عكس السير... إلى أين يمضي السودان؟
سقط البشير، لكن لم يسقط الفساد الذي خرج الناس لإسقاطه، خُلع البشير لكن طوابير الشعب أضحت تزداد امتداداً في الشوارع أمام المخابز للحصول على رغيف خبز يسد جوع أطفالهم، سجن البشير وما زال أصحاب السيارات محصورين في سياراتهم لا يجدون ما يسيِّرها وقد اختفى الوقود من الأسواق أو يكاد.
خرجت المظاهرات والاحتجاجات ضد نظام البشير والسبب: ارتفاع الأسعار وندرة السلع وغلاء المعيشة وتردِّي الأوضاع الاقتصادية. وانخفاض قيمة العملة السودانية، وتفشي الفساد الحكومي، واستمرت حتى أعلن الجيش خلع الرئيس عمر البشير عن السلطة وبدء مرحلة انتقالية جديدة.
يوم خرج الشعب السوداني في حشوده المطالبة بإسقاط النظام كان ملؤه التفاؤل والطموح في تغير أوضاعه إلى الأفضل، وأن ينعم المواطن السوداني بعيش كريم، ويخرج من دائرة الأزمات الاقتصادية التي أثقلت كاهله، استبشر الناس بحكومة جديدة ربما تغيِّـر من الأوضاع السيئة التي كان يعيشها.
وسقط عبد الله حمدوك وحكومته فجأة على عرش السلطة والحكم في السودان، فريق مكون من 19 وزيراً لإدارة مرحلة انتقالية تنتشل البلاد مما يحيط بها من أزماتها الاقتصادية ويهيئها لمرحلة جديدة من الحرية والعدالة. هكذا ظن الناس وحسبوا أن الاختيار هذه المرة كان لهم.
وبعد أشهر من تولي تلك الحكـومة لمسؤولياتها في السودان، والحقيقة هي فترة لا تصلح لتقويم عمل حكومة جديدة بشكل علمي ومحايد، لكنها كافية لإعطاء مؤشرات عن طبيعة عملها وكيف تدار الأمور بها وما هي الأولويات لديها؟
الحقيقة الأولى التي يجب الوقوف عندها أن تلك الحكومة هي حكومة فترة انتقالية ليست منتخبة بصورة مباشرة من الشعب السوداني ومن ثَمَّ ليس لديها كامل التفويض في التصرف كما يحلو لها في كامل الملفات التي تخص الشأن السوداني؛ فمهمتها الأولى هي تهيئة الأجواء لانتخابات حرة يختار الشعب السوداني فيها من يمثله ويرى فيه القدرة على تحقيق أماله وتطلعاته.
لكن الواضح أن تلك الحكومة جاءت بشكل مباشر لإجراء تغيير شامل في هوية الشعب السوداني وثوابته وقيمه المجتمعية.
وَفْقَ ما أعلنته الحكومة السودانية عقب أول اجتماعاتها في العاشر من سبتمبر العام الماضي فإن أولويات برنامج 200 يوم الأولى جاءت متمثلة في وقف الحرب، وبناء السلام، وحلِّ الأزمة الاقتصادية، وتنفيذ برامج الرعاية الاجتماعية، واستقلالية القضاء، وتشكيل لجنة مستقلة حول فض اعتصام محيط القيادة، وتعزيز دور المرأة والشباب، ومحاربة الفساد، وهيكلة الدولة، وبناء علاقات خارجية متوازنة...
وبعد مضي تلك الفترة لنا أن نسأل ما الذي قدمته تلك الحكومة للسودان، وهل نجحت في تحقيق أهدافها التي أعلنتها للشعب السوداني؟
في الوقت الذي خرج فيه الشعب السوداني اعتراضاً على سوء الأحوال المعيشية وتدهور أسعار العملة المحلية مقابل الدولار فإن جنيه حمدوك أصبح يعادل الآن نصف جنيه البشير؛ فسعر الدولار في أوائل شهر مارس من العام الجاري 2020م وقت كتابة المقال أصبح يعادل 110 جنيهات، وهو ما يعني ارتفاع معدل التضخم بنسبة مئة بالمئة، وإن كنا نعد هذا فشلاً في هذا الملف، فإن حكومة حمدوك حققت أيضاً نجاحات عظمية؛ فالمرأة السودانية الآن تستطيع أن تلبس الشورت (السروال القصير) تماماً كما يلبسه لاعبو كرة القدم الرجالية، وتستطيع أن تستعرض مهارتها الكـروية أمام الرجال والنساء في الملاعب؛ وهذا ما لم تكن تستطيعه أبداً في عهد نظام البشير الجائر، وكأن ما كان يحزن الشعب السوداني ودفعه للخروج في المظاهرات الحاشدة أن نساءه لا يستطعن تعرية أفخاذهن أمام الرجال في المباريات. لكن حكومة حمدوك ترى هذا فخراً ويوماً تاريخياً يُحْسَب لها، فقد صرحت وزيرة الشباب والرياضة (ولاء عصام) التي حضرت أولى مباريات كرة القدم النسائية في السودان قائلة: «هذا يوم تاريخي ليس للرياضة فحسب ولكن للسودان كله».
وفي حين خرج الناس ضجرين من غياب رغيف الخبز، وشح الوقود لإسقاط نظام البشير فإن تحسناً ملحوظاً استطاعت حكومة حمدوك أن تحققه في هذا الملف؛ إذ صارت طوابير الشعب السوداني أمام المخابز تزداد طولاً وعرضاً في الشوارع.
ورغم غياب الوقود وارتفاع أسعاره في الأسواق واصطفاف السيارات أمام محطات الوقود فرادى وجماعات. فإن هذا لا يجعلنا نغض الطرف عن إنجازات وزارات أخرى مثل وزارة الشؤون الدينية والأوقاف؛ إذ قدم نصر الدين مفرح دعوة ليهود بلاده في الخارج للعودة إليها. في حوار له نشرته صحيفة (الشرق الأوسط) السعودية، أكد خلاله أنه وجَّه دعوات إلى اليهود السودانيين، الذين أجبروا على ترك بلادهم، للعودة إليها، والمشاركة في إعمارها. وقال إن اليهود السودانيين، كانوا موجودين بين عامي 1880 و 1969م، وواجهوا ضغوطاً كبيرة خاصة في عهد الرئيس الأسبق جعفر نميري 1969 - 1985م، أدت إلى هجرتهم من السودان. وأضاف: «قدمت الدعوة لكل السودانيين في الخارج بمن فيهم اليهود الذين يحملون جنسية هذه البلاد بأن يعـودوا للعيش في السودان مثلهم مثل أي مواطن يحمل جنسية هذه الدولة». وشدد على أن دعوته «جاءت في إطار التعايش السلمي والديني»[1].
وحقيقةً هذا نجاح يُحْسَب لحكومة حمدوك التي جاءت لتحقيق مطالب الشعب السوداني الذي كان يبيت أهلـه كل يوم يبكون حرقة على اليهود الذين خرجوا، ويتمنون أن يأتي اليوم الذي يسقط نظام البشير الظالم حتى يستطيع اليهود السودانيون أن يعودوا للعيش بينهم. وهذا يؤشر إلى أي مدى شعرت حكومة حمدوك بالأسى إذ لم يخبرهم رئيس المجلس السيادي عبد الفتاح البرهان بمقابلته لرئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو إذ كانت الحكومة السودانية أحقُّ بتلك الخطوة وأهلٌ لها.
هذا النشاط الذي قام به وزير الشؤون الدينية لا يضاهيه إلا نشاط مدير المركز القومي للمنـاهج والبحوث التربوي، في حكـومة حمدوك عمر أحمد القراي الذي قال: «إن المنهج الحالي الذي يدرس للطلبة، مسيَّس، ويخدم أغراض النظام البائد». وقال بشكل واضح «إن إشكالية المنهج أن به واجبات كثيرة للحفظ، وبه كثافة شديدة للقرآن الكريم والحديث على حساب مواد ثانية كالرياضيات والعلوم».
والحقيقة أن نجاحات حكومة حمدوك يضيق هذا المقال عن حصرها؛ فقد ألغى قانون النظام العام وتعهد للولايات المتحـدة بدفع تعويضات لعائلات المدمرة «يو إس إس كول»، التي استهدفت بميناء عدن اليمني عام2000م، سعياً لإزالة اسم السودان من القائمة الأمريكية للدول الراعية للإرهاب، وهذا ما لم يحدث حتى الآن. والتوقيع على اتفاقية السيداو بكل بنودها المتصادمة مع تقاليد ودين وأخلاق الشعب السوداني العريق.
والحقيقة أن مشكلة الشعب السوداني كانت في كلمة (بس) التي ارتضاها شعاراً لثورته، حين رأت الجماهير الغاضبة أن (تسقط بس) أي (تسقط فقط)، كفاية لتخليصهم من الفساد وسوء الأوضاع المعيشية وتدهور أحوال البلاد في كافة المجالات، لكن الحقيقة أن أزمات السودان تتفاقم ومعاناة الشعب السوداني تتعاظم وكأن السودان امرأة فقيرة خرجت لتطالب بحقوقها فجاءها من خدعها فكشف سترها أمام الناس، فلا هو سد حاجاتها من الفقر ولا أبقى لها حياءها وتستُّرها.
هذه في نهاية هي حقيقة حكومة حمدوك التي تسير عكس السير وتحطم تحت حذائها كل قيم وتقاليد وأعراف شعب السودان. وهذا ما يجب على الشعب السوداني أن يعيه ويدركه ليستكمل مسيرة كرامته وحريته، لكن من دون (بس) هذه المرة،
[1] https://cutt.us/R3szY