الانتصار للسنة النبوية (السنة من خصائص الأمة)

الانتصار للسنة النبوية (السنة من خصائص الأمة)


الحمد لله العلي الأعلى {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى * وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى * فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى} [الأعلى: 2 - 5]، نحمده حمد الشاكرين، ونستغفره استغفار التائبين، ونسأله من فضله العظيم، فهو الجواد الكريم، البر الرحيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ ابتلى عباده بدينه، فمنهم من قبله ومنهم من أعرض عنه، ويوم القيامة يجزون بأعمالهم {فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأنعام: 48- 49]، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وتركنا على بيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وتمسكوا بالكتاب والسنة، واحذروا المعصية والبدعة، واعلموا أن الجزاء لمن أطاع رضوانٌ وجنة، وأن العقاب لمن عصى نبذٌ في الحطمة {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ * نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ * إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ * فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ} [الهمزة: 5 - 9].

أيها الناس: حين جعل الله تعالى أمة الإسلام خاتمة الأمم، وختم بشريعتها الشرائع كلها، وختم بنبيها النبوة فلا نبي بعده؛ اختصها بخصائص كثيرة، ولا عجب في ذلك؛ فهي خير أمة أخرجت للناس ما دامت مقيمة لأمر الله تعالى، محافظة على دينه سبحانه، ملتزمة بشرعه عز وجل. ولأن دينها يبقى إلى آخر الزمان فقد تأذن الله تعالى بحفظه، وهيأ الأسباب الشرعية والقدرية لذلك الحفظ {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9].

ومما اختصت به هذه الأمة المباركة: حفظ سنة نبيها صلى الله عليه وسلم، وتناقلها عبر الأجيال والقرون، وتنقيتها مما حاوله الأعداء من الدس فيها. ولأجل هذه المهمة الجليلة أفنى علماء جهابذة نقاد حياتهم كلها في تتبع السنة والأثر وضبطه وتدوينه. وما عرف عن أمة من الأمم أنها تناقلت أقوال نبيها وأفعاله وتقريراته كما فعلت أمة الإسلام في نقلها لحديث النبي صلى الله عليه وسلم. وأقوال الأئمة متضافرة في ذلك. ولم يستطع أعداء الإسلام من المستشرقين الحاقدين، أو الزنادقة المارقين أن يدفعوا هذه الحقيقة، ولا أن يثبتوا أن أمة أخرى كتابية كانت أم وثنية استطاعت أن تنقل كلام أنبيائها وزعمائها بالسند المتصل إليهم، مع اشتراط أشد الشروط في النقلة للأخبار من جهة العدالة والضبط، ثم نخل هذا المنقول، واكتشاف ما فيه من علل وأخطاء، وتنقيته منها؛ إلا ما كان في السنة النبوية؛ لتكون معينا صافيا لا يكدره شيء.. لا يوجد هذا كله ولا نصفه ولا عشره في أي منقول من الأخبار عند الأمم الأخرى، وقد سمَّى الإمام ابن الصلاح خمسة وستين علما من علوم الحديث، كلها في خدمة وصول حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم كما هو بلا زيادة ولا نقصان، فلا عجب حينئذ إن كان علم الحديث هو أكثر العلوم فروعا وأبوابا وتأليفا، وأشدها دقة وضبطا وإتقانا.    

وعلماء الإسلام كانوا يعلمون اختصاص هذه الأمة بضبط السنة، وتناقل حديث نبيها جيلا بعد جيل، وأن الأمم الأخرى لا تملك شيئا مما تملكه أمة الإسلام في هذا المجال، حتى أهل الكتاب الذين تنزل عليهم الكتاب أضاعوه، فضلا عن تضييعهم لسنن رسلهم عليهم السلام، يقول مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ بْنِ الْمُظَفَّرُ رحمه الله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ أَكْرَمَ هَذِهِ الْأُمَّةَ وَشَرَّفَهَا وَفَضَّلَهَا بِالْإِسْنَادِ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنَ الْأُمَمِ كُلِّهَا، قَدِيمِهِمْ وَحَدِيثِهِمْ إِسْنَادٌ، وَإِنَّمَا هِيَ صُحُفٌ فِي أَيْدِيهِمْ، وَقَدْ خَلَطُوا بِكُتُبِهِمْ أَخْبَارَهُمْ، وَلَيْسَ عِنْدَهُمْ تَمْيِيزٌ بَيْنَ مَا نَزَلَ مِنَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ مِمَّا جَاءَهُمْ بِهِ أَنْبِيَاؤُهُمْ، وَتَمْيِيزٌ بَيْنَ مَا أَلْحَقُوهُ بِكُتُبِهِمْ مِنَ الْأَخْبَارِ الَّتِي أَخَذُوا عَنْ غَيْرِ الثِّقَاتِ. وَهَذِهِ الْأُمَّةُ إِنَّمَا تَنُصُّ الْحَدِيثَ مِنَ الثِّقَةِ الْمَعْرُوفِ فِي زَمَانِهِ، الْمَشْهُورِ بِالصِّدْقِ وَالْأَمَانَةِ عَنْ مِثْلِهِ حَتَّى تَتَنَاهَى أَخْبَارُهُمْ، ثُمَّ يَبْحَثُونَ أَشَدَّ الْبَحْثِ حَتَّى يَعْرِفُوا الْأَحْفَظَ فَالْأَحْفَظَ، وَالْأَضْبَطَ فَالْأَضْبَطَ، وَالْأَطْوَلَ مُجَالَسَةً لِمَنْ فَوْقَهُ مِمَّنْ كَانَ أَقَلَّ مُجَالَسَةً. ثُمَّ يَكْتُبُونَ الْحَدِيثَ مِنْ عِشْرِينَ وَجْهًا وَأَكْثَرَ؛ حَتَّى يُهَذِّبُوهُ مِنَ الْغَلَطِ وَالزَّلَلِ، وَيَضْبِطُوا حُرُوفَهُ وَيَعَدُّوهُ عَدًّا. فَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ. نَسْتَوْزِعُ اللَّهَ شُكْرَ هَذِهِ النِّعْمَةِ، وَنَسْأَلُهُ التَّثْبِيتَ وَالتَّوْفِيقَ لِمَا يُقَرِّبُ مِنْهُ وَيُزْلِفُ لَدَيْهِ، وَيُمَسِّكُنَا بِطَاعَتِهِ، إِنَّهُ وَلِيُّ حُمَيْدٌ. فَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ يُحَابِي فِي الْحَدِيثِ أَبَاهُ وَلَا أَخَاهُ وَلَا وَلَدَهُ. وَهَذَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمَدِينِيُّ، وَهُوَ إِمَامُ الْحَدِيثِ فِي عَصْرِهِ، لَا يُرْوَى عَنْهُ حَرْفٌ فِي تَقْوِيَةِ أَبِيهِ، بَلْ يُرْوَى عَنْهُ ضِدُّ ذَلِكَ. فَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى مَا وَفَّقَنَا»اهـ.

وقال القاضي أبو بكر بنُ العربي رحمه الله تعالى: «والله أكرم هذه الأمة بالإسناد، لم يُعطَه أحد غيرها، فاحذروا أن تسلكوا مسلك اليهود والنصارى فتحدثوا بغير إسناد، فتكونوا سالبين نعمة الله عن أنفسكم، مطرِّقين للتهمة إليكم، وخافضين لمنزلتكم، ومشتركين مع قوم لعنهم الله وغضب عليهم، وراكبين لسننهم»اهـ.

وسبب هذه العناية بالأسانيد لأنها وسائل نقل الأخبار النبوية، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب؛ ولذا عدوا الأسانيد من صميصم الدين، حتى قال الإمام التابعي الكبير مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ رحمه الله تعالى: «إِنَّ هَذَا الْعِلْمَ دِينٌ، فَانْظُرُوا عَمَّنْ تَأْخُذُونَ دِينَكُمْ»

وقال الإمام عبد الله بن المبارك رحمه الله تعالى: «الْإِسْنَادُ عِنْدِي مِنَ الدِّينِ وَلَوْلَا الْإِسْنَادُ لَقَالَ: مَنْ شَاءَ مَا شَاءَ». وقَالَ أيضا: «مَثَلُ الَّذِي يَطْلُبُ أَمْرَ دِينِهِ بِلَا إِسْنَادٍ كَمَثَلِ الَّذِي يَرْتَقِي السَّطْحَ بِلَا سُلَّمٍ». وقال الإمام سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ رحمه الله تعالى: «الْإِسْنَادُ سِلَاحُ الْمُؤْمِنِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ سِلَاحٌ فَبِأَيِّ شَيْءٍ يُقَاتِلُ».

كل هذه النقول تدل على عناية علماء الإسلام وأئمته بنقل السنن والآثار وضبطها. وقد أفنى المحدثون وعلماء الرجال والجرح والتعديل أعمارهم كلها في ذلك؛ لتصل سنة النبي صلى الله عليه وسلم إلينا نقية صافية جاهزة نعمل بها، ولم نتعب في جمعها وتنقيتها. ثم بعد هذا كله يأتي جهلة متفذلكون متكئون على أرائكهم؛ ليطعنوا في السنة، ويشككوا الناس فيها، وإنما مرادهم إبطال دين الإسلام، وإخراج الناس منه، فإياكم أن تصغوا لشبهاتهم؛ فإنما هم دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم قذفوه فيها، وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم منهم بقوله: «يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ دَجَّالُونَ كَذَّابُونَ، يَأْتُونَكُمْ مِنَ الْأَحَادِيثِ بِمَا لَمْ تَسْمَعُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ، فَإِيَّاكُمْ وَإِيَّاهُمْ، لَا يُضِلُّونَكُمْ وَلَا يَفْتِنُونَكُمْ» رواه مسلم.  

نسأل الله تعالى الثبات على الإيمان والسنة، ومجانبة الفتنة والبدعة، والموافاة على الحق المبين، إنه سميع مجيب.

وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم...

 

 

الخطبة الثانية:

  الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.

 أما بعد: فاتقوا الله وأطيعوه {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [البقرة: 281].

أيها المسلمون: للإمام أبي محمد بن حزم كلام فائق في اختصاص الأمة الإسلامية بنقل أقوال نبيها صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته بالأسانيد المتصلة، وهو قد عاش في الأندلس، وعرف اليهود والنصارى عن قرب، وقرأ كتبهم، وجالس أئمتهم وناقشهم وناظرهم، وتخصص في دراسة الملل والنحل، وألف فيها كتابا ضخما، قال عن اختصاص هذه الأمة بنقل الحديث والأثر بالإسناد المتصل دون غيرها من الأمم: «ونحن إن شاء الله تعالى نذكر صفة وجوه النقل الذي عند المسلمين لكتابهم ودينهم لما نقلوه عن أئمتهم؛ حتى يقف عليه المؤمن والكافر، والعالم والجاهل عيانا، فيعرفون أين نَقْلُ سائر الأديان من نقلهم...{ثم ذكر نقل المسلمين للقرآن والصلوات الخمس والصيام والحج، وأن المسلمين لم يختلفوا في أصولها وكيفيتها، إلى أن قال:} وليس عند اليهود ولا عند النصارى في هذا النقل شيء أصلا؛ لأن نقلهم لشريعة السبت وسائر شرائعهم إنما يرجعون فيها إلى التوراة، ويَقطَعُ نَقْلَ ذلك ونَقْلَ التوراةِ إطباقُهم على أن أوائلهم كفروا بأجمعهم، وبرئوا من دين موسى، وعبدوا الأوثان علانية دهورا طوالا... ويقطع بالنصارى عن مثل هذا عدمُ نقلهم إلا عن خمسة رجال فقط، وقد وضح الكذب عليهم إلى ما أوضحنا من الكذب الذي في التوراة والإنجيل القاضي بتبديلهما بلا شك ....{ثم ذكر ابن حزم نقل الحديث والأثر وهو} ما نقله الثقة عن الثقة كذلك، حتى يبلغ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، يخبر كل واحد منهم باسم الذي أخبره ونسبه، وكلهم معروف الحال والعين والعدالة والزمان والمكان، على أن أكثر ما جاء هذا المجيء فإنه منقول نقل الكواف إما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من طرق جماعة من الصحابة رضي الله عنهم، وإما إلى الصاحب، وإما إلى التابع، وإما إلى إمام أخذ عن التابع. يعرف ذلك من كان من أهل المعرفة بهذا الشأن، والحمد لله رب العالمين، وهذا نقل خص الله تعالى به المسلمين دون سائر أهل الملل كلها، وبناه عندهم غضا جديدا على قديم الدهور... في المشرق والمغرب والجنوب والشمال، يرحل في طلبه من لا يحصي عددهم إلا خالقهم إلى الآفاق البعيدة، ويواظب على تقييده من كان الناقد قريبا منه، قد تولى الله تعالى حفظه عليهم، والحمد لله رب العالمين، فلا تفوتهم زلة في كلمة فما فوقها في شيء من النقل إن وقعت لأحدهم، ولا يُمكِن فاسقا أن يُقحِم فيه كلمة موضوعة، ولله تعالى الشكر» انتهى كلامه.

فلنشكر الله تعالى على ما أعطانا من السنة النبوية، وأعظم الشكر أن نعمل بها، ولا نصغي إلى ترهات المشككين فيها، الذين يريدون هدم الدين كله، وإخراج الناس منه، إلى أهوائهم الضالة، وآرائهم الفاسدة.

وصلوا وسلموا على نبيكم...

أعلى