مظاهر تلوث المياه من خلال التراث النوازلي
الصرف الصحي نموذجا
يعتبر التلوث مصدراً خطيراً يهدد كل مكونات البيئة، مما يسهم في التأثير سلباً وبشكل أخص على المناخ الذي أصبح لحظة بعد لحظة يستغيث بكل الفاعلين في الحفاظ على البيئة من مختلف التخصصات.
وفي هذا السياق سأتناول قضية من الأهمية بمكان، تتعلق بالمكون الأساس للبيئة المتمثل في الماء، فإذا كنا نرى اليوم أشكالا متعددة من تلويثه، فإن النوازل الفقهية، رصدت لنا جملة من المسائل التي كانت تلوث بعضا من مكونات البيئة.
فما المقصود بالتلوث المائي خاصة؟
يعد تلوث الماء من أخطر المشكلات البيئية التي يواجهها العالم اليوم، ويقصد به "إحداث تلف أو فساد لنوعية الماء، مما يؤدي إلى حدوث خلل في نظامها الإيكولوجي بصورة أو بأخرى، وهو ما يقلل من قدراتها على أداء دورها الطبيعي". [1]
مما يجعلها غير صالحة للإنسان أو الحيوان أو النبات، أو الأحياء التي تعيش في المسطحات المائية"
وإذا اتضح الآن مفهوم تلويث الماء، فإننا نجد الفقهاء قديما كان لهم حرص على الحفاظ على الماء من التلوث، وعلى سبيل المثال نسلط الضوء على دراسة هذه النازلة المتعلقة بـ تلويث الماء بالصرف الصحي
نص النازلة:
سئل ابن رشد: عن ماء جار في جنات وعليه أرحى، وأهل الجنات يسقون منه لثمارهم، ويصرفونه في منافعهم وشرابهم. فبنى بعضهم كرسيا للحدث، واحتج بأنه لا يغيره لكثرته، وقال الآخرون يقذره وينغصه علينا هل له ذلك أم لا؟
فأجاب: الحكم بقطع هذا الضرر واجب، قام به أهل الجنات أو غيرهم ممن يحتسب، وعلى الحاكم النظر فيه، إذا اتصل به الخبر، وإن لم يقم به أحد، فيبعث العدول إليه، فإن ثبت عنده وجب زواله وتغيره لما فيه من الحق لجماعة المسلمين بما هو خارج ولا يسعه السكوت عن ذلك.[2]
2: فقه النازلة:
إن هذه النازلة تبين ما يمكن أن يؤول إليه أمر الماء إن كان ملوثا، وذلك حين يتعلق بوجود "كرسي للحدث"، أي: -المرحاض بالمفهوم العصري -مجاور للحقول. والحال أن صاحب الجنات يحتاجون لذلك الماء في تدبير منافعهم من السقي والشرب وغير ذلك. فتضمن جواب النازلة منع هذا السلوك الخطير لتلويث الماء، باعتباره ضررا، يجب منعه تغليبا للمصلحة العامة على المصلحة الخاصة، وإحداث الضرر بهذا المورد الهام وتغيره وتشويهه يعتبر أمرًا منهيًا عنه في الإسلام.
وفي النازلة، إشارة إلى كون هذا الماء يجري، وهو بمثابة الأنهار التي هي شرايين الحياة، وهو عام لجميع الناس.
ومما سلف، نستنتج أن الفقهاء أجمعوا على أن - منع الملوثات من الوصول إلى المياه الصالحة للاستعمال - واجب شرعي. وأي ضرر يلحق المصدر المائي سواء كان نهرا أو عينا يجب قطعه.
من خلال ما سبق، نجد الشريعة الإسلامية تحث على المحافظة على الماء وحمايته من كل أشكال التلوث.
وفي هذا المقام، نجد عدة أحاديث ورد النهي فيها عن تلوث الماء، منها:
- قوله صلى الله عليه وسلم: «اتقوا الملاعن الثلاث: البراز في الماء، وفي الظل، وفي طريق الناس» [3]
وجه الاستدلال من الحديث:
أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الملاعن الثلاث، ومنها: التبرّز في الماء، والنهي للتحريم، كما أن اللعن لا يكون إلا على فعل محرم، ومن هنا، يجب اجتناب التبول في الماء، لأنه لا يؤدي إلى تلوث المياه بالطفيليات والروائح الكريهة فحسب، بل يتسبب ذلك في استهلاك الأوكسجين الذائب في المياه مما تؤثر في حياة الكائنات التي تعيش فيه [4]
ومن السنة الفعلية، ورد أنه صلى الله عليه وسلم «كان إذا أراد قضاءَ حاجته أبعدَ».[5]
فبُعدُه صلى الله عليه وسلم عن تجمعات الناس في قضاء حاجته يمثل تصوّرا وحلاّ لمشكلة الصرف الصحي التي يعاني منه المجتمع المعاصر، وهذا الحل يتجلى في إبعاد مجاري الصرف الصحي إلى أمكنة نائية، بحيث لا يعود لها أثر سلبي على أي جانب من الجوانب البيئية المختلفة.
ولما كان التلوث المائي يتسبب في حالات كثيرة في قتل الأحياء، فإن درء هذا التلوث واجب، استناداً إلى القاعدة الأصولية التي تقول:" ما أدى إلى الحرام فهو حرام".
وحتى لا يكون مثل هذا الحكم خاصا بنازلة معينة، وضع علماء الغرب الإسلامي قاعدة ذهبية صالحة لكل زمان ومكان، تتجلى في أن للإمام أو من ينوب عنه الحق في منع كل ما يلوث المياه حفاظا على صحة الإنسان من الأمراض، علما أن هذا النوع من التلوث في النازلة يصطلح عليه في عصرنا الحالي "بالتلوث الحيوي"، الذي يحتوي على البكتيريا المسببة للأمراض والفيروسات والطفيليات، والأحياء المجهرية الأخرى في الماء، ومصدر هذه الملوثات فضلات الإنسان والحيوان ومياه المجاري، إذ تنتقل إلى الماء إذا اختلط بمياه الصرف الصحي أو مياه الصرف الزراعي، مما يؤدي إلى إصابة الإنسان بأمراض عديدة مثل الكوليرا والتيفويد[6]
وبالتأمل في مصادر تلوث المياه، فإن هذا لا يقتصر على مياه المجاري، [الصرف الصحي] فقط، بل ينتج أيضا عن المصادر التالية:
ـ النفايات الصناعية: حيث أصبحت الأنهار في كثير من المناطق الصناعية مصارف للملوثات الصناعية الكيميائية وغيرها.
ـ المصادر المحلية والمنزلية: وهي ما يلقى في المياه من أقدار مختلفة كالقمامات وغيرها من الملوثات البترولية.
ـ المصادر الزراعية: حيث أدى التوسع في استخدام الأسمدة الكيميائية والمبيدات الحشرية في الأغراض الزراعية إلى تسرب جزء منها إلى مياه الأنهار وتلويثها.[7]
وهناك أنواع عديدة أخرى من ملوثات البيئة المائية من أشدها فتكا بمكونات هذه البيئة، الزئبق [8]، والرصاص [9]، والكادميوم [10] ... ونحو ذلك من العناصر الفلزية المنتشرة والمستعملة في أنواع الصناعات.
ولا يخفى أن إلقاءها في المياه هو أشد ضررا وأعظم فسادا على كل الكائنات، خاصة صحة الإنسان.
[1] فهد بن عبد الرحمن الحمودي، حماية البيئة والموارد الطبيعية في السنة النبوية، كنوز إشبيليا للنشر، الرياض، 1425هـ 2004م، ص:93.
[2] أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد الجد، فتاوى، تحقيق، المختار بن طاهر التليلي دار الغرب الإسلامي، 1407هـ 1987 م ،1/ 1330 ـ 1331
[3] الإمام الحافظ أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني الازدي 1999م سنن أبي داود،،دار الحديث 1420هـ كتاب الطهارة، باب المواضع التي نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن البول فيها، رقم:26.
[4] محمد عبد القادر الفقي، مكتبة ابن سينا للنشر والتوزيع والتصدير، د-ت، البيئة مشاكلها وقضاياها وحمايتها من التلوث ص: 68 – 69.
[5] أبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي، سنن النسائي، دار السلام للنشر والتوزيع، الرياض، الطبعة الأولى، 1420هـ كتاب الطهارة، باب الإبعاد عن إرادة الحاجة، رقم:17.
[6] أيوب أنور حمد سماقه يي، البيئة والتنمية المستدامة، مكتب التفسير للنشر والإعلام، أربيل، الطبعة الأولى1426 هـ 2006 م ص:62.
[7] الدكتور فؤاد حسن صالح، الدكتور مصطفى محمد أبو قرين، تلوث البيئة أسبابه أخطاره مكافحته، الهيئة القومية للبحث العلمي طرابلس 1992م. ص: 200