تبرز في الساحة الإسلامية
والعربية دعوات قومية تنهض على أسس التعدد الثقافي والخصوصية الاجتماعية والفروق
اللغوية. والتعبير عن هذه المطالب في كثير من الحالات يأخذ صوراً مختلفةً؛ فثمة
فريق يناضل من داخل الدولة القُطْرية باهتمام حقيقي وملموس بالمسألة مع الإقرار
بضرورة الحفاظ على الوحدة الوطنية والترابية، وفريق آخر يرى أن السبيل لإثبات
الهوية القومية بأبعادها المختلفة لا يتحقق إلا في إطار نوع من الحكم والتسيير
الذاتيين، وهناك من يتطلع إلى أبعد من ذلك؛ حيث يرنو إلى إنجاز انفصال تام عن
الوطن الأم والدولة المركزية؛ بوصف هذا الأمر الوضعَ الجدير بصيانة الحقوق الكاملة
للأقليات القومية. وهذه المقالة لا تروم الموازنة بين هذه المشاريع السياسية،
وبيان أيِّها أصلح للتطبيق في الوطن العربي والإسلامي؛ وإنما الغرض بحث القضية
القومية وما شاكلها، وما يتصل بها من دعوة للاتحاد أو الانفصال، انطلاقاً من رؤية
شرعية بحتة، بغضِّ النظر عن اتفاق أو اختلاف خلاصات ونتائج هذه الدراسة مع رؤى
سياسية قائمة في هذا الشأن.
وقبل الخوض في صلب
الموضوع، يحسُن بنا أن نعرِّف ابتداءً دلالة كلمة (القومية). لقد ورد في اللسان
العربي أن قَوْمَ كلِّ رجلٍ، يعني: شيعته وعشيرته. والقـوم لفظ يذكَّر ويؤنَّث كما
في قوله - تعالى -: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْـمُرْسَلِينَ}
[الشعراء: 105][1].
والقوم الجماعة من الناس
تجمعهم جامعة يقومون لها[2].وفي القرآن الكريم
يطلق لفظ القوم فيراد به جماعة محددة من الرجال والنساء[3]. قال - تعالى -: {إلاَّ الَّذِينَ
يَصِلُونَ إلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ}
[النساء: 90]، وقال أيضاً: {وَإذْ قَالَ مُوسَى
لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ}
[المائدة: 20]، وقال - جل شأنه -: {قَالُوا يَا مُوسَى
إنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ} [المائدة: ٢٢].
يستفاد من هذه النصوص أن
القومية في جوهرها: صلة اجتماعية عاطفية تنشأ من الاشتراك في الوطن والجنس واللغة
والمنافع، وقد تنتهي بالتضامن والتعاون إلى الوحدة[4].
وحقيقة القومية وما يندرج
تحت معناها قائمةٌ في القرآن الكريم؛ حيث وردت آيات تترى تبيِّن وجود تنوع عرقي
وقَبَلي ولُغَوي، وجعل ذلك سبباً لتحقيق التواصل والتعارف الإنْسَانِيَيْن؛ وأنه
لا ينبغي أن يكون هذا الاختلاف الطبيعي الضروري من دواعي الصراع والتضاد، وفي هذا
يقول الله - تعالى -: {وَمِنْ آيَاتِهِ
خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إنَّ
فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْعَالِـمِينَ} [الروم: ٢٢]، وقوله -
سبحانه وتعالى -: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّا
خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ
لِتَعَارَفُوا إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ
خَبِيرٌ} [الحجرات: 13].
فهذان النصان وغيرهما
كثير، يقرران بجلاء سُنَّة اجتماعية سارية ومطَّردة في البشر، مفادها: أن الأصل في
الأمم والجماعات والأفراد التنوُّع والتعدد والاختلاف، وأن العلة في خلق الناس على
هذا النحو، هي تحقيق التعارف بينهم، الذي يُعَدُّ مدخلاً لحصول التكامل والتضامن
والائتلاف البشري. وبهذا المعنى لا يوجد في نظر الشرع جنس راقٍ ابتداءً (أي
خَلْقاً وإنشاءً)، وآخر وضيع (طبعاً وسجيةً)، فالجميع عند الله سواء، ولا تفاضل
بين الأجناس والقوميات إلا بما يقدمه كل فصيل من عمل صالح وجهد نافع لذاته ولغيره {إنَّ
أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ} [الحجرات: 13].
وإذا كان هذا التواصل
والتلاقح والتثاقف مطلوباً بين الناس أجمعين، فإنه بين أهل الإسلام يكون آكد
وواجباً ولازماً، ويتخذ صوراً أرقى بكثير من مجرد التعارف: كالتوحُّد، والتحاب،
والتساند، والتعاضد، والتآزر؛ وذلك في سائر الأحوال، في السراء والضراء؛ لأن آصرة
العقيدة والملة التي تؤلِّف بينهم، والتي تعد أوثق الراوبط وأعلاها شأناً، هي التي
تفرض عليهم الشعور بمعاني الوحدة والعمل بمقتضاها في الواقع العملي. ومصداق هذا
نجده في القرآن ذاته؛ حيث يقول - تعالى -: {وَاعْتَصِمُوا
بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ
عَلَيْكُمْ إذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم
بِنِعْمَتِهِ إخْوَاناً} [آل عمران: 103]، وقوله
- تعالى -: {إنَّمَا الْـمُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ
فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 10]، ويَحْسُن
بنا هنا تحليل هاتين الآيتين؛ لأنهما تنطويان على قيم ومعانٍ رفيعة: فالأُولَى
أشارت إلى حقيقة تاريخية كانت قائمة بين أهل يثرب (الأوس والخزرج) قبل مجيء الإسلام؛
وهي حالة الشقاق والصراع والعداوة السارية بينهم منذ زمن سحيق، ولكن لمَّا استقر
الإيمان في قلوبهم، أضحت تلك العداوةُ محبةً خالصة وأُلفةً صادقة وأخوَّةً حقيقية،
وهذه هي النعمة التي يذكِّرهم الله - تعالى - بها حتى يظلوا أوفياء لها مدى
الحياة. أما الآية الثانية فدلَّت بأسلوب الحصر الذي يفيد عند أهل البلاغة التأكيد
والتقرير، على أن المؤمنين إخوة في جميع الحالات، وهذا هو الأصل الذي لا ينبغي
المحيد عنه. وحين قال - عز وجل -: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَ
أَخَوَيْكُمْ}، فإنه يشير إلى احتمال نشوب خلاف وصراع
وحرب بين المؤمنين، وهذا يقتضي - عند حصوله - المبادرة إلى الإصلاح والتوفيق
بينهم، لحفظ الوحدة وصيانة الائتلاف ودفع ما يفضي إلى تقويضهما.
ومن الأمور التي عالجها
الشرع الحكيم: مسألة (العصبية)؛ فالقرآن الكريم الذي هو رحمة وهداية للعالمين، نزل
في أول الأمر إلى العرب وبلسانهم، ومعلوم أن العرب على اختلاف قبائلهم تعدُّ
العصبية إحدى مقومات شخصيتهم؛ فهي تجري منهم مجرى الدم، ومن العسير نزعها؛ لذا سعى
الإسلام إلى تهذيب هذا النزوع المتأصل فيهم، ووظفه ليصير عنصراً من عناصر تقوية
الوحدة بين المسلمين، فأقر بالاعتزاز للانتماء القومي أو القبلي أو اللغوي؛ لكن
دون استعلاء أو فخر أو كبر يصل إلى حد التعصب للذات وتمجيدها ونفي الآخر وتحقيره،
فهذا أمر رفضته الشريعة وكانت واضحة في تحريمه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«إن الله أوحى إليَّ أن تواضعوا حتى لا يبغي أحد على أحد ولا يفخر أحد على أحد»[5]. وقال أيضاً: «ليس منَّا من دعا إلى عصبية، وليس منَّا من قاتل
على عصبية، وليس منَّا من مات على عصبية»[6]. لا شك أن العصبية
أمر طبيعي وإيجابي وعنصر قوة كما أشار إلى ذلك العلاَّمة ابن خلدون[7]؛ لكن العصبية الممقوتة في الإسلام، وهي تلك التي تفرِّق ولا توحد،
وتمزق ولا تؤلِّف، وتهدم ولا تبني، وتضعِف ولا تقوِّي، وتبعِد ولا تقرِّب.
تأسيساً على ما سبق يمكن
القول: إن القومية بوصفها رابطة نفسية واجتماعية وثقافية وجغرافية: شعور أصيل في
الإنسان، والإسلام باعتباره رسالة عالمية لا تختص بقوم دون قوم أو بجنس دون جنس أو
بفئة دون فئة، عمل لأجل تحقيق توازن مضبوط بين انجذاب المسلم لشعوره القومي العميق
في كينونته، وبين الوفاء لمستلزمات انتمائه الإسلامي الأرحب، وهذا التوازن الفريد
تجلَّى في كون كثير ممن خدم الإسلام وأسهم في تنمية العلوم والثقافة والحضارة
الإسلامية بوجه عام هم من غير العرب، مثل: الإمام البخاري الذي برع في الحديث،
وسيبويه الذي برز في اللغة، وصلاح الدين الأيوبي الذي قاد تحرير القدس، وغيرهم
كثير لا يتسع المجال لذكرهم كلهم. وفي التاريخ المعاصر، اتخذت قضية القومية ابتداء
من منتصف القرن التاسع عشر صورتين اثنتين. فمن جهة كانت القومية (قوة تجمع)، ومن
جهة أخرى كانت (قوة تفتيت): لقد حملت قوة التجمع الشعوب التي تنتمي إلى قومية
واحدة وتعيش في دول مختلفة، إلى الاتحاد في دولة واحدة. وأما قوة التفتيت، فقد
دفعت الشعوب الخاضعة لسيطرة دول أجنبية عنها إلى التحرر من نير هذه السيطرة وإقامة
الدولة القومية، أو حال بلد احتله الأجانب فتقاسموه واختص كلُّ واحد منهم بجزء منه[8].
ويعلم المؤرخون قبل
غيرهم أن الذي أسهم في تعجيل سقوط الإمبراطورية العثمانية، هو الانفصال الذي قام
به الشريف حسين باسم القومية العربية بدعم من بريطانيا وفرنسا؛ بغية بناء خلافة
عربية خالصة موحدة، لكن لا شيء من ذلك تحقق؛ لأن الأمر سار في واقع الحال كما خطط
له أصحاب اتفاقية (سايكس - بيكو) فآل المشروع إلى دول عربية عديدة، أورثها
الاستعمار صراعات مزمنة شغلتها عن تحقيق وحدتها، ففرقت بينها، ورسَّخت فيها
التجزئة والتشظي، ولا يزال بعضها مهدَّداً بالتفتيت والانقسام باسم الخصوصية
الثقافية والقومية والطائفية وهلم جرّاً؛ مثل ما يجري في العراق وإقليم كردستان،
واليمن والحَراك الجنوبي، وتركيا والأكراد، والسودان ودارفور والجنوب، والمغرب
ونزاع الصحراء المفتعل، والجزائر والقبائل... إلخ. لقد علَّمنا التاريخ أنه كم من
مشكل بسيط في منطقتنا العربية والإسلامية صار معضلة كبيرة؛ خاصة عندما يوظفه
الأجنبي لمصالحه ويذكي النعرات والعصبيات، ويعين طرفاً ضد طرف آخر من أجل الإضعاف
والتفتيت، وهكذا إعمالاً لمقولة (فرِّق تسد).
إن المدخل الصحيح لتطويق
هذه الظاهرة في ساحتنا الإسلامية، يكمن في تفعيل التوجيهات الشرعية التي تحث وتؤكد
بصورة حتمية على الحفاظ على اللُّحمة ولزوم الوحدة والائتلاف بين عموم الأمة
الإسلامية وشعوبها المختلفة، ولا يعني الحرص على هذه الوحدة المذكورة إلغاءَ
الهوية الذاتية للقوميات القائمة في المجتمعات المسلمة، بل من صميم الاتحاد
والالتحام مراعاةُ هذا الاختلاف والتنوع والتعدد. والناظر في نصوص القرآن الكريم
والسُّنة النبوية يلفي هذه الحقيقة، حتى في الفقه الإسلامي نجد أن الفتوى تتغير
بحسب تغير الزمان والمكان والعرف. والعرف عند الفقهاء ما تعارف عليه الناس، وهو
عندهم شريعة مُحَكَّمَة. وكثير من الأحكام الشرعية في الفروع بُنِيَت على المعطى
الثقافي والاجتماعي المتنوع؛ فالحكم الذي يصلح لهذا المجتمع قد يجد فيه مجتمع آخر
عنتاً وحرجاً؛ إذن التعدد الثقافي واللغوي والاجتماعي والقومي لا يتعارض مع مقاصد
الشريعة، ولم يكن قط مشكلة، ولم يكن الإسلام في لحظة مَّا ليلغي هذا التنوع؛ لأنه
أول من نبَّه إلى وجوده، وأول من أرشد إلى استثماره في بناء الأمة المتنوعة
الموحدة. قال - تعالى -: {وَإنَّ هَذِهِ
أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ}
[المؤمنون: 52].
والذي يدعو بوعي أو بغير
وعي إلى تميُّزٍ وتفرُّدٍ قوميٍّ بعيداً عن هذه الصورة التي يقدمها الدين
الإسلامي، فهو لا محالة يتناقض مع توجيهاته وأحكامه ومراميه. صحيح أن ثمة قوميات
داخل الأوطان العربية والإسلامية بُخِس حقها ولحقها ظلم كبير، ولم يُلتفَت إلى
حاجاتها المادية والمعنوية، لكن هذا الوضع لا ينبغي أن يكون مدعاة للمطالبة
بالانفصال عن هذه البلدان، ولا يصح تصحيح الخطأ وبخطأ آخر؛ لأن التشظي والانشطار
والانقسام لم يفد الأمة في شيء، بل زاد من إضعافها. وفي هذا السياق يمكن أن نفهم
فتوى الشيخ يوسف القرضاوي التي حرَّمت على المسلمين في جنوب السودان التصويت
لفائدة الانفصال؛ لأن ذلك إسهام في تفتيت دولة عربية مسلمة وتمزيق لوحدتها، وهذا -
كما لا يخفى - أمر يتعارض مع قيم الوحدة والتساند والالتحام التي يوصي بها
الإسلام.
[1] انظر هذا
المعنى في لسان العرب: 11/ 361.
[2]
انظر المعجم الوسيط، ص: 768.
[3]
انظر مفردات الراغب الأصفهاني، ص418.
[4]
المعجم الوسيط، ص: 768.
[5] أخرجه مسلم.
[6]
رواه أبو داود في سننه.
[7]
انظر المقدمة، ص 160.
[8]
انظر نور الدين حاطوم: تاريخ الحركات القومية: 1/ 12.