يتكون المجتمع المسلم كما تتكون سائر المجتمعات
البشرية من أفرادٍ : هم فلانٌ وفلانٌ وفلان .
لكن الله - تعالى - يريد لهؤلاء الأفراد أن يأتلفوا
؛ لتتكون منهم جماعة ، وأن يكونوا « أمة من دون الأمم » ؛ ولهذا فإنه - سبحانه - كما
شرع لهم شرائع يعملون بها باعتبارهم أفراداً ، شرع لهم شرائع تجعل منهم جماعة ويعملون
بها باعتبارهم أمة متميزة .
من الشرائع الفردية ما يلتزم به الإنسان حتى
لو وجد نفسه وحيداً في جزيرة نائية ؛ فهو يظل يؤمن بالله - تعالى - وملائكته وكتبه
ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره ، ويعمل بما استطاع من أركان الإسلام ؛ فيشهد
أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، ويقيم الصلاة ، ويصوم رمضان ، بَيْدَ أنه
لا يستطيع أن يؤتي زكاةً ولا أن يحج .
لكنَّ المسلم إذا وجد نفسه في جماعةٍ ازدادت
واجباته الفردية ؛ فهو يزكِّي مالَه ، ويحج البيتَ إن استطاع إليه سبيلاً ، وهو يأمر
بالمعروف وينهى عن المنكر ويفعل كلَّ ما شرع الله له بقدر استطاعته ؛ فالله - تعالى
- شرع للمسلمين شرائع جماعية يعملون بها كما يعملون بتلك الشرائع الفردية بقدر استطاعتهم
.
وإن كثيراً من المتدينين في عصرنا - ولا سيما
من تأثَّر منهم بالثقافة الغربية - صاروا يحصرون الدين في الشرائع الفردية ، ولا يهتمون
كثيراً بالشرائع الجماعية ؛ فترى الواحد منهم حريصاً على أداء الصلاة وحج بيت الله
، بل تراه يسأل - مثلاً - عن تفاصيل نوافل الحج والعمرة ومكروهاتها ، ثم تراه بعد ذلك
غافلاً كل الغفلة عن كثير من الشرائع التي لا يكون المسلمون جماعة مسلمة إلا بها ؛
فتراه غير مهتم بمدى إسلامية الحكم الذي تُحكَم به بلاده ، ولا بمدى إسلامية الجماعة
أو الحزب الذي ينتمي إليه ، وترى كثيراً ممن يسكن منهم في ديار الغرب الديمقراطية فرحاً
بجعلها له مواطناً كسائر المواطنين ؛ يمكن أن ينافس فيها حتى على رئاسة الدولة ، غافلاً
عن أنه لا يكون رئيساً إلا باعتباره مسلماً يحصر دينه في حياته الخاصة .
وأما الشرائع الجماعية فإنه لا يستطيع الالتزام
بها ؛ لأنها تتعارض مع دساتير الدولة العَلمانية وقوانينها وأعرافها وقيمها .
إن الواجب على المسلمين أن يكونوا جماعة وهم
لا يكونون جماعة مسلمة إلا إذا عملوا بتلك الشرائع الجماعية .
وأول ما يجب على المسلمين ليكونوا جماعة مسلمة
أن يكون لهم رأس يبايعونه على كتاب الله وسُنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - .
وقد عرف الصحابة الكرام خطورة هذا الأمر فاجتمعوا
لاختيار خليفة يكون لهم رأساً ينتظم به أمرُهم حتى قبل أن يدفنوا رسولهم - صلى الله
عليه وسلم - ؛ لقد عرفوا خطورة هذا الأمر بما علموا من أحاديث رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - التي منها حديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - قوله : « من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتةً جاهلية » [1] .
والمقصود بالميتة الجاهلية أنها كميتة الجاهليين
؛ ( فإنهم لم يكن لهم إمام يجمعهم ولا جماعة تعصمهم ؛ والله - تعالى - بعث محمداً
- صلى الله عليه وسلم - وهداهم به إلى الطاعة والجماعة ) [2] .
إذن فمن البدهي أنَّ رأس المسلمين يجب أن يكون
واحداً منهم ، وإذا حدث أن تأمَّر عليهم ثم طرأ عليه الكفر وكانوا قادرين على إزالته
بالقوة وجب عليهم أن يزيلوه ؛ فعن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال : « بايعنا
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشَط والمكرَه
، وعلى أثرة علينا ، وعلى أن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من
الله - تعالى - فيه برهان ، وعلى أن نقول بالحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم
» [3] .
فإذا لم يجز للمسلمين أن يستمروا تحت إمرة حاكم
كان في بداية أمره مسلماً ثم طرأ عليه الكفر بعد مبايعته ؛ فمن باب أَوْلَى أن لا يجوز
لهم أن يُحكِّموا فيهم من كان في أصله كافراً .
لكننا نسمع في أيامنا هذه من يقول ( باسم الإسلام
) : إن رأس الدولة المسلمة يمكن أن يكون شخصاً غير مسلم ؛ ولذلك فلا بأس من أن يترشح
للحصول على هذا المنصب .
إن من أغرب الحجج التي سمعتها لتسويغ هذه الدعوى
أن هذا في الحقيقة لن يكون .
لقد سمعت مثل هذا الكلام من سنين طويلة .
وكنت أقول لإخواننا في
الرد على مثل هذا التحايل : أإذا ظننت بإنسان ظناً حسناً وأنه لن يشرب الخمر مهما أُغرِي
بشربها ؛ فهل يجوز لك أن تقول : إنه يجوز له أن يشربها ؟ إنك تكون بهذا القول كافراً
؛ لأنك أبحت شيئاً حرَّمه الله ، سواء علمت أنه سيقع أو لم تعلم .
وكنت أقول لهم : لِمَ تظنون أن المسلمين لن ينتخبوا
شخصاً غير مسلم ؟ إنهم لا يفعلون ذلك لأنهم يعتقدون أنه أمر غير جائز ، بل ربما عرف
بعضهم أنه كفر ؛ فإذا ما قلنا لهم باسم الإسلام : إن هذا الأمر جائز فما الذي يمنعهم
من أن ينتخبوه ، ولا سيما إذا زين لهم أنه ستكون في انتخابه مصالحُ دنيوية كرضا الدول
الغربية عن بلدهم واستعدادها لمساعدتهم ؟
إذا قلتَ للذين يدَّعون مثل هذه الدعاوى : إن
رئيس جماعة سلفية يمكن أن يكون صوفياً مبتدعاً أو العكس ، أو أن داعية إلى الشيوعية
يمكن أن يكون رئيس حزب ديمقراطي سخروا من كلامك هذا وأنكروه ، لكنهم لا ينكرون أن يكون
رأس المسلمين غيرَ مسلم .
أتدرون لماذا ؟ لأنهم لا ينظرون إلى المسلمين
باعتبارهم جماعة ، بل يرونهم كوماً من الأفراد الذين لا رابطة تجمعهم إلا رابطة الوطن
التي تجمع بينهم وبين سائر المواطنين من أصحاب العقائد الأخرى .
لكنَّ هذا هو عين العَلمانية ؛ فالذي ينكر العَلمانية
، ثم يقول : إن رأس المسلمين يمكن أن يكون غير مسلم يناقض نفسه .
إن الذي ينساه كثير من الناس هو أن العَلمانية
لا تمنع مجالسها التشريعية من الأخذ ببعض التشريعات الدينية ، إنما تمنع أن تُسَنَّ
باعتبارها ديناً ؛ فحتى لو سنَّت الدولة قوانين ، مثل منع الربا أو شرائع الأحوال الشخصية
؛ فإن هذا وحده لا يخرجها عن عَلمانيتها ؛ كما أنه لا يجعلها دولة مسلمة ما دام هذا
الأخذ ليس مبنياً على مبدأ يُلْزِم الدولة بالإسلام ، وأن لا تخالف شيئاً من أحكامه
ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً .
ثم إذا جاز أن يكون رأس الدولة غير مسلم ، فمن
باب أَوْلَى أن يجوز انتخاب غير المسلمين للمجالس التشريعية .
لكن هذا سيؤكد كونَ الدولة دولة عَلمانية .
إنه لا يمكن أن تكون الدولة
إسلامية ويكون المشاركون في إصدار قوانينها غير مسلمين .
كيف يكون الأمر إذا كان في البلد مواطنون من
غير المسلمين ؟ إذا كان هؤلاء المواطنون أقليات ضئيلة موزعة في الوطن كله ، فإنهم يعامَلون
معامَلة الأقليات الإسلامية في البلاد الغربية العَلمانية ؛ أعني : أنهم لا يُكرَهون
على اعتناق الإسلام ، لكنهم يخضعون للقانون العام لا بصفته ديناً ، بل بصفته قانون
البلاد .
وأما إذا كان عددهم كبيراً وكانت لهم أرض خاصة
بهم ، وكانوا ينتمون إلى معتقدات مختلفة كما هو الحال في السودان ، فلا مانع من أن
يخيَّروا بين أن يكون لهم حكمٌ ذاتيٌّ في نطاق الدولة الواحدة وبين أن ينفصلوا ويكوِّنوا
دولتهم الخاصة بهم [4] ؛ فإن الأمر معهم يكون بالتشاور والتخيير .
فإذا أرادو الانفصال والعيش في بلدهم المستقل
فلهم ذلك ، وإن أرادوا أن يعيشوا مع المسلمين في وطن واحد ويكون لهم نوع من الحكم الذاتي
فلهم ذلك إذا رأى المسلمون أنه لا يتضارب مع مصالحهم الدينية والدنيوية .
(1) رواه مسلم .
(2) ابن تيمية : منهاج السُّنة النبوية .
(3) رواه البخاري ومسلم .
(4) من الأخطاء التي شاعت في وسائل الإعلام
(الإسلامي منها وغير الإسلامي) : أن غالبية المواطنين في جنوب السودان هم من النصارى
، لكن الحقيقة أن غالبيتهم تنتمي إلى أديان محلية ، وأن نسبة النصارى فيهم لا تزيد
على نسبة المسلمين .