كما يظهر لنا في حوادث السيرة استثمار النبي عليه السلام لجميع طاقات أمته الحاضرة بين يديه؛ فهو يعرف الرجال وما يمتازون به، ولم يغفل عن النساء دعوةً وتعليماً وتوجيهاً وإفادةً منهنَّ فيما تُحسِنه المرأة، ولا يقود إلى شر
الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على نبينا محمَّد وعلى آله وصحبه،
وبعد:
من المزايا التي اختصَّ الله بها نبيه
محمداً صلى الله عليه وسلم
أن جعل سيرته المنيفة أسوة في جميع شؤونها، فكلُّ أحد يستطيع أن يقبس منها ويستفيد
سواء في محراب العبادة أم على كرسي التعليم، وإن في بلاط الحكم وقاعات المحاكم أو
عند ساحات القتال والجهاد، وداخل البيت مع الأهل والأطفال، أو ضمن عموم المجتمع مع
الناس كافة على اختلافهم، وفي البيان والسكوت، وحين الفعل والترك، وساعة الرضا
والغضب، وحال الفقر والغنى، وبين المثقفين وعند العامة، وصدق الله القائل عن خاتم
أنبيائه
ورسله: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّـمَن كَانَ
يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب: 21].
وفي هذه السيرة الزكية معالم وملامح يحسن الإشارة إليها والتنبيه عليها؛ خاصة أنها
ترد ضمن سرد السيرة الطاهرة أو في فقهها وربما لا يجد بعضها من الانتباه ما يستحقه،
وهي تزيد من بهاء السيرة وجمالها، وتؤكد كمالها البشري، وسموَّها وتفرُّدها، فلا
تدانيها سيرة بشرية على الإطلاق، ولا يزال الناس مستضيئين بهديها إلى يوم المعاد،
وذلكم مَعْلم جليل إذ هي دائمة خالدة غزيرة العبر مرتبطة بالدين الباقي، ومن رام
النجاة اقترب منها واقتدى بصاحبها؛ لأنها ذات إمداد لا ينقطع من الإيمان والعلم
والأخلاق
الزاكية.
فمِن معالم السيرة المحمـدية أن الـمَلَل لا يدركهـا مهما تكررت، والفوائد متولدة
منها وإن استُفرِغ الوسع والجهد في سبيل استقصاء فقهها ودروسها وعبرها، ولذلك
فالتآليف حولها شعراً ونثراً مستمرة سواء برواية السيرة وتتبُّعها، أم باستجلاء
الهدي النبوي والأحكام الواردة فيها، أم بالوقوف مع فقهها وما حوته من حِكَم، أم
ببيان الآداب والأخلاق العالية فيها، هذا غير ما سُطِّر في كتب الشـمائل والدلائل
والتراتيب الإدارية؛ فهي روض مستطاب متجدد الربيع، ومَورِد عذب صافٍ لا تكدِّره
كثرة من اغترف غُرفَة بيده، أو امتاح منه بما استطاع من جهد ذهني.
كذلك تبدو لنا في سيرة النبي الأجلِّ عليه الصلاة والسلام بشريته التامة في جميع
شؤونه؛ فهو يعيش كما يعيش بنو آدم، ويطرأ عليه ما يطرأ عليهم من حاجات وعوارض
طبيعية؛ بَيْد أن الله زانه بالعصمة والكمال والخيرية المطلقة، مع التأكيد على صفته
البشرية البعيدة عن غلو الأمم الأخرى برموزها، وتقديسها لهم الخارج عن نطاق المعقول
والمخالف لصريح المنقول. والحمد لله أن جعل إمامنا بشراً رسولاً، ورجلاً من أهل
القرى، وهو فوق ذلك نور يستضاء به، وسراج وهاج منير لا يخبو ولا ينطفئ.
ومما يميز السيرة النبوية أنها مكشوفة لأيِّ دارس أو قارئ، فخبره في بيته معروف، بل
يعلم الناس من أحبُّ أزواجه إليه، وتصرفاته علنية منقولة عنه في مسجده أمام
الحاضرين، ومواقفه الدعوية والتعليمية والوعظية والمالية والسياسية والعسكرية
بيِّنة مثل الشمس في رائعة النهار، وكذلك معاملاته الدولية عبر الكتب والمفاوضات
والمعاهدات، وما يأتيه من وحي السماء أو روايات العدول، وفي عباداته واجتماعات
الناس الكبرى، كي يضع الأسس العظيمة لأمته في حياتهم الفردية والمجتمعية، وفيما
ينفعهم في الدنيا والآخرة.
أيضاً مما يتجلَّى في السيرة المحمدية أن فيها سلوان لكلِّ ذي حزن أيّاً كان نوع
الحزن الذي أصابه، إذ ولد يتيم الأب، بلا أخ أو أخت، ثمَّ توفيت والدته، ومات رعاته
الأقربون وحُماته المخلصون، ولم يكن ذا جِدَة مالية أول الأمر، ومارس أعمالاً منها
رعي الغنم، وبعد أن أرسله الله واجه تكذيب قومه لهم، وصدَّهم عنه، وسخريتهم المشينة
منه، وكذبهم الخبيث عليه، وممارستهم التضليل بصنوفه في المواسم وعند سراة الناس،
وتعذيب من آمن معـه، ونهب أموالهم، وحصارهم وتجويعهم، حتى اضطروهم للهجرة والجلاء
عدة مرات لأكثر من مكان، إلى إخراجه النهائي من الديار والأماكن التي ارتبط بها.
وفي المدينة النبوية لم يسلم من غدر اليهود المجاورين له، ولم ينجُ من إفك
المنافقين حتى في الافتراء على عرضه الطاهر المصان الشريف الذي لا تلحقه أدنى ريبة،
وأصابه ألم فراق قرابته وأصحابه الذين ماتوا أو استشهدوا في المعارك، أو قُتلوا
غدراً وغيلة، وناله شيء من التشكيك الأثيم من أحد الأجلاف بعدله وإنصافه وهو الموكل
بوحي السماء يبلِّغه، وواجه الناس على اختلاف طبائعهم، وتباين نفسياتهم وما يحركها،
إلى أن غادر الدنيا بفراق موجع فيه السلوى عن فقد أيِّ عزيز أو حبيب.
ولو حصرنا التهم التي رماه بها أعداؤه وشانئوه زوراً وبهتاناً لوجدنا أنها تتشابه
مع التهم التي تُلقى على طريق جميع المصلحين في تاريخ الأمة، وهذا من أعظم ما
يواسَى به كلُّ مغموز أو مهموز من الصالحين المصلحين؛ فما أصاب النبيَّ الأكرمَ
عليه الصلاة والسلام يصيب السائرين على طريقه والمتبعين لهديه، ومصير جميع تلك
الأقاويل الملقاة على عواهنها أن تتلاشى ويستبين زيفها وخَطَلها في حياة المرء أو
بعد رحيله.
ومن عجبٍ يلتحق بهذا المعلم ولا ينفك عنه أن تكون بعض الأوصاف الجميلة للنبي صلى
الله عليه وسلم جاءت على ألسنة الناس الذين ناقضوا أنفسهم لاحقاً بسوق تلك التهم؛
فالصادق الأمين لا يمكن أن يصبح كما قالوا كذباً، ومن تدبير الله أن تكون بعض
القصائد الخالدة في مدح النبي عليه السلام وتزكيته منسوبة لكفار مثل لامِيَّة أبي
طالب، ودالية الأعشى.
كما يظهر لنا في حوادث السيرة استثمار النبي عليه السلام لجميع طاقات أمته الحاضرة
بين يديه؛ فهو يعرف الرجال وما يمتازون به، ولم يغفل عن النساء دعوةً وتعليماً
وتوجيهاً وإفادةً منهنَّ فيما تُحسِنه المرأة، ولا يقود إلى شر، ولا يقضي على
مهامها الأساسية، بل حتى الأطفال لهم من سيرته نصيب في الخدمة، والتربية، والتلطف،
والإشارة إلى حاجاتهم النفسية والجسدية، ولربما يلفت نظرنا شمول رعايته لأولئك
الذين لم يستطع تقديم شيء لهم نزولاً عند شروط المعاهدات؛ حتى قال لأحدهم كما في
الحديث الصحيح عند البخاري وغيره:
«ويل
أمِّه مسعر حرب لو كان معه رجال»،
فكانت كلمة توجيهيـة لا تخرم المعاهدة، وتنقذ هذا الهارب بدينه وإيمانه من الشرك.
أيضاً تتبدى لنا رحمته صلى الله عليه وسلم بالناس كافة بل بالمخلوقات جميعها؛ فهو
حين كاتب الملوك والزعماء وسادات الناس وحرص على هدايتهم وإنقاذهم من النار، لم
يغفل عمَّن سِواهم ولو كان المدعو غلاماً يهودياً على فراش الموت، أو شيخاً فانياً
أمضى عمره كلَّه في الجاهلية والكفر، أو جاريةً لا حول لها ولا قوة، ولم تقف رحمته
عند بني آدم بل تجاوزت إلى الحيوانات فنهى عمَّا يؤذيها من إتعابٍ أو تحميلٍ فوق
الطاقة، أو إيذاءٍ بالنار أو التجويع أو أخذ أولادها وتفجيعها بهم.
ومن معالم السيرة النضرة أن النبي صلى الله عليه وسلم سيَّر عدداً من الجيوش
والكتائب والفرق وغايتُها الدفاع عن الدين والمستضعفين والديار، والخلاصُ من
المناوئين ونشرُ الدين، وبلغت في العدد قريباً من ثلاثين شارك في ثلثها، وأوكل
بقيتها لأهل القوة والأمانة من قادته الفرسان الشجعان، وفي هذه الإشارة تنبيه إلى
أن القائد يقدِّر المصلحة في مشاركته بنفسه من عدمها، وليس في ذلك أيُّ مأخذ عليه
ما دامت قراراته تُراعي ما يجب مراعاته من باب المصلحة الشرعية والسياسية المعتبرة.
ومما برز في سيرته الكريمة أن موعد ولادته مختلَف فيه على أقوال مختلفة، بينما يتفق
الجميع على تأريخ وفاته في يوم الإثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول، وليس هذا
بغريب لأن ميلاده لم يكن مترَصَّداً من أحد خلافاً لمماته صلى الله عليه وهو أهم
شخصية في أهل زمانه وفي غيرهم، ومن الغريب احتفال بعض الناس بميلاد غير ثابت الموعد
فضلاً عن كونه بدعة صريحة، بينما هو على التحقيق يوم الرحيل الأكيد من الحياة
الدنيا!
ولم يخلِّف النبي صلى الله عليه وسلم مالاً ولا ميراثاً غير هذا العلم الغزير الذي
ظلَّ مورداً لا ينضب وإن مضى عليه أزيد من أربعة عشر قرناً، وهذا مَلْمح نفيس؛ ذلك
أن العلوم التي انبثقت عن دعوته وسيرته كثيرة متشعبة، وفوق ذلك استلزمت علوم آلة
وعلوماً مساندة لم تعرفها الأمم السابقة مع وجود الحاجة إليها مثل علم أصول الفقه،
وعلم مصطلح الحديث، وعلم المغازي والسير، وغيرها، وهي التي قام عليها التراث
الحضاري الإسلامي الضخم في جوانبه العلمية والتطبيقية.
وإن نغفل عن شيء فلا يمكن إغفال ما في سيرته من معجزات حسيَّة باهرة وفريدة مثل
الإسراء والمعراج، بَيْد أنها وقتيَّة لمن عاصرها وإن كان الإيمان بها واجباً على
من بلغته بيقين، وتبقى معجزته الخالدة في القرآن الكريم المحفوظ الذي لا يأتيه
الباطل أبداً، ولا يأتي أحد بسورة من مثله، ولا يستطيع الإنس والجن معارضته أو نقض
شيء منه ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً، ثمَّ في سنته التي هي وحي يوحى تفسِّر القرآن
الكريم وتفصِّل ما أُجمِل فيه، وسيرته التي بتمثُّلِها تتضح حدود الديانة
الإسلامية، تلك الحدود التي فهمها من فتح الله عليه، وعرف أركانها وأُسُسَها
ومفاهيمها الراسخة في حقول الحياة العديدة، وبلغ الموفق مرتبة اليقين بأن خيار
الدعوة وإبلاغ الحجة أصيل فيها؛ لأنه لا ينقض هذا الدين شيء إن سلمت العقول من
غبشٍ، وخلصت النفوس من علل.
ومن معالم السيرة المحمدية أن النبي صلى الله عليه وسلم كان من أواخر المهاجرين
المغادرين مكة إلى المدينة بعد أن أمن على أصحابه، ومن أوائل المشاركين في الجهاد
إذا كان على رأس الجيش.
ومنها أن سيرته جلبت الشهرة الدنيوية لأكابر المجرمين الذين وقفوا في وجه دعوته
الحنيفية، وسيظلُّ أولئك المخذولون مذكورين بِشرٍّ وسوءٍ على ما لدى بعضهم من صفات
قيادية وسمات بشرية متميزة، ولو أردنا استكشاف القاسم المشترك بين عداوة أبي جهل،
ونفاق ابن سلول، وكذب مسيلمة؛ لوجدناه متركزاً في حبِّ السلطة والزعامة، والاستئثار
بالمكانة والأتباع.
وإن من لوازم الاقتداء بالنبي الأكرم عليه السلام، واتخاذه أسوة وإماماً، أن ينظر
المرء إلى جميع السيرة النبوية، ولا يركِّز على جانب واحد منها لدرجة تخفى معها
باقي أجزاء الصورة؛ لأن هذا المسلك يوقع الإنسان في تناقض بغيض، فيكون مقتدياً
مهتدياً في شأن، معانداً عاصياً في غيره، وبسبب هذه النظرة الجزيئة الضيقة للنصوص
والأخبار ظهرت فرق متضادة مثل الخوارج والمرجئة؛ وإنما السلامة والمنهج الحقُّ أن
يرى المسلم المتبع جميع النصوص والمرويات كي يستطيع معرفة الحكم، وينزل على وَفْق
مراد الله سبحانه وتعالى ومراد رسوله عليه الصلاة والسلام، ولا يتحقق هذا إلَّا لمن
أحاط بالدين من جميع جوانبه، ولم يتوقف عند جانب مسكوناً به، ومهملاً لما سواه.