جهاد المغاربة في الأندلس السياق والحصيلة التجربة المرينية (نموذجاً)

إن حرص المرينيين منذ بدايتهم على الانخراط في الجهاد بالأندلس ووضعه ضمن سلم الأولويات، يوضح لنا مدى أهمية السند الديني في تدعيم وتمتين قواعد الدولة


مقدمة:

استأثر موضوع الجهاد في الأندلس باهتمام الدول التي تواترت على حكم المغرب طَوال العصر الوسيط، في إطار التضامن الإسلامي الذي تمليه رابطة الدين والجوار. وشكَّل غاية ومنتهى ما تصبوا إليه هذه الدول.

فبعد التجربة المرابطية الفريدة، وعظمة غريمتها الموحدية الرائدة، ارتأت وريثتها الدولة المرينية الزناتية، أن تحذو حذو التجربتين السابقتين وأن تقتدي بهما في تثبيط همم دار الحرب العازمة على سحق آخر المعاقل الإسلامية في الأندلس، في إطار حرب الاسترداد كما تسميها الرواية الإسبانية.

تفصيلاً لهذه الورقة سنبحث الإشكاليات التالية:

ما أسباب ودوافع الجهاد المريني في الأندلس؟

ما هي أهم المواجهات العسكرية المرينية ضد التحالف الأراغوني - القشتالي؟

أين تتجلى العراقيل التي أعاقت الجهاد المريني في الأندلس؟

ماذا عن مصير الأندلس ومآلها بعد نهاية المرينيين؟ وهل ضياع الأندلس تزامن مع ضعف المغرب الأقصى في شخص بني مرين، أم أن هذا الضياع مردُّه إلى نهاية الخلافة الأموية وظهور ملوك الطوائف كبداية نهاية الأندلس؟

ما هي أهم الاستنتاجات والخلاصات التي أمكن الخروج بها؟

أولاً: أسباب الجهاد المريني في الأندلس

 الأسباب المباشرة:

في الحقيقة شكَّل الجهاد المريني في الأندلس استمراراً لسابقيه الجهادين المرابطي والموحدي. ومِن ثَمَّ فإن الأسباب نفسها التي حملت التجربتين معاً للجهاد وخوض مواجهات حاسمة ضد العدو الكاثوليكي، هي نفسها التي كانت مدعاة لنهوض الدولة المرينية لمدافعة هذا العدو؛ ألا وهي تكالب الحلف النصراني ونكايته بالمسلمين وعزمه على الإجهاز على البقية الباقية من المعاقل الإسلامية في الأندلس؛ لا سيما بعد هزيمة العقاب (609هـ/ 1212م) التي أبانت عن ضعف المسلمين، بينما زادت النصارى عزيمة وقوة في تشديد الحصار وتكثيف الحملات العسكرية، لطرد آخر معقل إسلامي من جزيرة إيبيريا. وذلك ما حمل غرناطة على الإلحاح في استصراخها وإيفاد الوفود، مسترسلة، تخطب نجدة السلاطين المرينيين وتسأل جوازهم لكبح تطاول الطاغية وردِّه على أعقابه، صيانة لبقايا الديار الأندلسية.

وهكذا جاز يعقوب أول سلطان مريني وحَّد المغرب   أربع مرات ابتداءً من (674هـ/ 1276م) إلى أن توفي، ناصراً نداءهم ملبيّاً دعواتهم، وأكد ابنه يوسف تشبث الدولة المرينية بموقفها الثابت من القضية الأندلسية حينما قاد حملة مناصرة ومساندة للأندلسيين سنة (690هـ/ 1291م)، وبشكل مماثل اقتفى أثرهما أبو الحسن بتنظيمه حملتين إلى غاية موقعة طريف.

 الأسباب غير المباشرة:

صحيح أن المرينيين لم يكن لهم في بداية أمرهم دعوة دينية يسعَون إلى نشرها أو مذهب يضمرون شيوعه، خلافاً للمرابطين والموحدين الذين كان لكلٍّ منهما دعوة دينية عضدت عصبيتهم القبلية ومشروعهم السياسي. لكن المعلوم، أن الدولة المرينية الزناتية قامت على حدِّ السيف وتأسس مُلْكها على القوة العسكرية. لذلك ما إن استقام الأمر للمرينيين في المغرب حتى عمد يعقوب إلى العبور إلى الأندلس، على اعتبار أن الجهاد في الأندلس سيعزز دولتهم، ويكسبها المشروعية الدينية التي تفتقر إليها، وهو ما يمنحها الاعتراف الشعبي بسيادتها ويضمن الاستقرار في البلاد. فالمرينيون كانوا مدركين تمام الإدراك أن طاعة السيف عقيمة ما لم تسندها مشروعية دينية، ومصداق ذلك دعوة أبي بكر المريني في بداية نشوء الدولة المرينية أهلَ مكناسة لمبايعة الحفصيين على أساس أنه كان يمثل دعوتهم، يضاف إلى ذلك مقولة يعقـوب لابن الأحمر لَـمَّا تنـازل له عن الغنائم، إذ قال له: «يكون حظ بني مرين من هذه الغزاة الأجر والثواب مثل ما فعل يوسف بن تاشفين رحمه الله مع أهل الأندلس يوم الزلاقة»[1].

إن حرص المرينيين منذ بدايتهم على الانخراط في الجهاد بالأندلس ووضعه ضمن سلم الأولويات، يوضح لنا مدى أهمية السند الديني في تدعيم وتمتين قواعد الدولة، وتيسير إخضاع أعمالها، واستقامة أمرها، وفي تبرير فتوحاتها.

ثانياً: أهم المواجهات العسكرية

إذا كانت صنهاجة اللثـام (المرابطون) قد أرهبت النصرانية في موقعة الزلاقة (479هـ)، ومصمـودة (الموحدين) وطدت الهيمنة الإسلامية في الأرك. فإن زناتة المرينية تقاعست عن كسر شوكة الحلف النصراني في وقعة طريف (741هـ)، التي مُنِي فيها جيش أبي الحسن بهزيمة نكراء حملته على ركوب البحر والقفول إلى سبتة دون كرَّة؛ فما هي أسباب هذه الوقعة، وظروفها، ونتائجها؟

أسباب وقعة طريف:         

يُعزى سبب موقعة طريف أو (ريو ديسلادو) بالمفهوم الإسباني، إلى اتصال أبي الحسن بخبر هلاك ابنه (أبي مالك) على يد القوات الكاثوليكية. وهو ما حدا بأبي الحسن إلى الشروع في تجهيز الأساطيل، وبعثه في أخرى إلى أصهاره الحفصيين، الذين أرسلوا إليه ستة عشر أسطولاً من أساطيل إفريقيا حتى توافت أساطيل المغـربيين بمرسـى سـبتة تناهـز المئـة، وعقد عليها لمحمد بن علي العزفي صاحب سبتة[2]. ثم شرعت الأساطيل المرينية في مواجهة أساطيل الطاغية المرابطة في بحر الزقاق، فكان النصر حليف الأسطول المغربي. كان ذلك في 6 شوال عام (740هـ/ 1340م). اغتر أبو الحسن بهذا النصر المؤقت، وشرع في إجازة العساكر المتطوعة والمرتزقة، وانتظمت الأساطيل سلسلة واحدة من العدوة إلى العدوة[3]، عازماً على مناجزة الطاغية وتقليم أظافره.

ظروف المعركة:

بالتزامن مع عبور الجيش المريني، جهز الطاغية أسطولاً لقطع طرق المؤونة عن معسكر المسلمين حتى فنيت الأقوات، فوَهَن الظهر واختلفت أحوالهم[4]. هنا استجمع الحلف النصراني قواه وزحف نحو معسكر المسلمين بساحة طريف، فكانت الخطة أن سرَّب العدو ليلاً شرذمة من جنده، وجعلها كميناً في معسكر المسلمين إلى وقت المعركة، حتى إذا أقبل الجمعان على القتال برز الجيش الكمين في البلد[5] وخالفوا المسلمين إلى محلة السلطان وقتلوا النساء، وكانت منهن زوجات أبي الحسن، كما أضرموا النار في المعسكر[6].

نتائج المعركة:

لما فطن المسلمون لخطة العدو، اختلت صفوفهم وارتدوا على أعقابهم[7]، وحوصر الأمير تاشفين ابن السلطان أبي الحسن من لدن الجيش النصراني، فسقط أسيراً بين يدي الطاغية. أما أبو الحسن، فقد أدبر مهزوماً إلى سبتة رغم محاولته الفاشلة لرد الكَّرة.

كانت هزيمة (طريف - ريو ديسلادو) هزيمة ثانية للمغاربة بعد نكبة العقاب أمام النصارى. كما كانت هذه المعركة مؤشراً كافياً على أن المغرب لم يعد قادراً على مجابهة العدو الكاثوليكي، الذي باتت تميل لصالحه (موازين القوى) في مقابل تراجع وخبوِّ شعار الهيمنة الإسلامية المغربية على غرب البحر المتوسط.

ثالثاً: العراقيل التي واجهت الجهاد المريني

مما لا شك فيه أن الدولة المرينية حملت راية الجهاد في الأندلس على غرار سابقاتها. كما لا نستطيع إنكار دور المرينيين في مجاهدة العدو وإرهابه بما توافر لديهم من قوة، بَيْدَ أن ما يؤخذ على المرينيين هو ضعفهم وضآلة قوَّتهم في مواجهة دار الحرب. بطبيعة الحال تقف وراء هذا الضعف مبررات ومفسرات حالت دون نجاح الجهاد المريني في الأندلس. ويمكن حصر هذه العوامل فيما يلي:

أولاً: عدم تكافؤ موازين القوى بين البداوة المرينية وقوة الحلف القشتالي والأراجوني والنافاري والبرتغالي.

ثانياً: ما كان المرينيون يمتلكون القوة والزخم بمستوى دولة الموحدين أو المرابطين، لذلك لم يكن منتظراً من غرناطة - فيما بعدُ - سوى الاستسلام أمام الزحف النصراني.

ثالثاً: دور سياسة بني نصر في غرناطة، بتحالفاتها مع العدو ومناوراتها وتدخلاتها في الشؤون الداخلية للمغرب... كل ذلك ساهم - بشكل من الأشكال - في إضعاف المرينيين وعرقلة جهودهم الرامية إلى مدافعة النصارى.

رابعاً: طبيعة السياسة الجهادية المرينية نفسها، التي كانت عبارة عن حملات متقطعة غرضها القيام ببعض الأعمال التخريبية واستجلاب الغنائم، دون متابعة الجهاد لاسئصال شأفة الصليبية؛ فما كانت الحصيلة سوى تجدد نكاية العدو وهجماته مقابل تقاعس بني مرين عن صده.

خامساً: عانت الدولة المرينية - لا سيما في أواخر عهدها - من تمرد الأقاليم واستبداد الحاشية، وهو ما جعل الدولة تنشغل في إخماد الفتن والثورات الداخلية. وقد كان لهذا العامل أثر في استنزاف قوة الدولة، مقابل استقواء العدو وتمدده في المجال.

رابعاً: مصير الأندلس بعد بني مرين

معلوم أن انتصار أو هزيمة المسلمين أمام النصارى، هو الذي كان ينبئ بمستقبل ومآل المسلمين في الأندلس. وهكذا سنجد أن هزيمة العقاب (609هــ) كانت هي الطامة على الأندلس بل المغرب جميعاً[8] بما تلاها من انحلالِ ووهنِ الدولة الموحدية. كما أتى على إثرها الحلف النصراني على جُلِّ الثغور الأندلسية، بينما انحصر الوجود الإسلامي بالجنوب الشرقي تحت راية بني الأحمر في غرناطة.

أدركت الدولة المرينية هذا الزحف الإيبيري الجارف، فجعلت الجهاد في الأندلس جزءاً أساسيّاً من (برنامجها) السياسي اقتداءً بسابقاتها. وبذلك ساهمت في إضعاف الأمم النصرانية وإيقاف غاراتهم، نسبياً، بشن غارات وفتح بعض الحصون ونسف الزروع وسبي النساء وتخريب العمران... حتى قيل بيعت الفرنجية بمثقالٍ ونصف لكثرة السبي، وبيعت الشاة الواحدة بدرهم[9]، واستمر الحال على هذا المنوال إلى أن تعرضت الدولة المرينية لنكسة طريف، التي شكلت نهاية الغزو المريني في الأندلس عمليّاً.

بعد تصدُّع الدولة المرينية وانقسام آل البيت الغرناطي وصراعاتهم على الحكم، انتهز الطاغية الفرصة وعقد العزم على قطع شأفة المسلمين من الجزيرة الإيبيرية. وفعلاً نجح العدو في الاستيلاء على حصن لورة عام 1484م، ولوشة 1486م، كما تمكن من مالقة عام 1487م التي قاومت ببسالة بقيادة حامد الزغيبي، ولم يمضِ سوى عام حتى لاقت بسطة BAZA المصير ذاته في عام 1489م، وبقيت غرناطة التي حاصرها الجيش النصراني حوالي سبعة أشهر حتى أقبل الشتاء وضاق الحال، وبان الاختلال وعظم الخطب على المسلمين[10].

هكذا أصبحت غرناطة وحيدة تتقاذفها أمواج المد النصراني، فاضطر أهل غرناطة بقيادة موسى بن الغسان إلى إلقاء السلاح والاستسلام. في هذا الصدد، تسلم فرديناند ملك أراجون وإيزابيلا ملكة قشتالة مفاتيح غرناطة من لدن أبي عبد الله الصغير آخر أمراء بني الأحمر عام 1492م، وَفْقَ شروط لم يكن النصارى إلا ليضربوا بها عرض الحائط وينكِّلوا بالمسلمين ويجلونهم من الأندلس.

في الحقيقة تقرر مصير الأندلس منذ نهاية الخلافة الأموية وبروز دويلات الطوائف المتناحرة التي تستظهر العدو بعضها على بعض. على أن الدور الذي لعبه المغرب لَطُف بالأندلس وساهم في تأخير السقوط الحتمي للفردوس المفقود.

للإحاطة بحيثيات وإرهاصات هذا الضياع، لا بد من مراجعة السياق العام في الساحة الدولية آنذاك. فإذا تتبعنا السياق الذي ظهرت فيه الدولة المرينية وسقطت فيه غرناطة، ألفينا أن (موازين القوى) بدأت تتحول لصالح أوروبا الغربية على حساب الغرب الإسلامي. لكن على النقيض من ذلك، فقد برزت في شرق المتوسط قوة جديدة تتمثل في الأتراك العثمانيين، الذين سقطت على أيديهم القسطنطينية عام1453م، التي ارتج لها العالم الغربي أيما ارتجاج، وحزَّ سقوطها في نفـوس النصـارى، فكانت أوروبا التـي اقْتُطـع جزء لا بأس به من شرقها، لا بد أن تستعيده في غربها، وهكذا كانت الأندلس كبش الفداء لإعادة التوازن بين الهلال والصليب على حدِّ تعبير أحد الكتاب[11].

الواقع أن أوروبا لم تكتفِ فقط باحتلال الأندلس وطرد المسلمين منها، بل تجاوزت ذلك إلى ما وراء البحر، حيث طوقت السواحل المغربية، واحتلت العديد من الثغور كثغر سبتة عام 1515م، وثغر القصر الصغير عام 1458م، وطنجة عام 1464م، وهو تاريخ مقتل آخر سلطان مريني.

خامساً: استنتاجات عامة

بعد استعراضنا لأهم المحاور التي أسست لموضوع الجهاد المريني في الأندلس، نسجل الخلاصات التالية:

أن بواعث الجهاد المريني مردُّها إلى الهجمات النصرانية على بقايا المعاقل الإسلامية، ومن ثَمَّ يمكن القول: إن الدولة المرينية كانت في موقف دفاعـي تحاول رد هجمات الكاثوليك، دون التفكير في الاقتحام والتوغل داخل الأراضي الإيبيرية لاستئصال الصليبية منها بشكل كامل. وبهذا يكون موقف الدفاع قاسم مشترك وخيط ناظم للجهاد في الأندلس منذ المرابطين مروراً بالموحدين وانتهاء بالمرينيين. بمعنى أن محركات الجهاد في الأندلس استمرت على حالها أي من منطلق الدفاع والظرفية، منذ التجربة الأولى (المرابطية).

أن هزيمة المرينيين في موقعة طريف، برهنت مرة أخرى على عدم قدرة المسلمين المغاربة على مسايرة متغيرات الساحة الدولية آنذاك، وأن الهيمنة صارت من حظ دار الحرب.

تبدَّى لنا أيضاً أن تقلبات وتلونات سياسة غرناطة تجاه بني مرين أثَّرت سلباً على مصير المسلمين في الأندلس، وأنها من بين العراقيل التي حالت دون التمكين للمشروع الجهادي للمرينيين.

أن عدم فعالية الجهاد المريني إذا ما قارناه بنظيريه المرابطي والموحدي، يعزى إلى خلل بنيوي يحمله بنو مرين أنفسهم؛ إذ إن المسألة كان يحكمها بُعدٌ اقتصادي بالدرجة الأولى، ذلك أنه بالعودة لماضي بني مرين ونمط عيشهم والدافع الذي كان وراء دخولهم للمغرب، نجد أنه كان دافعاً اقتصادياً محضاً، أي البحث عن الكلأ والأقوات التي يحتاجونها في فصل الشتاء. وبناء على هذا الطرح نجد أن الجهاد المريني في الأندلس، كان عبارة عن حملات متقطعة جُلُّها في الصيف والربيع هدفها جمع الغنائم والقفول إلى المغرب.


 


[1] الناصري، (خالد)، الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى، جـ4، وزارة الإعلام والاتصال 2002م ص 52.

[2] الناصري، (خالد)، نفسه، ص 132.

[3] نفسه، ص 134.

[4] المرجع والصفحة نفسهما.

[5] نفسه.

[6] نفسه، ص 135.

[7] المرجع والصفحة نفسهما.

[8] المقري، نفح الطيب في غصن الأندلس الرطيب، جـ 6، دار الكتب العلمية، بيروت، ص151.

[9] الناصري، (خالد)، مرجع سابق، ص47.

[10] نفسه، ص304.

[11] مجلة المعرفة، العدد 68، فبراير 2001م.

أعلى