• - الموافق2024/11/25م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
التوبة الجماعية

التوبة الجماعية


الحمد لله العزيز العليم {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [غافر: 3] نحمده حمدا كثيرا، ونشكره شكرا مزيدا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ عظم حلمه على عباده فأمهلهم، واشتد غضبه على منتهكي حرماته فأملى لهم، حتى إذا أخذهم لم يفلتهم  {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102]، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ نصح لأمته فأرشدها وأنذرها، ورغبها ورهبها، وبين لها ما ينجي العباد يوم القيامة وما يوبقهم، فمن أطاعه نجي وفاز، ومن عصاه خسر وخاب، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واتبعوا أمره فلا تعصوه، وتمسكوا بدينه فلا تفلتوه، وخذوا كتابه بقوة فلا تضعفوا فيه، واجتمعوا عليه ولا تفرقوه {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13].

أيها الناس: تتفاوت المعاصي بالنسبة للعاصي؛ ففيها كبائر وصغائر، وفي الكبائر موبقات تهلك أصحابها. وأما بالنسبة للخالق سبحانه فإن عظمته عز وجل تقتضي الحذر من معصيته، وعدم الاستهانة بها مهما كانت صغيرة في عين صاحبها، قال بِلَالُ بْنُ سَعْدٍ رحمه الله تعالى: «لَا تَنْظُرْ إِلَى صِغَرِ الْخَطِيئَةِ وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى مَنْ عَصَيْتَ».

ولما كان العباد لا ينفكون عن العصيان، وكان عصيانهم إما جماعات وإما فرادى؛ وجب أن يلزموا التوبة في كل أحوالهم وأحيانهم. فإذا عصوا الله تعالى فرادى تابوا فرادى، وإذا عصوه جماعة تابوا جماعة؛ ولذا شرعت التوبة الجماعية، وجاء بها القرآن الكريم، ووقعت في الأمم السالفة، كما فعلها الصحابة رضي الله عنهم؛ وذلك لأن العقوبة إذا نزلت عمت ولم تخص {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: 25] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: «أَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ لَا يُقِرُّوا الْمُنْكَرَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ فَيَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ يُصِيبُ الظَّالِمَ وَغَيْرَ الظَّالِمِ». وجاء في الحديث عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «إِنَّ اللهَ لَا يُعَذِّبُ الْعَامَّةَ بِعَمَلِ الْخَاصَّةِ حَتَّى يَرَوْا الْمُنْكَرَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ وَهُمْ قَادِرُونَ عَلَى أَنْ يُنْكِرُوهُ فَلَا يُنْكِرُوهُ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَذَّبَ اللهُ الْخَاصَّةَ وَالْعَامَّةَ» رواه أحمد.

وأول توبة جماعية وقعت في البشر هي توبة آدم وحواء عليهما السلام لما أكلا من الشجرة، ولا بشر إذ ذاك غيرهما {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ * قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 22-23].

وأخبرنا ربنا سبحانه عن توبة قوم يونس الجماعية حين رأوا بوادر العذاب، فرفع عنهم العذاب بتوبتهم {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [يونس: 98] «فلَمْ تُوجَدْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ بِكَمَالِهَا بِنَبِيِّهِمْ مِمَّنْ سَلَفَ مِنَ الْقُرَى إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ... وَمَا كَانَ إِيمَانُهُمْ إِلَّا خَوْفًا مِنْ وُصُولِ الْعَذَابِ الَّذِي أَنْذَرَهُمْ بِهِ رَسُولُهُمْ، بَعْدَ مَا عَايَنُوا أَسْبَابَهُ، وَخَرَجَ رَسُولُهُمْ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ، فَعِنْدَهَا جَأَرُوا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَاسْتَغَاثُوا بِهِ، وَتَضَرَّعُوا لَدَيْهِ. وَاسْتَكَانُوا وَأَحْضَرُوا أَطْفَالَهُمْ وَدَوَابَّهُمْ وَمَوَاشِيَهُمْ، وَسَأَلُوا اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَرْفَعَ عَنْهُمُ الْعَذَابَ الَّذِي أَنْذَرَهُمْ بِهِ نَبِيُّهُمْ. فَعِنْدَهَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى، وَكَشَفَ عَنْهُمُ الْعَذَابَ وَأُخِّرُوا».

ووقعت التوبة الجماعية في بني إسرائيل أيضا فتاب الله تعالى عليهم بتوبتهم {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 54]. فجعل توبتهم قتلهم لأنفسهم، وذلك بأن يقتل كل من عبد العجل نفسه، وإما بأن يقتل الذين لم يعبدوه من عبدوه «ففَعَلُوا وَقَتَلُوا ثَلَاثَةَ آلَافِ نَفْسٍ، ثُمَّ اسْتَشْفَعَ لَهُمْ مُوسَى فَغَفَرَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُمْ».

ووقعت التوبة الجماعية من الأنصار رضي الله عنهم؛ وذلك حين قُسمت غنائم حنين على المؤلفة قلوبهم، فوجدوا في أنفسهم، وقال بعضهم: «يَغْفِرُ اللَّهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يُعْطِي قُرَيْشًا وَيَتْرُكُنَا، وَسُيُوفُنَا تَقْطُرُ مِنْ دِمَائِهِمْ، قَالَ أَنَسٌ: فَحُدِّثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَقَالَتِهِمْ، فَأَرْسَلَ إِلَى الأَنْصَارِ فَجَمَعَهُمْ فِي قُبَّةٍ مِنْ أَدَمٍ، وَلَمْ يَدْعُ مَعَهُمْ غَيْرَهُمْ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا قَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَا حَدِيثٌ بَلَغَنِي عَنْكُمْ؟ فَقَالَ فُقَهَاءُ الأَنْصَارِ: أَمَّا رُؤَسَاؤُنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَلَمْ يَقُولُوا شَيْئًا، وَأَمَّا نَاسٌ مِنَّا حَدِيثَةٌ أَسْنَانُهُمْ فَقَالُوا: يَغْفِرُ اللَّهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْطِي قُرَيْشًا وَيَتْرُكُنَا، وَسُيُوفُنَا تَقْطُرُ مِنْ دِمَائِهِمْ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَإِنِّي أُعْطِي رِجَالًا حَدِيثِي عَهْدٍ بِكُفْرٍ أَتَأَلَّفُهُمْ، أَمَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالأَمْوَالِ، وَتَذْهَبُونَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى رِحَالِكُمْ، فَوَاللَّهِ لَمَا تَنْقَلِبُونَ بِهِ خَيْرٌ مِمَّا يَنْقَلِبُونَ بِهِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ رَضِينَا» متفق عليه. وفي رواية لأحمد قال صلى الله عليه وسلم: «أَفَلَا تَرْضَوْنَ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالشَّاةِ وَالْبَعِيرِ، وَتَرْجِعُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ فِي رِحَالِكُمْ؟ فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْلَا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنَ الْأَنْصَارِ، وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ شِعْبًا، وَسَلَكَتِ الْأَنْصَارُ شِعْبًا لَسَلَكْتُ شِعْبَ الْأَنْصَارِ، اللَّهُمَّ ارْحَمِ الْأَنْصَارَ، وَأَبْنَاءَ الْأَنْصَارِ، وَأَبْنَاءَ أَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ، قَالَ: فَبَكَى الْقَوْمُ حَتَّى أَخْضَلُوا لِحَاهُمْ، وَقَالُوا: رَضِينَا بِرَسُولِ اللَّهِ قِسْمًا وَحَظًّا». فتابوا جميعا من مقالتهم وجدتهم على النبي صلى الله عليه وسلم، وأعلنوا رضاهم به عليه الصلاة والسلام.

وفي غزوة تبوك تخلف عدد من الصحابة رضي الله عنهم عنها فأنزل الله تعالى فيهم قرآنا بعدما تابوا، قال ابن عباس رضي الله عنهما: «كانوا عشرة رَهْطٍ تخلّفوا عن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فلما حضرَ رُجوع النبي صلى الله عليه وسلم، أوثق سبعةٌ منهم أنفسهم بسواري المسجد، فكان ممرّ النبي صلى الله عليه وسلم إذا رجع في المسجد عليهم، فلما رآهم قال: من هؤلاء الموثِقُون أنفسهم بالسواري؟ قالوا: هذا أبو لبابة وأصحابٌ له تخلفوا عنك يا رسول الله، وحلفوا لا يطلقهم أحد حتى تطلقهم وتعذرهم. فقال النبي عليه السلام: وأنا أقسم بالله لا أطلقهم ولا أعذرهم، حتى يكون الله هو الذي يطلقهم، رغبوا عني وتخلفوا عن الغزو مع المسلمين! فلما بلغهم ذلك قالوا: ونحن لا نطلق أنفسنا حتى يكون الله الذي يطلقنا! فأنزل الله تبارك وتعالى: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 102] وعسى من الله واجب. فلما نزلت أرسل إليهم النبي صلى الله عليه وسلم فأطلقهم وعَذَرَهُم» رواه الطبري.

نسأل الله تعالى أن يمن علينا بتوبة نصوح، وأن يتوب علينا إنه هو التواب الرحيم.

وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم...

 

الخطبة الثانية

 الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.

 أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وتوبوا إليه واستغفروه {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 39].

أيها المسلمون: أمر الله تعالى المؤمنين بالتوبة الجماعية في قوله سبحانه {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31]. وهذه الجملة الآمرة للمؤمنين بالتوبة جميعا ختمت بها آية الأمر بغض الأبصار، وحفظ الفروج، وضرب الحجاب على النساء، ونهيهن عن إبداء زينتهن، وسر ذلك -والله أعلم- أن ذلك متعلق بالغرائز البشرية التي لا انفكاك للمرء عنها إلا بمجاهدة شديدة، ويقع منه ما يقع من اللمم؛ فإن استرسل فيه قاده إلى ما هو أعظم، حتى يصل به إلى الفاحشة الكبرى. والنظر إلى الحرام هو الفتنة المنتشرة في هذا الزمن سواء في الأسواق والطرقات، أو عبر الهواتف الذكية والفضائيات، ويستجلب لها أجمل المذيعات، وبكامل زينتهن وسفورهن وتبرجهن، فيعمل ذلك عمله في القلوب، ويؤثر فيها تأثيرا كثيرا. وهي فتن ومنكرات يرقق بعضها بعضا كما جاء في الحديث. فوجب على أهل الإيمان رجالا ونساء أن يتوبوا إلى الله تعالى جميعا منها، ومن كل الذنوب والآثام. وأن يأمروا بالمعروف، ومنه: الأمر بالتوبة، وينهوا عن المنكر، ومنه: الإصرار على الذنب وعدم التوبة أو التسويف فيها؛ فإن الأمر بالمعروف سبب لحصول التوبة الجماعية، والنهي عن المنكر سبب للإقلاع عن الذنوب، وبه تقع التوبة الجماعية.

وما أحوج أهل الإيمان في هذا الزمن إلى توبة جماعية من ذنوبهم؛ فتتوب الأسرة المسلمة من ذنوبها توبة جماعية، وتطهر بيتها من المنكرات، ويتوب أهل الحي وأهل الحارة وأهل البلد توبة جماعية ترفع بها العقوبات عنهم، ويُرد بها تسلط الأعداء عليهم، وتنتشلهم من الضعف إلى القوة، ومن الذل إلى العزة، ومن الاختلاف إلى الاتحاد، ومن الفرقة إلى الاجتماع، ومن كل شر إلى كل خير، والله تعالى يقبل توبتهم إن هم تابوا، ويبدل حالهم إن هم إليه ثابوا {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} [الشورى: 25- 26].

وصلوا وسلموا على نبيكم....   

 

 

التوبة الجماعية

7 / 6/ 1441هـ

الحمد لله العزيز العليم {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [غافر: 3] نحمده حمدا كثيرا، ونشكره شكرا مزيدا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ عظم حلمه على عباده فأمهلهم، واشتد غضبه على منتهكي حرماته فأملى لهم، حتى إذا أخذهم لم يفلتهم  {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102]، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ نصح لأمته فأرشدها وأنذرها، ورغبها ورهبها، وبين لها ما ينجي العباد يوم القيامة وما يوبقهم، فمن أطاعه نجي وفاز، ومن عصاه خسر وخاب، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واتبعوا أمره فلا تعصوه، وتمسكوا بدينه فلا تفلتوه، وخذوا كتابه بقوة فلا تضعفوا فيه، واجتمعوا عليه ولا تفرقوه {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13].

أيها الناس: تتفاوت المعاصي بالنسبة للعاصي؛ ففيها كبائر وصغائر، وفي الكبائر موبقات تهلك أصحابها. وأما بالنسبة للخالق سبحانه فإن عظمته عز وجل تقتضي الحذر من معصيته، وعدم الاستهانة بها مهما كانت صغيرة في عين صاحبها، قال بِلَالُ بْنُ سَعْدٍ رحمه الله تعالى: «لَا تَنْظُرْ إِلَى صِغَرِ الْخَطِيئَةِ وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى مَنْ عَصَيْتَ».

ولما كان العباد لا ينفكون عن العصيان، وكان عصيانهم إما جماعات وإما فرادى؛ وجب أن يلزموا التوبة في كل أحوالهم وأحيانهم. فإذا عصوا الله تعالى فرادى تابوا فرادى، وإذا عصوه جماعة تابوا جماعة؛ ولذا شرعت التوبة الجماعية، وجاء بها القرآن الكريم، ووقعت في الأمم السالفة، كما فعلها الصحابة رضي الله عنهم؛ وذلك لأن العقوبة إذا نزلت عمت ولم تخص {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: 25] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: «أَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ لَا يُقِرُّوا الْمُنْكَرَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ فَيَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ يُصِيبُ الظَّالِمَ وَغَيْرَ الظَّالِمِ». وجاء في الحديث عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «إِنَّ اللهَ لَا يُعَذِّبُ الْعَامَّةَ بِعَمَلِ الْخَاصَّةِ حَتَّى يَرَوْا الْمُنْكَرَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ وَهُمْ قَادِرُونَ عَلَى أَنْ يُنْكِرُوهُ فَلَا يُنْكِرُوهُ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَذَّبَ اللهُ الْخَاصَّةَ وَالْعَامَّةَ» رواه أحمد.

وأول توبة جماعية وقعت في البشر هي توبة آدم وحواء عليهما السلام لما أكلا من الشجرة، ولا بشر إذ ذاك غيرهما {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ * قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 22-23].

وأخبرنا ربنا سبحانه عن توبة قوم يونس الجماعية حين رأوا بوادر العذاب، فرفع عنهم العذاب بتوبتهم {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [يونس: 98] «فلَمْ تُوجَدْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ بِكَمَالِهَا بِنَبِيِّهِمْ مِمَّنْ سَلَفَ مِنَ الْقُرَى إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ... وَمَا كَانَ إِيمَانُهُمْ إِلَّا خَوْفًا مِنْ وُصُولِ الْعَذَابِ الَّذِي أَنْذَرَهُمْ بِهِ رَسُولُهُمْ، بَعْدَ مَا عَايَنُوا أَسْبَابَهُ، وَخَرَجَ رَسُولُهُمْ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ، فَعِنْدَهَا جَأَرُوا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَاسْتَغَاثُوا بِهِ، وَتَضَرَّعُوا لَدَيْهِ. وَاسْتَكَانُوا وَأَحْضَرُوا أَطْفَالَهُمْ وَدَوَابَّهُمْ وَمَوَاشِيَهُمْ، وَسَأَلُوا اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَرْفَعَ عَنْهُمُ الْعَذَابَ الَّذِي أَنْذَرَهُمْ بِهِ نَبِيُّهُمْ. فَعِنْدَهَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى، وَكَشَفَ عَنْهُمُ الْعَذَابَ وَأُخِّرُوا».

ووقعت التوبة الجماعية في بني إسرائيل أيضا فتاب الله تعالى عليهم بتوبتهم {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 54]. فجعل توبتهم قتلهم لأنفسهم، وذلك بأن يقتل كل من عبد العجل نفسه، وإما بأن يقتل الذين لم يعبدوه من عبدوه «ففَعَلُوا وَقَتَلُوا ثَلَاثَةَ آلَافِ نَفْسٍ، ثُمَّ اسْتَشْفَعَ لَهُمْ مُوسَى فَغَفَرَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُمْ».

ووقعت التوبة الجماعية من الأنصار رضي الله عنهم؛ وذلك حين قُسمت غنائم حنين على المؤلفة قلوبهم، فوجدوا في أنفسهم، وقال بعضهم: «يَغْفِرُ اللَّهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يُعْطِي قُرَيْشًا وَيَتْرُكُنَا، وَسُيُوفُنَا تَقْطُرُ مِنْ دِمَائِهِمْ، قَالَ أَنَسٌ: فَحُدِّثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَقَالَتِهِمْ، فَأَرْسَلَ إِلَى الأَنْصَارِ فَجَمَعَهُمْ فِي قُبَّةٍ مِنْ أَدَمٍ، وَلَمْ يَدْعُ مَعَهُمْ غَيْرَهُمْ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا قَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَا حَدِيثٌ بَلَغَنِي عَنْكُمْ؟ فَقَالَ فُقَهَاءُ الأَنْصَارِ: أَمَّا رُؤَسَاؤُنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَلَمْ يَقُولُوا شَيْئًا، وَأَمَّا نَاسٌ مِنَّا حَدِيثَةٌ أَسْنَانُهُمْ فَقَالُوا: يَغْفِرُ اللَّهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْطِي قُرَيْشًا وَيَتْرُكُنَا، وَسُيُوفُنَا تَقْطُرُ مِنْ دِمَائِهِمْ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَإِنِّي أُعْطِي رِجَالًا حَدِيثِي عَهْدٍ بِكُفْرٍ أَتَأَلَّفُهُمْ، أَمَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالأَمْوَالِ، وَتَذْهَبُونَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى رِحَالِكُمْ، فَوَاللَّهِ لَمَا تَنْقَلِبُونَ بِهِ خَيْرٌ مِمَّا يَنْقَلِبُونَ بِهِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ رَضِينَا» متفق عليه. وفي رواية لأحمد قال صلى الله عليه وسلم: «أَفَلَا تَرْضَوْنَ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالشَّاةِ وَالْبَعِيرِ، وَتَرْجِعُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ فِي رِحَالِكُمْ؟ فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْلَا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنَ الْأَنْصَارِ، وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ شِعْبًا، وَسَلَكَتِ الْأَنْصَارُ شِعْبًا لَسَلَكْتُ شِعْبَ الْأَنْصَارِ، اللَّهُمَّ ارْحَمِ الْأَنْصَارَ، وَأَبْنَاءَ الْأَنْصَارِ، وَأَبْنَاءَ أَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ، قَالَ: فَبَكَى الْقَوْمُ حَتَّى أَخْضَلُوا لِحَاهُمْ، وَقَالُوا: رَضِينَا بِرَسُولِ اللَّهِ قِسْمًا وَحَظًّا». فتابوا جميعا من مقالتهم وجدتهم على النبي صلى الله عليه وسلم، وأعلنوا رضاهم به عليه الصلاة والسلام.

وفي غزوة تبوك تخلف عدد من الصحابة رضي الله عنهم عنها فأنزل الله تعالى فيهم قرآنا بعدما تابوا، قال ابن عباس رضي الله عنهما: «كانوا عشرة رَهْطٍ تخلّفوا عن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فلما حضرَ رُجوع النبي صلى الله عليه وسلم، أوثق سبعةٌ منهم أنفسهم بسواري المسجد، فكان ممرّ النبي صلى الله عليه وسلم إذا رجع في المسجد عليهم، فلما رآهم قال: من هؤلاء الموثِقُون أنفسهم بالسواري؟ قالوا: هذا أبو لبابة وأصحابٌ له تخلفوا عنك يا رسول الله، وحلفوا لا يطلقهم أحد حتى تطلقهم وتعذرهم. فقال النبي عليه السلام: وأنا أقسم بالله لا أطلقهم ولا أعذرهم، حتى يكون الله هو الذي يطلقهم، رغبوا عني وتخلفوا عن الغزو مع المسلمين! فلما بلغهم ذلك قالوا: ونحن لا نطلق أنفسنا حتى يكون الله الذي يطلقنا! فأنزل الله تبارك وتعالى: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 102] وعسى من الله واجب. فلما نزلت أرسل إليهم النبي صلى الله عليه وسلم فأطلقهم وعَذَرَهُم» رواه الطبري.

نسأل الله تعالى أن يمن علينا بتوبة نصوح، وأن يتوب علينا إنه هو التواب الرحيم.

وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم...

 

الخطبة الثانية

 الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.

 أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وتوبوا إليه واستغفروه {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 39].

أيها المسلمون: أمر الله تعالى المؤمنين بالتوبة الجماعية في قوله سبحانه {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31]. وهذه الجملة الآمرة للمؤمنين بالتوبة جميعا ختمت بها آية الأمر بغض الأبصار، وحفظ الفروج، وضرب الحجاب على النساء، ونهيهن عن إبداء زينتهن، وسر ذلك -والله أعلم- أن ذلك متعلق بالغرائز البشرية التي لا انفكاك للمرء عنها إلا بمجاهدة شديدة، ويقع منه ما يقع من اللمم؛ فإن استرسل فيه قاده إلى ما هو أعظم، حتى يصل به إلى الفاحشة الكبرى. والنظر إلى الحرام هو الفتنة المنتشرة في هذا الزمن سواء في الأسواق والطرقات، أو عبر الهواتف الذكية والفضائيات، ويستجلب لها أجمل المذيعات، وبكامل زينتهن وسفورهن وتبرجهن، فيعمل ذلك عمله في القلوب، ويؤثر فيها تأثيرا كثيرا. وهي فتن ومنكرات يرقق بعضها بعضا كما جاء في الحديث. فوجب على أهل الإيمان رجالا ونساء أن يتوبوا إلى الله تعالى جميعا منها، ومن كل الذنوب والآثام. وأن يأمروا بالمعروف، ومنه: الأمر بالتوبة، وينهوا عن المنكر، ومنه: الإصرار على الذنب وعدم التوبة أو التسويف فيها؛ فإن الأمر بالمعروف سبب لحصول التوبة الجماعية، والنهي عن المنكر سبب للإقلاع عن الذنوب، وبه تقع التوبة الجماعية.

وما أحوج أهل الإيمان في هذا الزمن إلى توبة جماعية من ذنوبهم؛ فتتوب الأسرة المسلمة من ذنوبها توبة جماعية، وتطهر بيتها من المنكرات، ويتوب أهل الحي وأهل الحارة وأهل البلد توبة جماعية ترفع بها العقوبات عنهم، ويُرد بها تسلط الأعداء عليهم، وتنتشلهم من الضعف إلى القوة، ومن الذل إلى العزة، ومن الاختلاف إلى الاتحاد، ومن الفرقة إلى الاجتماع، ومن كل شر إلى كل خير، والله تعالى يقبل توبتهم إن هم تابوا، ويبدل حالهم إن هم إليه ثابوا {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} [الشورى: 25- 26].

وصلوا وسلموا على نبيكم....   

 

 

أعلى