أجهش العلامة إبراهيم بن جاسر [1] - رحمه الله - ( ت 1338هـ ) بالبكاء ، لما قرئ
عليه في كتاب ( منهاج السُّنة النبوية في نقض الشيعة والقدرية لابن تيمية ) ؛ حيث جاء
قول ابن المطهِّر الحلي [2] وما فيه من شبهات ومغالطات ، ثم قال الجاسر لطلابه
: أيها الإخوان ! لو لم يقيِّض الله لهذا الطاغية وأمثاله مثل هذا الإمام الكبير ؛
فمن الذي يستطيع الرد والإجابة عن هذه الشبهات ؟ [3] وإذا تجاوزنا ما قاله العلاَّمة ابن جاسر إذ لا تخلو الأرض من قائم لله - تعالى - بحجة ، وتحدثنا
عن السبيل إلى التعامل مع الشبهات ومدافعتها .
فالشبهة إن كانت واضحة البطلان ، ظاهرة العوار
لكل ذي عينين ، لا يُلتفت إليها ؛ فإن الخوض في إبطالها تضييع للزمان ، وإتعاب للحيوان
[4] ، وإنما المدافعة للشبهات التي يَضِل بها بعض
الناس [5] ؛ « إذ لا يشبه على الناس الباطل المحض ، بل
لا بد أن يُشاب بشيء من الحق » [6] .
كما ينبغي التوسط مع الشبهات في حدِّ ذاتها ؛
فالشبهات المغمورة ، والاعتراضات المطمورة لا يُلتفت إليها بدعوى الرد والمناقشة ؛
إذ في ردِّها إظهارٌ لها بعد اندراسها ، وإحياءٌ لرميمها ، ولكن الشبهات التي استفحلتْ
وأوقعت حيرة ولبسًا عند فئام من المسلمين ، فالمتعيَّن مدافعتها ومناظرة أربابها ومجادلتهم
.
قال ابن تيمية : « كل من لم يناظر أهل الإلحاد
والبدع مناظرة تقطع دابرهم ، لم يكن أعطى الإسلام حقه ، ولا وفَّى بموجب العلم والإيمان
، ولا حصل بكلامه شفاء الصدور وطمأنينة النفوس ... » [7] .
وكذا التوسط مع الشبهات أثناء سماعها من الآخرين
، أو ورودها من المخاطبين ؛ فلا يزجر كل سائل تَعْرض له شبهة ، ولا يُهمَل كل من وقع
في حيرة أو اشتباه ؛ فهذا الإعراض والإهمال قد أفضى ببعضهم إلى زندقة ، وخروج عن الإسلام
والسُّنة .
وكذا الحذر مما يقابل ذلك ، من تَقَصُّد الشبهات
، أو دعوة الناشئة إلى إثارة أي شبهة أو إشكال ، كما يفعله بعض المعاصرين ؛ فإن تتبُّع
الشبهات وحصرها ليس مقدورًا ولا مشروعًا ؛ فالشبهات لا تنقضي ويستحيل حصرها .
ولا يكلِّف الله نفسًا إلا وُسْعها ؛ « فالمعارضات
الفاسدة التي يمكن أن يوردها بعض الناس على الأدلة لا نهاية لها ؛ فإن هذا من باب الخواطر
الفاسدة ، ولا يحصيه أحد إلا الله ... فالخواطر الفاسدة التي تقدح في المعلومات لا
نهاية لها ، ولا يمكن استقصاء ما يَرِد على النفوس من وساوس الشيطان » [8].
« والقرآن لا يُذكر فيه مخاطبة كل مبطل بكل طريق
، ولا ذَكَر كلَّ ما يخطر بالبال من الشبهات وجوابها ؛ فإن هذا لا نهاية له ولا ينضبط
» [9] .
كما لا تُذكر الشبهة ابتداءً واستقلالاً ، بل
يقرر الحق ، ويبيِّن الهدى بأدلته وبراهينه ( النقلية والعقلية ) ، ثم يجيء الجواب
عن الشبهات الواردة عَقِب هذا التقرير والتأصيل . [10]
ومن مدافعة الشبهات : تحقيق اليقين ، وترسيخ الإيمان ؛ فإذا انشرح
القلبُ بالإيمان وخالط بشاشة القلوب ؛ فلا يقع انتكاس أو ارتداد .
قال ابن القيم : « ومتى وصل اليقين إلى القلب
، امتلأ نورًا وإشراقًا ، وانتفى عنه كلُّ ريب وشك وسخط وهمٍّ وغمٍّ ، فامتلأ محبة
لله ، وخوفًا منه ، ورضًا به » [11] .
قال الله - تعالى - : {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا
لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ
زُخْرُفَ القَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ
* وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ
وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ } ( الأنعام : 112-113 ) .
يقول العلامة محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله
- : « في هذه الآية ترتيب غريب عجيب ، بالغ في الحُسْن ؛ لأن السبب الأول : هو الغرور
والخديعة ، فتسبَّب عن الغرور والخديعة أن صغت إليه قلوبهم ومالت ، ثم تسبب عن صوغ
القلوب وميلها أنهم أحبوه ورضوه ، ثم تسبب عن كونهم أحبوه ورضوه أن اقترفوه .. والمؤمنون
يعرفون زخارف الشيطان ووحيه ؛ فيتباعدون منه ويجتنبونه » . [12]
ومفهوم الآية أن الإيمان باليوم الآخر يحقق مجانبة
الإصغاء إلى هذا الخداع والتزويق فالمؤمنون بالآخرة قد استنارت بصائرهم ، فنظروا في
حقائق الأمور ؛ فلا يهولوهم زُخرُف القول ، أو معسول الكلام .
وكذا ؛ فإن تربية الأمة على الاستعلاء بالإيمان
، والاعتزاز بالإسلام ولزوم السُّنة ، لَيُحقق مَنَعة وسلامة من الشبهات ؛ فالشبهات
تَعْلق بالقلوب الضعيفة والنفوس المنهزمة ؛ فهي محل قابل لتلك الشبهات ، وكم جرَّت
الهزيمة النفسية من ضعف وخَوَر ، وانسياق مع الشبهات ، وانصياع للاعتراضات ! ومن الحقائق
الإيمانية التي ينبغي استصحابها في مدافعة الشبهات أن في القرآن العظيم ما يردُّ على كل مخالف ، كما قال - تعالى - : {وَلاَ يَأْتُونَكَ
بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا } ( الفرقان : 23 ) .
قال الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله - : « لو
تدبَّر إنسان القرآن كان فيه ما يردُّ على كل مبتدع وبدعته » [13] .
كما أن أهل السُّنة يجزمون أن أهل البدع لا يكادون
يحتجون بحجة سمعية أو عقلية إلا وهي عند التأمُّل حجة عليهم . [14]
ومن الأجوبة المهمة تجاه الشبهات عمومًا : الاحتجاج
بمحكمات الشريعة ،والتمسك بجُمَل الإسلام والسُّنة ؛ إذ لا يحتج بالمتشابه المحتمل
على المحكَم القطعي الجلي إلا أهل الزيغ ، وقد احتفى الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب
- رحمه الله - بهذا الجواب المجمل ، كما في رسالته المتينة : « كشف الشبهات » .
ومن سبل المدافعة ما قرَّره يحيى العمراني (
ت 558هـ ) قائلاً : « ولا تزول الشبهة عن قلوب العامة إلا من حيث دخلت ، وقد كان -
صلى الله عليه وسلم - يزيل الشبهة من حيث علم دخولها » [15] . ( ثم ساق الأدلة على ذلك ) .
ومما ينبغي مراعاته في هذا المقام : النظر في
أحوال أرباب الشبهات ، ومدافعتهم بالأسلوب الأقوم والملائم ، والذي يحقق دفع الشبهة
وإظهار السُّنة :« والألفاظ في المخاطبات تكون بحسب الحاجات ، كالسلاح في المحاربات
، فإذا كان عدو المسلمين - في تحصُّنهم وتسلُّحهم - على صفة غير الصفة التي كانت عليها
فارس والروم ، كان جهادهم بحسب ما توجبه الشريعة التي مبناها على تحري ما هو لله أطوع
وللعبد أنفع » [16] .
وقال العلاَّمة ابن الوزير ( ت 840 هـ ) - رحمه
الله - : « المحامي عن السُّنة ، الذابُّ عن حماها كالمجاهد في سبيل الله - تعالى-
يُعدُّ للجهاد ما استطاع من الآلات والعدة والقوة ، كما قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} ( الأنفال : 60 ) [17] .
كما يُحذَّر من السِّباب والشتائم وبذاءة القلم
واللسان أثناء معالجة الشبهات : « فإن الرد بمجرد الشتم والتهويل لا يعجز عنه أحد »
[18] .
والكلام البذيء يدل على انقطاع صاحبه وقلة علمه
، كما قال العمراني في الانتصار ( 1/91 ) : وعليه أن يجانب البغي والعدوان ، ويتحرى
العدل والإنصاف ؛ « فالإنسان إذا اتبع العدل نُصِر على خصمه ، وإذا خرج عنه طمع فيه
خصمه » [19] .
وليحرص على مطالعة أحوال السلف وآدابهم في التعامل
مع الشبهات ، وجدال المخالفين ومناظرتهم . [20] كما يتعين الرسوخ في العلم الشرعي ، والتمكُّن
من الفقه لدين الله تعالى ، والدراية بأساليب الحوار ، وطرائق دفع الشبهات ، والدُرْبة
على المحاورات والمناظرات .
قال ابن عبد البر : « ليس كل عالم تتأتى له الحجة
، ويحضره الجواب ، ويسرع إليه الفهم بمقطع الحجة ومن كانت هذه خصاله ، فهو أرفع العلماء
، وأنفعهم مجالسة ومذاكرة » . [21]
ثم إن عليه -أولاً وأخيرًا- أن يستعين بالله
وحده ؛ فما لم يكن بالله لا يكون ، وكما قال الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب - رحمه
الله - : « لكن إذا أقبلت على الله ، وأصغيت إلى حججه وبيناته ، فلا تخف ولا تحزن ،
إن كيد الشيطان كان ضعيفًا ، والعامي من الموحدين يغلب الألف من علماء هؤلاء المشركين
، كما قال - تعالى- : {وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغَالِبُونَ } (الصافات : 173) » [22] .
(1) انظر ترجمته في علماء نجد للبسام :
1/277 - 293 .
(2) في كتابه - المردود عليه - منهاج الكرامة
، وقد سمَّاه ابن تيمية : منهاج الندامة ، كما سمى مؤلفه بابن المنجِّس ، ووصفه بأنه
أجهل خلق الله بالسُّنة ، انظر : منهاج السُّنة : 1/21، 4/127 .
(3) علماء نجد للبسام : 1/281 .
(4) مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب :
4/93 .
(5) انظر : التدمرية ، ص : 106 .
(6) مجموع الفتاوى : 8/37 .
(7) درء تعارض العقل والنقل : 1/357 ، وانظر
: زاد المعاد : 3/639 .
(8) الدرء : 3/162 ، 262 .
(9) الدرء : 8/88 .
(10) انظر : كتاب الإيمان لابن تيمية ، وكتاب
فقه الرد على المخالف لخالد السبت ، ص : 283 .
(11) مدارج السالكين : 2/398 .
(12) العذب النمير ، تحقيق : خالد السبت :
2/581 ، 584 ، باختصار .
(13) أخرجه الخلاَّل في السُّنة : 1/547 .
(14) انظر : مجموع الفتاوى لابن تيمية :
6/254 ، وحادي الأرواح لابن القيم ، ص : 208 .
(15) الانتصار (الجزء الأول) : 1/94 .
(16) مجموع الفتاوى لابن تيمية : 4/107 .
(17) إيثار الحق على الخلق ، ص : 20 .
(18) مجموع الفتاوى : 4/186 .
(19) الدرء : 8/409 .
(20) انظر : كتاب فقه الرد على المخالف لخالد
السبت ، وقد انتفعت به في هذا المقال . ومنهج الجدل والمناظرة لعثمان علي حسن .
(21) جامع بيان العلم : 2/968 .
(22) كشف الشبهات ، ص : 39 .