تبارك الله رب العالمين
الحمد لله الولي الحميد، الكريم المجيد؛ سبحانه وبحمده، وتبارك اسمه، وتعالى جده، ولا إله غيره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له {فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} [الزخرف: 84] وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ كان غزير المعرفة بالله تعالى، شديد التعظيم له سبحانه، ويذكره عز وجل في كل أحيانه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وأكثروا من ذكره عز وجل وتعظيمه؛ فإنه الرب الإله العظيم، الخلّاق القدير العليم، الجبار القهار الحكيم؛ خلقنا ولم نك شيئا، ورزقنا ولا نملك شيئا، وعلمنا وكنا لا نعلم شيئا، وهدانا لدينه، ووفقنا لاتباع شرعه، ولولاه سبحانه ما خُلقنا ولا رُزقنا ولا عَلِمنا ولا هُدينا {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: 18].
أيها الناس: البركة كلها لله تعالى، ومنه سبحانه البركة، فهو المبارك عز وجل، ومن ألقى عليه بركته فهو المبارك؛ ولهذا كان كتابه مباركا، وبيته الحرام مباركا، والأزمنة والأمكنة التي شرفها واختصها عن غيرها مباركة. وشرع للمصلي إذا انصرف من صلاته أن يقول «اللهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ وَمِنْكَ السَّلَامُ، تَبَارَكْتَ ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ» «فهو سبحانه المتبارك في ذاته الذي يبارك فيمن شاء من خلقه». والبركة كثرة الخير ودوامه، ولا أحد أحق بذلك وصفا وفعلا منه تبارك وتعالى.
وقد ذُكر تباركُه سبحانه في مواضع عدة من كتابه الكريم، كلها تدل على عظمته وقدرته ورحمته بخلقه عز وجل:
فذُكِر تباركُه سبحانه في مقام تقرير ربوبيته تبارك وتعالى، بدلائل خلقه وتدبيره وتسخيره عز وجل، للبرهان بخلقه على أمره سبحانه؛ فالخلق خلقه، والأمر كله له، سواء كان أمرا كونيا واقعا لا محالة وإن رغم كل الخلق، أم كان أمرا شرعيا اختياريا، فوجب أن يكون له وحده سبحانه لا شريك له، فيمتثل لأمره الشرعي أهل الإيمان والطاعة، فيثابون عليه أجزل الثواب، ويعرض عنه أهل الكفر والنفاق والمعصية فيعاقبون عليه أشد العقاب، وهذا الوصف لله تعالى جاء في قوله سبحانه {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 54].
وذُكِر تباركُه سبحانه في مقام بيان ملكه وقهره وقدرته عز وجل، وابتلائه لعباده وتحديهم وتعجيزهم {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ * الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ} [الملك: 1 - 4].
وذكر تباركه سبحانه في مقام بيان جملة من آلائه على عباده؛ ليعلموا أن تسيير الكون، وتسخير ما في الأرض لهم، وإغداق النعم عليهم؛ غايتُه هي عبادة الله تعالى وحده لا شريك له {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ * ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ * كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ * اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [غافر: 61 - 64].
وذُكِر تباركُه سبحانه في مقام ذكر عجائب صنعه، وتدبيره في خلقه، مما تشخص فيه الأبصار، وتحار فيه الألباب، ويدعو العبد للتفكر والشكر لرب العالمين {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان: 61- 62].
وذُكِر تباركه سبحانه في مقام ذكر خلق الإنسان، وانتقاله من طور إلى طور في بطن أمه، ثم انتقاله في الدنيا من طور إلى طور حتى يموت؛ وذلك لأن الإنسان مقصود بالعبودية، وهي العلة من خلقه ووجوده في الدنيا، وهو مطالب بها، ومثاب أو معاقب عليها، ومعرفته لأطوار خلقه مما يدله على ربه سبحانه، ويُعرِّفه بعظمته عز وجل، ويزيد في إيمانه {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 12 - 14].
وذكر تباركه سبحانه في مقام بيان سعة ملكه وعلمه عز وجل، وتصرفه في خلقه بما يشاء {وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [الزخرف: 85].
وذكر تباركه سبحانه في مقام بيان كرمه وجلاله، وذلك في ختام سورته التي سميت باسمه عز وجل، وهي سورة الرحمن؛ فبعد أن ذكر سبحانه جملة من أوصافه وآياته، وما أعده تعالى للمؤمنين في جناته، مما يدل على جزيل عطائه وعظيم كرمه؛ ختمها بقوله سبحانه {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 78].
وذكر تباركه سبحانه في مقام بيان نفاذ مشيئته وإِرادته عز وجل، والرد على المشركين المستكبرين الذين يريدون أن يُبعث الرسول على أوصافهم وأهوائهم {تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا} [الفرقان: 10].
وذكر تباركه سبحانه في مقام بيان تنزل القرآن وعظمته وشرفه، وأنه نذير للناس، وبيان ربوبية الله تعالى وألوهيته وقدَره وقدرته عز وجل {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان: 1، 2].
فهذه هي المواضع التسعة من القرآن الكريم التي ذكر فيها تبارك الرب جل وعلا، من مرَّ بها في قراءته فيحسن به تأملها، وإمعان النظر في معانيها؛ ليظهر له شيء من عظمة ربنا تبارك وتعالى.
نسأل الله تعالى أن يعلمنا ما ينفعنا، وأن يرزقنا العمل بما علمنا، وأن يكتبنا في عباده الصالحين، وحزبه المفلحين، إنه سميع مجيب.
وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله وأطيعوه {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [البقرة: 281].
أيها المسلمون: من تأمل بعين البصيرة الآيات التي ذكر فيها تبارك الرب سبحانه وتعالى، ونظر إلى سياقاتها؛ علم ما فيها من العلم والعمل، فيعلم ربوبية الله سبحانه وتعالى وتفرده بالخلق والتدبير والتسخير والقهر والتقدير، ويعلم ألوهيته عز وجل وأنه لا معبود بحق سواه؛ فمن تبارك بذاته، وبارك مخلوقاته؛ لحري أن يمتلئ القلب به عبوديةً وذلا ومحبة وتعظيما ورجاء وخشية، وأن يفرد بالعبادة وحده لا شريك له، وحري أن يطاع فلا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر.
ومن أيقن بمباركة الله تعالى ما شاء من خلقه طلب البركة منه في نفسه وأهله وولده وماله ووقته؛ وذلك بطاعته عز وجل، والبعد عن معصيته، وكثرة قراءة القرآن وحفظه وتدبره والعمل به؛ فإنه كتاب مبارك، تلحق البركة كل من لزمه وتمسك به {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29].
وإذا بارك الله تعالى عبدا تعدى نفعه غيره، وبلغت بركته آفاق الأرض، وقد قال المسيح عليه السلام {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ} [مريم: 30- 31]. وهذا يفسر بركة دعوات الرسل عليهم السلام؛ فهي قد بقيت على مرِّ التاريخ، وعمت أرجاء الأرض، كما حج الناس بأذان الخليل عليه السلام قريبا من أربعة آلاف سنة، ووحدوا الله تعالى بدعوة حفيده محمد صلى الله عليه وسلم ألفا وأربع مئة سنة، بينما ظهرت دعوات باطلة كثيرة؛ اشتعلت وانتشرت واشتهرت ثم طفئت، وما الشيوعية والاشتراكية عنا ببعيد!!
وتأملوا بركة بعض العلماء في الإسلام بما أنتجوا من إنتاج كثير في عمر قليل، وتأملوا دعوة بعض الدعاة وكيف غلبت جيوش المنصرين، وانظروا إلى جهود علماء السنة في نشرها وكيف غلبت بجهد قليل بدع المحرفين المخرفين، لكنها بركة إصابة الحق.
وانظروا إلى البركة في الإسلام وهو ينتشر انتشارا عظيما حير الأعداء وأعجزهم وقطعهم؛ لأنه دينُ من تَبارك بذاته سبحانه، وبارك الدعاة لدينه ببركته. وكم من عمل قليل لكنه حق باركه الله تعالى فلا تحصى بركته، وكم من عمل كثير، وجهد عظيم، وخطط جبارة لأهل الباطل ذهبت هباء منثورا؛ لأن البركة منزوعة منها بسبب أنها ضد دينِ من تَبارك وتعالى، وفي ذلك آيات للمتوسمين. فلا يجزعن أحد على حق يراه يضعف، ولا على باطل يراه ينتفش؛ فالحق مبارك يثبت نماؤه، والباطل ممحوق قد حق إزهاقه بقول من تبارك وتعالى {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء: 81].
وصلوا وسلموا على نبيكم...