• - الموافق2024/11/22م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
التخصصات غير الشرعية في أحاديث الدعاة

التخصصات غير الشرعية في أحاديث الدعاة


من سمات العصر الذي نعيش فيه أنه عصر المعلومات، وهذا الوصف صحيح لأن المعلومات بأنواعها المختلفة صارت متاحةً إلى حدٍّ كبير لكل الناس؛ وذلك عبر التقنية الحديثة المتمثلة في شبكة الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي. ويشمل ذلك المعلومات الشرعية وغير الشرعية من طب وهندسة وصناعة وزراعة، كما يشمل المعلومات الحكومية وغير الحكومية. على الرغم من أن كثيراً من هذه المعلومات بحاجة إلى مزيد من التدقيق؛ إلا أن كمية لا بأس بها من المعلومات دقيقة ومن مصادر موثوقة. والمعلومات التخصصية التي كان لا يصل إليها إلا القليل من الناس، أصبحت في متناول الأيدي؛ خصوصاً أنها تصدر عن جهات رسمية وموثوقة. أما انتشار العلوم الشرعية فهو من أوضح الواضحات؛ بل إن التقنية الحديثة ساعدت في نشر علوم الشرع أكثر من أي وسيلة أخرى[1].

ما سبق ينبغي أن يؤخذ بعناية عندما يتحدث الداعية[2] في تخصصـه ثم يرِدُ عليه أن يخـرج عن موضـوعه اسـتطراداً أو اسـتدراكاً بسبب ورورد سؤال - مثلاً - من أحد المستمعين، أو ربطاً بالواقع المعاش... ينبغي عليه في مثل هذه الحالات أن يراعي أمراً مهمّاً يتمثل في التأكد من صحة المعلومة غير الشرعية التي ذكرها عَرَضاً. وأقصد بـ «التأكد من صحة المعلومة»: أن يتأكد أن ثمة مصدراً موثوقاً لدى المتحدث استند عليه في هذه المعلومة، وطالما أن المعلومة ليست شرعية فالمصدر ينبغي أن يكون غير شرعي أيضاً؛ فكما أنه لا يقبل أن يفتي في المسائل الشرعية من ليس لديه علم في هذه المسائل؛ فكذلك لا ينبغي أن يخـوض في مسائل غير شرعية من لم يكن ذا مكنة فيها. ولتوضيح المقصود، نضرب ثلاثة أمثلة لمجالات غير شرعية:

الأول: مجال الطب     

ذلك المجال الذي غَلبَنـا فيه أهل الكتاب منذ قرون كما قال الإمام الشافعي[3]، وما يزالون غالبينا إلى العصر الحاضر؛ فمن الخطأ أن ينصح الداعية الناس أن يستخدموا علاجاً معيناً في أمراض بعينها لم يرد هذا العلاج في كتاب أو سنة صحيحة، كما أنه ليس هناك مصدر طبي موثوق اعتمد عليه الداعية في تبنيه لهذا الرأي. وإذا كان الداعية يقبل كلام بعض العلماء السابقين الذين ألَّفوا في الطب فهذا غير لازم لسائر الناس، لأن ما قاله أولئك كان عن اجتهاد منهم في علوم دنيوية، بَنَوا عليها اجتهادهم حسب ما توفر لديهم من علوم طبية في تلك الفترة، وقد يكون كثير من هذه المعلومات قد تغير في الوقت الراهن. ولذلك إذا أراد الداعية أن يتحدث في أمر طبي، فلا بد أن يحيل إلى مصدر طبي حديث لأن الطب من العلوم المتجددة فما كان دواءً في السابق قد يكون داءً في الوقت الحالي وهكذا، ومثله من أراد أن يتحدث في العِلَل الصحية من بعض الأحكام الشرعية، أو الحِكَم الطبية في تطهير نجاسات معيَّنة بمواد معيَّنة، أو معرفة زمن انتهاء وباء ما، وكذلك من يتحدث عن خلق الله تعالى في الأنفس وفي الآفاق فيتحدث عن تفاصيل عمل أعضاء الجسم ووظائفها وعن الكواكب والنجوم والمجرات وماهيتها، معتمداً في ذلك كله على كلام لبعض العلماء الشرعيين السابقين، الذين قالوا ما قالوه قبل قرون من الزمان، أو - وهذه ثالثة الأثافي - الاعتماد على أحاديث غير صحيحة مذكورة هنا وهناك. إن الاعتماد على هكذا مصادر سواء كانت مصادر فقهيـة أم مصادر طبية قديمة، أم على ما روي من أحاديث وآثار يدل على مستوى ضعيف قد لا يكون مقبولاً في الوقت الحالي؛ إذ ليس لأحد عذر في عدم «التأكد من صحة المعلومة» لأن الأمر كما أسلفنا أصبح ممكناً من خلال توفر المعلومات.

الثاني: الإرشاد النفسي وعلوم الاجتماع وصحة الأسرة والمجتمع 

وهذا أيضاً علم من العلوم التي لها أسس قامت عليها ولها مناهج متبعة في الكليات والجامعات، وخوض الداعية في الإرشاد النفسي أو توصية الأسرة بأداء تصـرفات معيَّنة لمعالجة مشكلة اجتماعية أسرية معتمداً في كل ذلك على مجرد التجارب التي عاشها أو على ما يتناقله الناس في بيئته... هذا أيضاً خطأ قد يضر المستفتي كثيراً، لأن الأمر قد لا يكون كما ذكره الداعية، وأنَّى له بمعرفة التعامل الأمثل مع نفوس المراهقين من الجنسين، أو التعامل السليم لزوجة مع زوجها مدمن المخدرات، أو تحقيق الصحة النفسية لأفراد الأسرة، وغيرها من الأمور التي قد تبدو للوهلة الأولى سهلة المنال بينما هي في حقيقة الأمر تتطلب (متخصصاً اجتماعياً)، تماماً كما هو الحال في عدد من الدول الغنية حيث وجود هذا المتخصص في المدارس؛ إذ وُجِد أن مساعدة الطلاب على حل مشاكلهم لا تتأتى لكل أحد، وكما هو الحال أيضاً في بعض الجهات القضائية حيث يلجأ القاضي إلى الاستعانة بمتخصص اجتماعي من أجل أن يساعده في اتخاذ الحُكْم، كما في مسألة من الأحق بحضـانة الطفل؟ فمعرفة من الأصلح من الأبوين لحضانة الطفل أو حتى رعايته[4] لا تتأتى هي الأخـرى لكل أحـد ولـو كان قاضياً، وهـذا المجال - أعني الإرشاد النفسي والاجتماعي - من أهم المجالات التي كثيراً ما يخوض فيها الدعاة بسبب أن عموم الناس يثقون فيهم وفي نصحهم، وهذه منقبة لهم؛ لكن هذا لا يعني الخوض في أمر دون بصيرة وعلم وإلا كان الداعية أقرب للإثم منه للأجر لأنه يتكلم فيما لا يحسنه. قال ابن حجر العسقلاني منتقداً أحد شيوخه الذين تكلموا في دقائق علم الحديث ولم يكن أهلاً للحديث فيها: «إذا تكلم المرء في غير فنه أتى بهذه العجائب»[5]. ومع ذلك فيمكن للداعية أن يخوض في هذا المجال بعد أن يدرس ويحصل على شهادة معتمدة في هذه العلوم أو يأخذ دورات من جهات موثوقة (والدورات هي الحد الأدنى المطلوب)، وبهذا سيحقق الداعية فائدتين:

الأولى: إفادة مستمعيه أو مشاهديه أو قرائه في الجزئية التي ذُكِرت عرَضاً أثناء موضوعه الأساسي.

والثانية: تنبيه المسلمين على ما في بعض هذه العلوم والنظريات الإنسانية والتربوية من مخالفات لثوابت الدين ومبـادئ الإسلام لأن هذه العلوم - كما هو معروف - تخضع لأكثر من تفسير وتتبع أكثر من مدرسة، وكل هذه التفاسير والمدارس لها توجه يختلف باختلاف توجه صاحب هذا التفسير وتلك المدرسة، ومن هنا تأتي خطورة هذه العلوم.

الثالث: علوم السياسة 

لعل السياسة أخذت حيزاً كبيراً من أحاديث عدد من الدعاة لا سيما في الآونة الأخيرة، والذي جعل ذلك الحيز كبيراً ثلاثة عوامل:

الأول: شـغف عموم الناس بالحديث عن السياسة لا سيما في العالم العربي، من باب (كل ممنوع مرغوب).

الثاني: ارتباط عدد من مآسي المسلمين والعرب بالقرار السياسي كقضية فلسطين ومشكلة مسلمي الروهينجا.

الثالث: التعريف الوضعـي لمصطلح (السياسة) يقترب من التعريف الشرعي؛ إذ كلاهما يركز على نظام الدولة وأنظمة الحكم فيها مرورواً بالعلاقات الخارجية وكل ما فيه مصلحة الرعية أو الشعب[6].

قد ينسى الداعية نفسه فيتحدث في أمور سياسية بنيَّة حسنة ويغفل أن السياسة في الوقت الحاضر أصبحت هي الأخرى علماً لا يختلف كثيراً عن سائر العلوم والفنون؛ فهو ينتمي إلى العلوم الإنسانية كالإرشاد النفسي المشار إليه أعلاه. هذا يعني أن الكلام في السياسة يحتاج علماً وفهماً. إن من يظن أن مجرد الحديث عن أخطاء الأنظمة السياسية أو زلات الزعماء يعد فهماً للسياسة فهو مخطئ ليس في السياسة فقط بل في الشرع أيضاً لأن الشرع جاء بالنهي عن القيل والقال وعن ذكر مثالب الناس ومعايبهم، اللهم إلا أن يكون ثَمَّ غرض شرعي صحيح[7]. إن خوض عامة الناس في أمور سياسية لا تعطي الداعية الحق في أن يتحدث هو الآخر مسايرة لهم؛ خصوصاً إذا كان ينطلق في حديثه من منبر دعوي وليس منبر شخصي، لأن الحديث حينئذٍ يصبح يمثل الدعوة والدين لا شخصه فقط. لذا صار لزاماً عليه أن يتـريث فيما يقوله في أمور محيطة بالناس، ويتأمل عاقبة كلامه حيث سيتناقله الجميع دون استثناء، ومنهم من قد يسعى لتوظيف كلام الداعية توظيفاً سيئاً.

طبعاً العالم الذي يُسأل في نازلة من النوازل، فهذا واجب عليه أن يبين الحق طالما أن لديه الدليل، وإلا «اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلُّوا وأضلُّوا»[8]. ولكن المتامل في الواقع يرى أن كثيراً من الأمـور التي لهـا علاقـة بالقضـايا السـياسية قد لا يكون الحق فيها واضحاً كوضوحه في غيرها، بدليل أن أهل الصنعة أنفسهم قد يتخبطون في تحليلاتهم وتوقعاتهم المستقبلية؛ فكيف بغير المتخصص الذي قد لا يفقه أبجديات علم السياسة في وقت ينتشر كلامه في أصقاع المعمورة ويسمعه جميع الناس ومنهم أهل الاختصاص؟! وهنا يأتي دور المجامع الفقهية والروبط الشرعية؛ إذ إن نسبة الخطأ في الفتوى الجماعية أقل من نظيرتها في الفتوى الفردية، ويمكن للداعية أن يحيل على فتوى مثل هذه المجامع أو الروابط طالما أنها موثوقة لأن هذه الجهات تستعين في الغالب بالمتخصصين سواء في مسائل الاقتصاد أم الطب أم السياسة؛ وذلك انطلاقاً من قول الله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إن كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء: ٧]؛ إذ من الصعوبة بمكان إيقاع حكم شرعي في حدث سياسي دون فهم ملابسات الحدث ومعرفة الأدلة السمعية والعقلية المتعلقة به. ومِثْلُ الداعية الذي يتحدث في أمور سياسية دون بصيرة، ذلك الذي يمتلك نوعَ وعيٍ سياسي ولكنه ينتقي مواضيع محددة للحديث عنها ثم يعزف عما هو أهم منها! وأربأ بداعية إلى الله أن يخوض في شأن سياسي مدركاً أبعاده - كما يزعم - ثم لا يلبث أن يعزف عن الحـديث في شأن أكثر أهمية بحجة أن السلامة لا يعدلها شيء {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [البقرة: 58]. فالداعية النصوح ينبغي عليه أولاً أن يعرف الحق ثم يدور معه حيث دار[9].

و أخيراً  

فإن ما سبق من ملاحظات لا تقلل من جهود الدعاة إلى الله بل تصحح المسار في جزئية قد يغفلون عنها، فإن لم يجد الداعية نفسه قادراً على فهم تلك العلوم فلا ضير في ذلك، وحسبه أن يقول: الله أعلم. وإن كانت الأخرى فهذا دليل على سعة اطلاعه واستيعابه ألواناً من الفنون كما كان أسلافه كابن القيم وأبي نعيم وابن حزم الذين ألَّفوا في الطب، وابن قتيبة والخطيب البغدادي اللذَين ألَّفا في علم الفلك؛ فسعة الأفق لدى هؤلاء وأمثالهم واضحة حيث تمكن الواحد منهم من فهم فنون متعددة فهماً مكَّنه من وضع كتاب أو أكثر. في هذا الباب[10].  

إن التزام الداعية بما أسلفناه فضلاً عن أنه يقربه إلى الله تعالى؛ فإنه يزيد من رصيد الثقة بينه وبين المدعـوين بشتى أصنافهم وطبقاتهم لأنهم مع مرور الوقت سيعرفون حق المعرفة أن هذا الداعية لا يتحدث إلا عن علم وبصيرة.


 


[1] المواقع الإسلامية على الإنترنت: ما لها وما عليها، المؤتمر الوطني الـ (17) للحاسب الآلي، المديننة المنورة، أبريل 2004م. متاح على هذا الرابط:

https://cutt.us/VLkyU

[2] الداعية في هذا المقال يشمل كل معلم للخير الوارد في حديث أبي امامة الباهلي عند الترمذي وصححه الألباني: «إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرضين حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت ليصلون على معلم الناس الخير».

[3] قال رحمه الله كما في السير للذهبي: «لا أعلم علماً بعد الحلال والحرام أنبل من الطب إلا أن أهل الكتاب قد غلبونا عليهِ».

[4] يفرق بعض المتخصصين بين الحضانة والرعاية؛ فالأولى تبدأ من الولادة إلى سن التمييز، والثانية تبدأ من سن التمييز إلى البلوغ.

[5] فتح الباري، الجزء الثالث.

[6] الأحكام الشرعية للنوازل السياسية، عطية عدلان، ص18.

[7] انظر رياض الصالحين للنووي، باب ما يباح من الغيبة.

[8] صحيح مسلم، جزء من حديث عبد الله بن عمرو.

[9] انظر تقسيم ابن عثيمين للعلماء إلى ثلاثة أقسام: عالم دولة، وعالم أمة، وعالم ملة. شرح رياض الصالحين (حديث 798).

[10] كُتُب كلٍّ من ابن القيم وأبي نعيم الأصفهاني في الطب مطبوعة وكذلك كتاب الخطيب في علم النجوم وابن قتيبة في الأنواء، أما كتب ابن حزم في الطب فهي في عداد المفقود، منها رسالة في الطب وشرح فصول بقراط وحدُّ الطب واختصار كلام جالينوس في الأمراض الحادة وغيرها، انظر ترجمته في السير للذهبي.

 


أعلى