اللغة العربية هي أداة الفهم الأولى، بل أعظم وأهم أدوات الفهم وآلاته، ومن لم يحصِّلها فلا سبيل له إلى القرآن والسنة، ولا مكان له بين علماء الأمة، ولا طريق له أن يكون من المقبول قولهم في الدين
يتجلى دور اللغة العربية في بناء العقول، وصقل الأذهان، حتى لتكاد تتفتق ذكاءً،
وفطنةً، وحدَّةً، وصفاءً، تجلياً يظهر بمجرد النظر في عقول العرب الذين نزل عليهم
وفيهم القرآن، وبُعث به إليهم النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان واحداً منهم، ومعه
الذين أسلموا وجوههم لله تعالى فصار من أسمائهم الصحب الكرام رضي الله عنهم.
فهذه العقول العربية قد وصلت إلى منتهى ما يصل إليه عقل بشري فهماً وحفظاً وذكاءً
واتقاداً، وقد تحداهم الله تعالى بعقولهم هذه بأعظم معجزة جاء بها نبي، وهي القرآن
الكريم، وصار نبي القرآن أعظم نبي، وصار أتباعه أعظم الصحب والأتباع للأنبياء من
بني البشر من بعد الأنبياء.
وليس حديثنا هنا، أولاً، عمَّا فعله القرآن في هذه العقول فازدانت وازدادت، أو
عمَّا أضافه إلى اللغة العربية فصارت به أعظم اللغات، وإن كانت من قبله لكذلك،
ولكنها به وصلت إلى ما فـوق السحاب، حيث صارت لغةً تكلم بها العزيز الحكيم جلَّ
وعلا، فهذا حديث ثانٍ.
ولكن حديثنا الأول عن اللغة العربية وعما فعلته في عقول الصحب الكرام الذين هم جزءٌ
لا يتجزأ من المكون العربي، كافره ومؤمنه، هذه العقول التي تأهلت لكي يتحداها الله
عز وجل بهذا الكتاب العزيز، فمهما أجَلْنا الفكر والنظر لنتعرف أسباب رقي هذه
العقول، لا نجد سوى هذه اللغة العربية، وما أودعوه من مكنونات عقولهم الفذة في هذا
الذي عُرف باسم ديوان العرب.
نخلص بذلك إلى ما استقر عليه علماء الأمة طرّاً من اعتبار اللغة العربية هي أداة
الفهم الأولى، بل أعظم وأهم أدوات الفهم وآلاته، ومن لم يحصِّلها فلا سبيل له إلى
القرآن والسنة، ولا مكان له بين علماء الأمة، ولا طريق له أن يكون من المقبول قولهم
في الدين؛ فمن لم يحصِّل اللغة العربية، على رسمها الذي اشترطوه، فلا ثقة بعلومه،
فاللغة العربية أداة العقل الأولى وإليها المنتهى في البناء والتكوين العقلي.
فإذا كان ذلك كذلك فإن اللغة العربية هي لب الثقافة مخها وقلبها، ونعني بالثقافة ما
عناه علماء الأمة بهذه اللفظة، حتى وإن قارب الاصطلاحَ الغربي في بعض تعريفاته،
ولكن اصطلاح الآخر الغربي قد حمَّل اللفظ أكثر مما يحتمل في بعض مقارباته، أو لنقل:
بل فعل ذلك كثيرٌ من الذين انتحلوه إلى لغتنا دون تمحيص اللفظ بالنسبة إلى الأصالة
الاشتقاقية اللغوية العربية.
فنجد المعاني التي تدور حولها لفظ ثقافة وأصلها (ثقف):
(ثقف) الثاء والقاف والفاء: كلمة واحدة إليها يرجع الفروع، وهي إقامة دَرْءِ الشيء.
ويقال ثَقَّفْتُ القناةَ إذا أقَمْتُ عِوَجَها. ورجل ثَقِفٌ لَقِفٌ، وذلك أنْ يصيب
عِلْمَ ما يَسمعُه على استواء. ويقال ثقِفْتُ به إذا ظَفِرْت به.
فالثقافة في أصل استعمالها حسي ومادي، وهو إقامة المعوج. وقولهم: إقامة دَرء الشيء.
يريد معنى مخصوصاً، فإن الدرء هو الاعوجاج. والمقصود بالاعوجاج كل ما خرج عن حدِّ
الاستقامة. وتكون عملية التثقيف أو الثِّقافة (بالكسر) جعل المعوج مستقيماً، ومن
الحسي قولهم: ثقِفْتُ به إذا ظَفِرْت به، على معنى أدركته، ثم انتقل الاستخدام إلى
المعنى المعنوي.
وتكون الثِّقافة (بالكسر) عملية لتحقيق الاستقامة وإزالة العوج عن الصراط المستقيم،
وردِّه إليه، والثِّقاف هي الأدوات المستخدمة في عملية التثقيف. قالوا: الثِّقافُ:
حديدة تكون مع القَوَّاسِ والرَّمَّاحِ يُقَوِّمُ بها الشيءَ الـمُعْوَجَّ.
وعلى ذلك جاء قول عائشة رضي الله عنها عن أبي بكر: وأقام أَوَد الإسلام بثِقَافِه.
قال ابن قتيبة: أي: عوجه بثِقافه. والثِّقاف: ما تُقوَّم به الرماح، ضَرَبَتْهُ
مثلاً، كأن الإسلام رمح اعوجَّ فقومه بالثِّقاف. وقال ابن الأثير: الأوَدُ العِوَج
والثِّقَاف: تَقْويم الـمُعْوَجِّ. وقال: الثِّقَاف: ما تُقَـوَّم به الرماح، تريد
أنه سَوَّى عَوَج المسلمين. وقال ابن منظور: تريد أَنه سَوَّى عَوَج المسلمين.
وعلى هذا كان استخدام الكلمة في سياق الأدب، فكأنها من مرسلات كلامهم، أو مصطلحات
نظمهم، يريدون بها معنى خاصاً، وممن ذكر هذا المعنى ابن رجب في ترجمة الوزير الكبير
ابن هبيرة فقال فيه: فقام فيها قيام من عدَّله الزمان بثِّقافه، وزينه الكمال
بأوصافه.
أما الثَّقافة (بفتح) فهي نتاج عملية التثقيف والثِّقافة، تطلق للدلالة على
الاستقامة الناتجة من هذه العملية.
ومما جاء وَفْقَ المعنى المعنوي كذلك:
يقولون: وهو غلام لَقِنٌ ثَقِف، أي ذو فِطْنة وذكاء. ورجُل ثَقِفٌ وثَقُفٌ وثَقْف.
والمراد أنه ثابت المعْرفة بما يُحْتَاج إليه. وفي حديث أُم حَكِيم بنت عبد المطلب:
إني حَصانٌ فما أُكَلَّم وثَقافٌ فما أُعَلَّم.
وفي حديث الهجرة: ويَبِيت عندَهما عبدُ اللّه بن أبي بكر، وهو شابٌّ ثَقِفٌ لَقِنٌ.
أي فَهِمٌ حَسَنُ التَّلَقُّنِ لِمَا يَسْمَعُه.
ويقولون: ثَقِفَ الشيءَ ثَقْفاً وثِقافاً وثُقُوفةً، حَذَقَه، ورجل ثَقْفٌ وثَقِفٌ
وثَقُفٌ، حاذِقٌ فَهِم.
وأَتبعوه فقالوا ثَقْفٌ لَقْفٌ، رجل ثَقْفٌ لَقفٌ رامٍ راوٍ، وثَقِفٌ لَقِفٌ
وثَقِيفٌ لَقِيف بَيِّنُ الثَّقافةِ واللَّقافة، يريد بيِّن الاستقامة حذِقاً
متقناً لما يعمله.
وأيضاً: رجل ثَقْفٌ لَقْفٌ إذا كان ضابِطاً لما يَحْوِيه قائماً به.
ويقال ثَقِفَ الشيءَ: وهو سُرعةُ التعلم. وثَقُفَ الرجلُ ثَقافةً أي صار حاذِقاً
خفيفاً. ومنه الـمُثاقَفةُ. وثَقِفَ أَيضاً ثَقَفاً: أَي صار حاذِقاً فَطِناً فهو
ثَقِفٌ وثَقُفٌ.
فمن وُصِف بهذه الصفة، أي صفة الثَّقافة (بالفتح)، أو كما يقولون: مثَقَّف (بالفتح)
للدلالة على أنه حاذِقٌ فَهِم، قد أعملت فيه عملية التثقيف بالثِّقاف (بالكسر)،
فصار مثَقَّفا (بالفتح)، أي ذو ثَقافة.
فالثَّقافة (بالفتح) هي نتاج عملية التثقيف والثِّقافة (بالكسر)، تطلق للدلالة على
الاستقامة الناتجة من هذه العملية، ومعنوياً أطلقت على من كان مستقيم الفهم والعقل
والفكر، حتى يخرج إلى الفطنة والحذق والذكاء.
إذن هناك أشياء تؤدي إلى حصول الثَّقافة، وهذه الأشياء هي الأدوات المستخدمة في
عملية التثقيف، فهي آلات وأدوات تحقيق الفهم والفقه والنظر، على استواءٍ من العقل
والفكر، واستقامة.
ويؤكد هذا المعنى قولهم: والثِّقاف والثِّقافةُ العمل بالسيف، وكأَنَّ لَمْعَ
بُرُوقِها في الجَوِّ أَسْيافُ المُثاقِفْ. وأسياف المثاقِف هي الأدوات التي
تُقَوَّمُ بها الرماح.
فهذا فرق ما بين الثِّقافة (بالكسر) والثَّقافة (بالفتح)، وكذلك المثَّقِف (بالكسر)
والمثَّقَف (بالفتح). المثَّقِف (بالكسر)، هو الذي يمارس عملية التثقيف والثِّقافة،
وأما المثَّقَف (بالفتح) فهو الذي تمارَس/ مورست عليه العملية.
وبذلك نتبين أن الاستخدام المعاصر المأخوذ عن الغرب لكلمة الثَّقافَة، يريدون
الأشياء والأمور التي تجعل الشخص مثقفاً، لا تعني كذلك في لغة العرب؛ وإنما
يناظرها: الثِّقاف، أو الثِقافة (بالكسر)، وأما الثَّقافَة في كلام العرب، فيريدون
بها ناتج عملية التثقيف والثِّقافة، إذ يقولون: هو ثقف بيِّن الثَّقافة. أي مورست
عليه عملية التثقيف فصار مثقفاً، فقام بها في نفسه، وظهرت عليه أمارات ذلك ودلائله،
وهي الاستقامة وزوال أسباب العوج حسّاً ومعنى، وعلى ذلك المعنى يتنزل قول عائشة رضي
الله عنها.
ولكن هل يلزم من ذلك أن يكون مثَقِّفاً؟ فنتجوز في الإطلاق، نقول الثقافة (بالفتح)،
ونريد الثقافة (بالكسر)، باعتبار اللزوم، فنعني أنه يمتلك أدوات التثقيف، ويقوم
بعملية التثقيف، بما معه من أدوات/ آلات (ثِقاف)، حصل له ذلك نتاج عملية تثقيف
وثِقافة صحيحة سليمة معتبرة، ربما. فإذا قيل: وزارة الثقافة، والمؤسسات الثقافية،
والتربية الثقافية، ونحو ذلك. كان هذا هو المقصود.
ربما يقال: إن هذا لازم، أن من كانت هذه صفته فهو لا بد أن يكون كذلك: مُثَقِّف
(بالكسر)، أي قادر على أن يقوم بعملية التثقيف والثِّقافة (بالكسر).
أما أن يقال: الثَّقافة هي جملة العادات والتقاليد والأعراف والقيم والمبادئ ونحو
ذلك في مجتمع ما. فهذا تجوُّز في لغة العرب، وما أراه بمرضٍ. ولكن يمكن إطلاقها كما
ذكرنا على النتاج، أو كما يعرِّف بعضهم الثقافة بالإنجازات المعرفية والإبداعية.
ومما جاء به ابن خلدون قريباً من هذا المعنى، أنه جعل حسن الثقافة هي إرادة الظهور
على حال الاستقامة العقلية والفكرية؛ أي سلامة العقل والفهم، إذ ذكرها فيما يقابل
سلامة المظهر، والمقصود التبجح بذلك.
وبَعدُ، فإذا أردنا تعريفاً للثقافة الإسلامية، قلنا: هي نتاج عملية تقويم الفكر
والنظر والقيم والأخلاق والآداب والسلوك والعلم والمعرفة وَفْقَ المنظومة
الإسلامية. أو نتاج صبغ الحياة فكراً ونظراً، وقيماً وسلوكاً، أخلاقاً وأدباً،
وعلماً ومعرفة، وَفْقَ منظور الشرع. فهي استقامة الحياة برمَّتها وفق منظور الشرع:
{قُلْ إنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ
الْعَالَمِينَ
162
لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْـمُسْلِمِينَ} [الأنعام:
162
-
163].
فإذا كان ذلك كذلك فإن اللغة العربية تقع في صميم عملية التثقيف والثقافة؛ فهي أداة
العقل والفهم والحذق والذكاء والفطنة والمنطق الصحيح السليم.
فالصفات الذاتية في المرء التي تمكنه أو تمنحه القدرة على صحة التلقي للعلم
والمعرفة، في غير اعوجاج؛ قد تكون فطرية أو تكون مكتسبة. وقد ترجم علماء الأمة هذه
الصفات إلى معايير تتفق وكلَّ وظيفة ومهمة من واجبات الشرع الكفائية. ذلك لأن هذه
الثقافة يجب توافرها بقدْر في كل قائم بأمر الله تعالى، دينياً أو دنيوياً، بل
يحتاجها كل إنسان في حياته الخاصة.
واللغة العربية تقع في مقدمات الآلات التي توفر للإنسان وظيفة العقل، بل هي الوظيفة
الأولى التي لا يعدلها غيرها، وإليها ترجع علوم الآلة، وما أصول الفقه إلا لبِنَة
من لَبِنَات اللغة العربية، وما المنطق إلا ابنٌ لقيط غاية أمره أن يطلب الانتساب
لها.
وهنا نأتي إلى الأمر الثاني: وهو أن اللغة العربية لا تتم لها وظيفتها الحضارية،
حتى ينضاف لها ما جاء لها مقوِّماً من جهة، وأعملت فيه كالآلة ضربة لازب، من جهة
أخرى، ألا وهو القرآن والسنة. فإن كلّاً من اللغة العربية بشمولها: فنون الشعر
والأدب وسائر علومها، ثم القرآن والسنة، هذه هي مقومات الذاتية الحضارية الأصولية
الإسلامية، ودونها لا مجال للحديث عن ذاتية حضارية.
فاللغة العربية هي الأساس الذي أتت عليه الشريعة بالمقاصد والمصالح الشرعية، فكان
هذا البناء العقلي الذي تُرجم في هذه الحضارة الغنَّاء، وأيَّة رغبة حضارية لا بد
أن تنطلق من الذاتية الأصولية الحضارية؛ فلكل ذاتية أصول تنبني عليها، وفي مقدمة
هذه الأصول في ذاتيتنا الحضارية: الأدب العربي، والقرآن. وإن توسعت، قلت: اللغة
العربية ثم القرآن والسنة.
وإذا نظرنا إلى المعايير التي وضعها أهل العلم للفقيه المجتهد المفتي القاضي، الذي
هو الغاية وإليه المنتهى في النظر، وجدناها ترتد إلى هذين الأصلين.
فاللغة العربية هي وعاء الثقافة، ولبُّها ومخُّها، وهي التي تنتج ذلك المجتمع
المسلم، ذا الثقافة الإسلامية؛ أي ذا العقل والفكر والنظر، الناتج عن الشرع، فضلاً
عن القيم والأخلاق والسلوك وطرائق الحياة أجمع، وجميع العلوم المعارف، هي نتاج
الشرع منبثقة عنه، وكانت الآلة الأولى في هذا التثقيف وتلْكم الثِقافة: اللغة
العربية.
أما الهوية فتقع على الحقيقة والماهية، وتقع في جواب: ما هو؟ وينبغي التفريق بين:
الهـوية الفردية، أو الجماعية، والهوية الجمعية، أو هوية الأمة.
فالهوية الفردية لا أرى للغة العربية دخولاً فيها، حيث يصح إيمان الفرد غير المتكلم
بالعربية، ويصح إطلاق الهوية الإسلامية على الأجنبي غير المتكلم بالعربية، ولا يصح
إطلاقها على كثيرين ممن يتقنونها، بل يحفظون القرآن الكريم، بل أدرج بعضهم في
المجامع اللغوية، لأنهم فقط غير مسلمين.
والهوية في حقيقتها، تتكون من ثلاثة عناصر أساسية:
الأولى: الإيمان بما يشمله من صحة الاعتقاد وسلامة التوحيد.
الثاني: الأسماء والأحكام، حتى نتبين درجات الهوية ومستوياتها، وقد فصَّل علماء
الأمة ذلك على التي هي أحسن، فبينوا درجات الإحسان والإيمان والإسلام، وتكلموا عن
أحوال المسلم من أعلى درجاته، حتى يدخل في المعاصي، كبيرة وصغيرة، وفصَّلوا القول
في أحكام الكبائر وأهلها، وتكلموا عن أحكام الفاسق والفسق، صغيره وكبيره، وعن
المبتدع، ودرجاته، ومَن مِن المبتدعة يدخل في دائرة الإسلام، ومن خارجها، ومن هم
أصحاب البدع الكفرية، وفرقوا بين المبتدع الساكن، والداعي إلى بدعته، وتكلموا عن
أحكام المنافق والمنافقين، والشرك والكفر ودرجات كلٍّ منهما، وفصَّلوا بما فيه
الكفاية في نواقض الإسلام.
الثالث: الولاء والبراء، وهو يكون على وَفْقَ ما سبق. ومكانته في الهوية أصيلة،
وعليه ينبني تحقيق الجماعة المسلمة التي يتوجب لها النصرة والحب والموالاة.
وبذلك نتبين أن اللغة العربية خارجة عن الهوية الفردية.
أما هوية الأمة، وهي في الحقيقة المقصودة بإطلاق لفظ الهوية؛ فإنه لا يُتصوَّر وجود
للأمة دون لغتها العربية؛ فلا هوية للأمة إلا بالحفاظ على كينونتها وذاتيتها، ولا
يكون ذلك إلا بالقيام على أسس الكتاب والسنة، ولا سبيل إليهما دون اللغة العربية.
وقد مرت الأمة الإسلامية بحقبٍ طويلة تحكمها أنظمة سياسية ليست لغتها الأصلية اللغة
العربية، ومع ذلك ظلت محتفظة بهويتها وكيانها، وذلك لحفاظها على كيانها الحضاري
متمثلاً في الأسس والأصول التي ينبني عليها.
وأما بعد انفكاك لحمة الأمة في أواخر زمن الدولة العثمانية بعد ظهور النعرات
القومية، وكان منها الاعتزاز بغير العربية، مع ما صاحب ذلك من الموجات الاستعبادية
الغربية، التي فرضت على العالم الإسلامي المستضعف لغاتها المختلفة: إنجليزية
وفرنسية وإيطالية وألمانية وهلم جراً... تحولت الأمة إلى دولٍ وإمارات وسلطنات
وممالك وجمهوريات، فصار هؤلاء جميعاً في حكم الأفراد بالنسبة للأمة.
فعندما خرجت إيران، وتركيا، وكثير من دول آسيا، وإفريقيا عن العالم العربي، ليس إلا
لكون لغتها غير عربية، ولكنها لم تخرج عن المسمى الإسلامي، ولم تفقد الانتماء للأمة
الإسلامية حكماً، وكذلك الدول العربية، هي في مسمى الانتماء للأمة الإسلامية حكماً،
لأنه في الحقيقة لا وجود للأمة الإسلامية على أرض الواقع، فلا تكون أمة حقيقية، حتى
تكون متحدة اللحمة، على قواعد الإيمان والعقيدة والنصرة والولاء، ولا تكون كذلك إلا
بنظام يحكم بالشرع الإسلامي، وفق الأصول والأسس الحضارية الإسلامية، وفي مقدمة ذلك
ورأسه ولبه وأساسه وقلبه ومخه وعصبه ودمه ولحمه: اللغة العربية، لغة الشرع، لغة
القرآن، كلام العزيز الحكيم.
فشتان ما بين اللغة العربية لساناً، وبينها هيمنة على مجالات التربية والتعليم
الديني والدنيوي، والفكر والتربية والثقافة والإعلام والسياسة والاقتصاد والمجتمع.
فيتصور وجود أفراد غير ناطقين بالعربية، وكذلك جماعات، بل دول، ولكنهم عربيو الهوى
إسلاميو المعرفة والعلم ثقافة وهوية، ما دامت الهيمنة على الساحة الاجتماعية
والسياسية بطول الأمة وعرضها للغة العربية علماً وتعلماً، ثقافة وفكراً، تربية
وتنشئة.
وأخيراً نقول: إن الهوية لا تتبين إلا بمظاهر، وهذه المظاهر أقرب ما تكون إلى
الثقافة في مدلولها الغربي، التي هي:
«ذلك
الكل المركب - وفي بعض الترجمات: المعقد - الذي يضم المعرفة والمعتقدات والفن
والأخلاق والقانون والتقاليد، وكلَّ العادات والقدرات التي يكتسبها الإنسان من حيث
هو عضو في المجتمع».
ومقابل ذلك في المدلول الإسلامي: كل ما يذكر في كتب الأدب، وكتب الآداب الشرعية،
منفردة أو مضمنة كتب الفقه وغيرها، كأبواب الأدب في كتب الحديث، وأبواب السنة
والاتباع، في كتب التوحيد والعقائد. مما يفيد الالتزام بالشرع الحنيف ظاهراً
وباطناً، فكراً ونظراً، علماً وعملاً، قيماً وسلوكاً، أدباً وآداباً وأخلاقاً.
والمدلول الغربي للثقافة لا بد من إدخال بعض التقييدات عليه، وهو أن العادات
والتقاليد لا بد أن تكون موافقة للشرع لا مخالفة فيها، أما المعرفة والمعتقدات
والأخلاق فهي ظاهرة، والقانون المقصود به التشريع الإسلامي، وأما الفن فالحديث فيه
مختلف (بفتح التاء وكسرها).
فما عرف في المدلول الغربي للثقافة على وَفْق ما ذكرنا، أو على تعريفنا للثقافة
سابقاً، هو في حقيقته مظاهر الهوية الإسلامية الفردية أو الجماعية، أما هوية الأمة
الجمعية فيلزم زيادة عليها النصرة والولاء.