تمكين المواهب والكفاءات فريضة شرعية وحضارية
لا يولد أحد وهو يحمل العلم بين جنباته ،فالعليم سبحانه وتعالى هو الذي علم آدم الأسماء كلها :}وَعَلَّمَ آدَمَ الأسماء كُلَّهَا{ [البقرة: 31]، وكذلك عندما خرجت الأجنة من بطون أمهاتها لم تكن تعلم شيئا فجعل لها المولى الأدوات والوسائل التي تتعلم بها، والتي تساعدها في تحصيل العلم، قال تعالى : }والله أَخْرَجَكُم مّن بُطُونِ أمهاتكم لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ{ [النمل: 78] ،ثم أمر -سبحانه وتعالى- بالقراءة الشاملة المستضيئة بنور الوحي والعلم والإيمان؛ لكي نتحصل على العلم النافع من مصادره:} اقرأ باسم رَبّكَ{ [العلق: 1] "إلى غير ذلك من الأمور التي كانت البداية الحقيقية لكل المعارف الإنسانية على وجه الأرض، ولكن هناك طائفة من الناس قد منحها الله مواهب وقدرات خاصة في مجال العلم والمعرفة بل وفي مجال التعامل مع الناس، والوقائع والأحداث، مع تميز كل إنسان بخصيصة وميزة تجعله مختلف عن الآخر، ولكن هذه القدرات والمواهب تتفاوت في المقدار ،فالناس متفاوتون في خلقتهم، وطبائعهم، وقدراتهم، وإدراكاتهم، وقوة أبدانهم وعقولهم، و تلك هي حكمة الله في كونه.
إن هذه المواهب وتلك الكفاءات تستوجب الشكر من قبل صاحبها، وذلك بالحفاظ عليها واستخدمها في مجالها بطريقة مشروعة تنفع البشرية كلها، كما تستوجب أن ينسب تلك الموهبة إلى مانحها، ولا يتكبر بها على أحد، فالكياسة والذكاء والفطنة بقدر الله، قال -صلى الله عليه وسلم -: «كل شيء بقدر ، حتى العجز والكيس » (رواه مسلم) .
وتستوجب المواهب كذلك شكر المجتمع، حيث جعل الله هذه المواهب لتكون سببا لرقي المجتمعات وتقدم الأمم، وشكر المجتمع يكون بتمكين أصحاب المواهب والكفاءات؛ لأن وضع كل صاحب موهبة وكفاءة في المكان المناسب وفي الوقت المناسب دون تأخير فريضة شرعية وحضارية، ومن يؤخر أو يعوق صاحب موهبة وكفاءة بسبب المجاملات أو الأمور الشخصية أو أي سبب آخر يأثم، لأن إعاقة أصحاب المواهب والكفاءات يكلف الأمة الكثير ويعرقل تقدمها الحضاري، وهذه من أكبر الجرائم التي ترتكب في حق البشرية كلها؛ من أجل ذلك كان اهتمام الإسلام بأصحاب المواهب والكفاءات كبيرا، ابتداء من اكتشاف الموهبة ثم تنميتها وتوظيفها، فموهبة القيادة والريادة اكتشفها الرسول - صلى الله عليه وسلم- في أسامة بن زيد فجعله قائدا على جيش فيه أبو بكر وعمر-رضي الله عنهما- وفي مواجهة أكبر قوة وقتئذ وهي الروم، وفي مجال موهبة التفقه والمعرفة يكتشف -صلى الله عليه وسلم- حبر الأمة ابن عباس-رضي الله عنهما- ويدعو الله له أن يفقه في الدين ويعلمه التأويل، وفي مجال اللغة والفكر يأمر زيد بن ثابت صاحب الذهنية الحاضرة ليتعلم لغة اليهود واللغة السريانية فيتعلم اللغتين في وقت قصير جدا خمسة عشر يوما، فيصبح متقننا لها، وفي موهبة الحفظ وسعة الاستيعاب وسرعة البديهة والحضور الذهني نرى القاموس الحديثي -إن صح التعبير- أباهريرة كيف اكتشف موهبته - صلى الله عليه وسلم- ونماها عن طريق المصاحبة والملازمة حتى حفظ ما يقرب من (5374)حديثا... وهكذا نرى حرص الإسلام على اكتشاف الموهبة وتنميتها وتمكنها، ولو نظرنا في الحديث الذي رواه أنس بن مالك- رضي الله عنه- لوجدنا التوظيف الصحيح للمواهب والكفاءات في جميع المجالات، قال- صلى الله عليه وسلم-: "أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم في دين الله عمر، وأصدقهم حياءً عثمان، وأقضاهم علي بن أبي طالب، وأقرؤهم لكتاب الله أبي بن كعب، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأفرضهم زيد بن ثابت، ألا وإن لكل أمة أميناً وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح"( صحيح ابن حبان).
إن تمكين أصحاب المواهب والكفاءات من أهم الموضوعات التي يجب علينا أن نواليها رعاية واهتماما للدفع بأمتنا إلى الأمام، وذلك من الممكن أن يتم عن طريق:
1- ضرورة إدارة المواهب البشرية، وتوفير نهج منظم لجذب أصحاب المواهب والمهارات وتنميتها وتطويرها وتوظيفها؛ لتفجير الطاقات الكامنة والاستفادة منها.
2- وضع الأشخاص المناسبين ذوي المهارات المناسبة في المكان المناسب وفي الوقت المناسب.
3- ضرورة متابعة تطور أصحاب الكفاءات، عن طريق هيئة مختصة.
4- توفير امتيازات مادية ومعنوي لأصحاب المواهب والكفاءات، مع الاهتمام بالأبحاث المتعلقة بتنمية الموارد البشرية.
5- العمل على زيادة القدرة الروحية والعلمية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية لدى أصحاب الكفاءات والمواهب.
6- زيادة قدرة الأفراد أو الجماعات على اتخاذ خيارات وتحويل تلك الخيارات إلى الإجراءات والنتائج المطلوبة تجاه المواهب البشرية.
7- نزاهة السياق التنظيمي والمؤسسي الذي يتولى اكتشاف وتطوير وتوظيف أصحاب المواهب والكفاءات.
8- إخلاص النية في كل عمل، وبذل أقصى جهد من أجل الوصول إلى الاستثمار البشري الرشيد فيما ينفع الناس في حياتهم ويحقق لهم السعادة.