اللغة التي يستخدمها الإنسان في تواصله مع الناس
من حوله هي علامة عقله وصلاح قلبه ؛ فبقدر سموِّ لغته وطُهرِها وترفُّعها عن الفحش
والبذاءة ، يكون سموُّ عقله وشرفه .
وقد سبق إلى بيان هذا المعنى عدد من العلماء
الأجلاَّء منهم : يحيى بن معاذ - رحمه الله - إذ يقول : ( القلوب كالقدور في الصدور
تغلي بما فيها ، ومغارفها ألسنتها ، فانتظر الرجل حتى يتكلم ؛ فإن لسانه يغترف لك ما
في قلبه من بين حلو وحامض ، وعذب وأجاج ؛ يخبرك عن طعم قلبه اغترافُ لسانه ) [1] .
ووصف ابن القيم اللسان بأنَّه : ( بريد القلب
وترجمانه ) [2] ، وقال في موضع آخر : ( إذا أردت أن تستدل على
ما في القلوب ،فاستدل عليه بحركة اللسان ؛فإنه يطلعك على ما في القلب ؛شاء صاحبه أم
أبى) [3] .
والمتأمل في لغة القرآن العظيم يلمس سموَّ الألفاظ
وجمال التعبير كأجمل ما يكون السموُّ والجمال ؛ فاقرأ - مثلاً - قول الله - تبارك وتعالى
- : {
أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى
نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ
كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ
بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } ( البقرة : 187 ) فقد كنى بالرفث والمباشرة عن الجماع .
ونظائر ذلك في القرآن الكريم كثيرة ، ومن ذلك
قوله - تعالى - : {
وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن
تَمَسُّوهُنَّ } (
البقرة : 237 ) ، وقوله
- تعالى - : {
أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ } ( النساء :
43 ) ؛ فعبَّر
عن الجماع بالمسّ والملامسة .
وانظر إلى جمال اللغة وأدب العبارة في قوله
- جل وعلا - : {
هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ
لِبَاسٌ لَّهُنَّ } (
البقرة : 187 ) ، وقوله
: { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } ( البقرة : 223 ) [4] .
إنَّه تهذيب للإنسان وبناء للذوق اللغوي الذي
يجعل المتكلم يختار أعف الكلمات وأسماها ، ويترفع عن سفسافها وأدناها ، وهذا المعنى
أحد مقتضيات قول الله عز وجل : {
وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا } ( البقرة : 83 ) ، وقوله - جل وعلا - :{ وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } ( الإسراء : 53 ) ، وقوله - سبحانه - : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً
سَدِيدًا } ( الأحزاب : 70 ) .
ولهذا جاءت وصية النبي صلى الله عليه وسلم بمعاهدة
اللسان وتربيته ، فقال صلى الله عليه وسلم : « أطب الكلام » [5] ، وقال : « أطيبوا الكلام » [6] ، وقال : « عليك بحُسْن الكلام » [7] ، وقال : « الكلمة الطيبة صدقة » [8] .
وكانت سيرة النبي صلى الله عليه وسلم العملية
أبلغ مثال في سموِّ اللغة ورقي التعبير ؛ فعن عائشة - رضي الله عنها - قالت : ( لم
يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحشاً ، ولا متفحشاً ، ولا صَخَّاباً في الأسواق
، ولا يجزي بالسيئة مثلَها ،ولكن يعفو ويصفح ) [9] .
وعن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - قال
: إن رسول الله – صلى الله عليه وسلم - لم يكن فاحشاً ولا متفحشاً ، وقال : « إن من
أحبكم إليَّ أحسنكم أخلاقاً » [10] .
هذه البيئة التربوية الراقية هي التي نشأ فيها
الرعيل الأول ، سَمَتْ بالذوق العام للمجتمع كله ؛ إذ خَلَت لغتهم من الخنى وسَلِمت
أساليبهم من الإسفاف ، ولهذا كان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يَعدُّ طيب الكلام
إحدى الملذات التي لا يتمنى فراقها ، فيقول : ( لولا ثلاث : لولا أن أسير في سبيل الله
، عز وجل ، أو يغبرَّ جبيني في السجود ، أو أقاعد قوماً ينتقون طيب الكلام كما ينتقى
طيب الثمر ، لأحببت أن أكون قد لحقت بالله ، عز وجل ) [11] .
وكلما كان الإنسان أقرب إلى لغة القرآن وتربية
النبي صلى الله عليه وسلم ،كان أعفّ لساناً ، وأطهر كلاماً ؛ ولهذا اهتم السلف بأساليب
التخاطب وألفاظ التعامل ؛ فنقَّوْها من الفحش وصقلوها من السوء ؛ وكان من اللطائف المستحسنة
في ذلك ما نقله الحافظ السخاوي ؛ حيث قال : ( روينا عن المزني قال : سمعني الشافعي
يوماً وأنا أقول : فلان كذاب ، فقال لي : يا إبراهيم ! أَكِسْ ألفاظك أحسِنْها ،لا
تقل : كذاب ، ولكن قل : حديثه ليس بشيء ، ونحوه ؛ إن البخاري كان – لمزيد ورعه - قلَّ
أن يقول : كذاب أو وضَّاع ، أكثر ما يقول : سكتوا عنه ، فيه نظر ، تركوه ، ونحو هذا
. نعم ! ربما يقول : كذَّبه فلان ، أو رماه فلان بالكذب ) [12] .
وطيب الكلام يحتاج إلى تربية ومعاهدة [13] ، ولهذا قال عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما
- : ( إن أحق ما طهَّر الرجل لسانه ) [14] ، وقد يكون هذا يسيراً في الأحوال العادية ؛
لأن الإنسان قد يتكلف حُسْن المنطق والبعد عن الفحش ، لكن قد يعرِض للمرء عوارض تكشف
عن معدنه الحقيقي ، وهو ما يتطلب مجاهدة وترويضاً للسان ، ومن هذه العوارض :
أولاً : الغضب : فالغضبان قد يطيش لسانه في السوء والفحش إذا
لم يملك نفسه ، وقد لا يستحضر من مخزونه اللغوي إلا أسفَّ الألفاظ وأسوأها ، ولهذا
كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم : « وأسألك كلمة الحق في الرضا والغضب » [15] .
وانظر إلى أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم السامية
؛ فهو عفيف اللسان في كل حال من أحواله ؛ فعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال : لم
يكن النبي صلى الله عليه وسلم سبَّاباً ولا فحَّاشاً ولا لعَّاناً ، كان يقول لأحدنا
عند المعتبة : « ما له تَرِبَ جبينُه » [16] .
حتى عندما آذاه رجل بقوله : والله إن هذه لقسمة
ما عُدِل فيها ، وما أريد بها وجه الله ! كتم غيظه ، وقال : « رحم الله موسى قد أوذي
بأكثر من هذا فصبر » [17] .
ثانياً : الاختلاف : الاتفاق يُبقي الإنسان هادئاً متزناً ، لكن الاختلاف
يكشف حقيقة الطبائع ؛ لأن كثيراً من
الناس لا يرضى بالمخالفة ( مهما كانت يسيرة ) ؛ فيضطرب عندها لسانه ويفقد اتزانه وتزول رزانته ، وربما قاده ذلك إلى الفحش أو
الجَوْر أو البغي ، وأحياناً ربما دفعه إلى اختزال الاختلاف في بعض
الاجتهادات العلمية أو المواقف العملية في
قضايا شخصية ، ويتحول موقفه إلى ضجيج وصخب ، ويصيِّر القضايا البسيطة تهماً وسلَّماً للاستهداف الشخصي .
ولهذا جاء المنهج القرآني ليربي الإنسان على
دفع السيئة بالحسنة ، كما قال - تعالى - : { ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ
عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ } ( فصلت : 34 ) ، وكما قال - عز وجل - : { وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } ( القصص : 54 ) ، وفي هذا الباب نقل عبد الرحمن بن أبي عائشة
: قول بعض الحكماء : ( الكلام اللين يغسل الضغائن المستكنة في الجوانب )
[18] .
وانظر إلى أثر تلك التربية في موقف زينب بنت
جحش - رضي الله عنها - لما سألها النبي صلى الله عليه وسلم عن عائشة - رضي الله عنها
- في حادثة الإفك ، فقالت : ( يا رسول الله ! أحمي سمعي وبصري ، والله ! ما علمت عليها
إلا خيراً ) .
قالت عائشة تعليقاً على هذا الكلام : ( وهي التي
كانت تساميني ، فعصمها الله بالورع ) [19] .
ثالثاً : المزاح : إن المبالغة في الممازحة قد تدفع المرء أحياناً
إلى التفحش في بعض الحديث ،رغبة في إضحاك الآخرين ، وإذا كان هذا الفعل يُعد قبيحاً
مذموماً عند عامة الناس ؛ فإنه أشد
قبحاً ومذمة عند الدعاة والصالحين ، وقد رأيت بعض المنتسبين إلى الدعوة أنه إذا اختلى بخواصه توسع في الممازحة ، وتلفظ بألفاظ
يُستحيا من سماعها فضلاً عن نطقها وروايتها ! وها هو ذا أبو هريرة
- رضي الله عنه - يخبرنا عن سموِّ أخلاق
النبي صلى الله عليه وسلم قائلاً : قالوا : يا رسول الله ! إنك تداعبنا !فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم : « إني لا أقول إلا حقاً » [20] .
فلسان الداعية في جده وهزله محفوظ بالورع من
السقوط في مستنقع البذاءة أو الكذب .
إن الشريعة المطهرة لم تأت إلا لإصلاح الإنسان
، وتهذيب سلوكه ، والتسامي بفعله وقوله .
وأَوْلَى الناس بذلك الدعاة والمصلحون ؛ فَهُم
الذين يحملون رسالة سامية ، ويتعاملون مع شتى طبقات المجتمع الاجتماعية والثقافية
.
والكلمة الطيبة هي مفتاح للقلوب وأنجع أداة للتأثير
.
وإذا كان بعض الدعاة يحرص على الارتقاء بمَلَكاته
العلمية والفكرية ، ويسعى لاكتساب القدرات المهنية والمهارات الفنية ، التي تجعله أكثر
نجاحاً وأرسخ إبداعاً في ميدان الدعوة ، فإنَّ ( طيب الكلام ) أساس الأمر ومفتاحه
.
(1) حلية الأولياء : (10/63).
(2) الفوائد : (ص 106) .
(3)
الجواب الكافي : (139) .
(4) أشار إلى هذا المعنى الثعالبي في كتابه :
(فقه اللغة) ؛ حيث عقد فصلاً (في الكناية عما يُستقبحذِكْره بما يُستحسَن لفظه) .
(5) أخرجه : أبو نعيم في حلية الأولياء : (9/59)
، وصححه الألباني في صحيح الجامع ، رقم :(1030) .
(6) أخرجه : الطبراني في الكبير ، وقوَّى إسناده
الألباني في الصحيحة ، رقم : (1465) .
(7) أخرجه : البخاري في الأدب المفرد ، رقم :
(811) ، و ابن حبان في صحيحه ، رقم : (490) ،وصححه الألباني في الصحيحة ، رقم :
(1939) ، وقواه الأرنؤوط في تحقيقه لصحيح ابن حبان .
(8) أخرجه : البخاري ، رقم : (2707 و 2891 و
2989) ، و مسلم ، رقم : (1009) .
(9) أخرجه : أحمد ، رقم : (25417و 25990 و26091)
، و الترمذي ، رقم : (2016) ، وقال :حسن صحيح وصححه الأرنؤوط في تحقيقه للمسند
والصخب والسخب : الضجة واختلاط الأصوات للخصام ، لسان العرب (7/294) .
(10) أخرجه : البخاري ، رقم : (3759 و6029) ،
ومسلم ، رقم : (2321) .
(11) أخرجه : ابن المبارك في كتاب الجهاد : (ص
184) ، رقم (222) ، وحلية الأولياء (1/51) ،وروي نحوه عن أبي الدرداء - رضي الله
عنه - كما في الحلية : (1/212) .
(12) الإعلان بالتوبيخ لمن ذم أهل التوريخ : (ص
68 - 69) .
(13) روى مالك في الموطأ عن يحيى بن سعيد : أن
عيسى ابن مريم لقي خنزيراً بالطريق فقال له :انقُذ بسلام فقيل له : تقول هذا
لخنزير ؟ فقال عيسى : إني أخاف أن أعوِّد لساني النطق بالسوء الموطأ : (2/985) ،
ومن طريقه ابن أبي الدنيا في كتاب الصمت وآداب اللسان ، ضمن موسوعة ابن أبي الدنيا
: (7/195) ، رقم : (308) .
(14) أخرجه : ابن أبي الدنيا في كتاب (الصمت
وآداب اللسان) : (7/80) ، رقم : (99) .
(15) أخرجه : أحمد : (18325) ، و النسائي :
(3/54/55) ، وصححه الألباني في صحيح الجامع (1/411) .
(16) أخرجه : البخاري ، رقم : (6031 و 6046) .
(17) أخرجه : البخاري ، رقم : (3150 و 3405 و
4336) ، ومسلم ، رقم : (1062) .
(18) الصمت وآداب اللسان (7/ 197) ، رقم (321) .
(19) أخرجه : البخاري رقم (4750) ، ومسلم رقم
(2770) .
(20) أخرجه : أحمد رقم (8481 و8753) ، والترمذي
رقم (1990) ، وقوى إسناده الأرنؤوط .