة تحديداً. وفي البداية شكك الأمريكان في إمكانية استخدام طالبان لهذه الأجهزة الحديثة. وكانت النتيجة أن الطالبان - ربما بمساعدة باكستانية - تمكنت سريعاً من استخدام الأجهزة الجديدة. والدخول عن طريقها إلى قواعد البيانات البيومترية المركزية وتنزيل كل القوائم والمعلومات الحيوية لقوات الأمن الأفغانية وللمتعاونين الأفغان بالطبع، ولذلك في أول مؤتمر للمتحدث الرسمي لطالبان سئل عمَّا سيفعلونه مع قوات الجيش الأفغاني؟ قال إن لديهم قوائم كاملة لقوات الجيش، كما تمكنت طالبان من الحصول على هذه المعلومات من الوصول للطيارين الأفغان والتفاوض معهم للتعاون.

ثانياً: اقتصادياً

تحاول طالبان بناء اقتصاد قوي يعتمد على استثمارات متنوعة لثروات أفغانستان، وذلك حرصاً على استقلالها السياسي ولضمان ألَّا يتم لَيُّ ذرعها سياسياً من قِبَل الغرب وإرغامها على تغيير هويتها الإسلامية.

وقد نشر الخبيران الاقتصاديان الأمريكيان (غرايم سميث وديفيد مانسفيلد) مقالاً مشترَكاً بصحيفة نيويورك تايمز هذا الشهر، أوضحا فيه أن حركة طالبان قد وضعت يدها على مصادرَ للدخل وصفها المقال بأنها «مجزية للغاية»، ومع استعداد دول مجاورة مثل الصين وباكستان للتعامل التجاري معها أضحت طالبان بشكل متزايد بمنأى عن ضغوطات الجهات الدولية المانحة؛ إذ إن النشاط التجاري الأكبر والأموال الحقيقية تأتي إلى الحركة عن طريق الاقتصاد غير الرسمي من التجارة في البضائع العادية كالوقود والسلع الاستهلاكية.

ويَعُدُّ المقالُ أن هذا الاقتصاد غيرَ الرسمي يجعل المعونات الدولية تبدو أصغر حجماً بكثير. فعلى سبيل المثال قدرت دراسة أجراها كاتبا المقال عن ولاية نيمروز في أقصى جنوبي أفغانستان ونشرها معهد التنمية لما وراء البحار هذا الشهر، أن الضرائب غير الرسمية التي يأخذها مسلحون للسماح بعبور البضائع بشكل آمن، بلغت حوالي 235 مليون دولار سنوياً جُمعَت لصالح حركة طالبان، وعلى النقيض من ذلك حصلت ولاية نيمروز على أقل من 20 مليون دولار على شكل مساعدات أجنبية في السنة.

ويشير المقال إلى أن مكتب الجمارك في ولاية زاراني هو الغنيمة الكبرى التي حصلت عليها طالبان بعد سقوط المدينة المحاذية لإيران في يدها في، وبالرغم من أن مدينة زاراني كانت تورِّد رسميّاً للحكومة مبلغ 43.2 مليون دولار هو قيمة رسوم جمركية سنوياً، بالإضافة إلى 50 مليون دولار أخرى على شكل ضرائب مباشرة في عام 2020م؛ فإنه تم اكتشاف وجود مبلغ كبير من المال حصيلة تجارة لم يعلَن عنها، لا سيما في الوقود، وهو ما يجعل إجمالي العائدات الحقيقية من البضائع العابرة للحدود تصل إلى 176 مليون دولار في السنة على أقل تقدير.

ويمضي الكاتبان إلى القول: إن المكاسب غير المتوقعة من التجارة العابرة للحدود تجعل من طالبان - بعد أن دانت لها السلطة في أفغانستان - طرفاً تجارياً رئيسياً في منطقة جنوب آسيا، وهو ما يعني أن الأساليب المعتادة لإخضاع الأنظمة (المارقة) للضغوط الدولية كـ (العقوبات والعزل) أقل قابلية للتطبيق في أفغانستان اليوم.

وفي الختام فإن المسار الذي تقدمه طالبان اليوم في التغيير في حال نجاحه، قد يمثِّل - إلى حد ما - حلّاً لإسـتراتيجية التغييـر التي ما تزال معضلـة عند الساعين لتغيير الواقع وَفْقَ منطلقات إسلامية؛ خاصة بعد فشل الخيار العسكري دون أفق سياسي الذي قدمته بعض مجموعات التغيير، أو الخيار السياسي الانتخابي الذي أقدمت عليه مجموعات أخرى ولم يثبت نجاحه حتى الآن.

 


أعلى