حنش الصنعاني مهندس المساجد في الأندلس
صفاته وأبرز مشاهده:
هو حنش بن عبد الله الصنعاني، نسبة لصنعاء اليمن، ووهم من نسبه لصنعاء الشام[1]، وهو أحد أبناء الفرس في اليمن، الذين أسلموا وحسن اسلامهم. وكان من خيار التابعين، وعداده في المصريين، وكان محدثا ثقة، روى عن علي، وابن عباس، وابن عمر، وابن عمرو، ورويفع بن ثابت، وأبي سعيد، وأم أيمن، وغيرهم، وروى عنه ابنه الحارث، وعلي بن رباح، وبكر بن سوادة، والحارث بن يزيد، وخالد بن أبي عمران، وزياد بن أنعم، وغيرهم، وكان ذا فراسة ونباهة وعلم، وكان كثير العبادة، كثير الصدقة، وكان شجاعا جريئا، يدور مع الحق حيث دار، ولم يكن يخشى في الله لومة لائم، فقد انحاز إلى علي بن أبي طالب، اثناء الفتنة بينه وبين معاوية، ونزل الكوفة، أنذاك، وشارك في قتال الخوارج، وبعد مقتل علي، سنة 40هـ، واستقرار الأمر لمعاوية، قدم مصر، وغزا المغرب، مع رويفع بن ثابت، سنة 47هـ، وشارك في فتح جزيرة جربة في تونس، ثم كان مع معاوبة بن حديج، وشارك في فتح جلولاء سنة 50هـ، ثم كان مع عقبة بن نافع، ولما قتل عقبة، سنة 64هـ، وتغلب كسيلة، على أفريقية، وكثرت جموعه، كان حنش الصنعاني، هو الذي قاد الناس للعودة إلى مشرقهم، حتى لا يستأصلهم كسيلة، وكان ذلك، في ذروة الحرب بين ابن الزبير وعبد الملك بن مروان، على الخلافة، ولم يتردد حنش في مبايعة ابن الزبير، فولاه ابن الزبير على صنعاء، ولكن ولايته عليها لم تطل، فقد قُتل ابن الزبير، سنة 73هـ، بعد ولايته عليها بحوالي أربعة أشهر، ووصل أصحاب الحجاج إليها، فأسروه، وجاءوا به مكبلا، إلى الخليفة الجديد عبد الملك بن مروان، الذي صحت خلافته، بعد مقتل ابن الزبير، فعفا عنه عبد الملك، ولم يمسه بسوء، لصدق لهجته، فانتجع مصر، ثم دخل أفريقية غازيا، للمرة الثانية، فشارك في فتوحاتها، وسكن القيروان، داعية إلى الله، ومعلما ومربيا، واختط بها دارا ومسجدا، وهو أول من ولي عشور أفريقية، ثم غزا الأندلس، مع موسى بن نصير، سنة 93ه، واشترك معه في فتح مدنها، وقسمة غنائمها، وسار معه مجاهدا إلى أقصى الشمال، قبل أن يستقر في سرقسطة. وكان من التابعين، الذين لعبوا دورا مهما، ومؤثرا، في الحياة الدينية، والفكرية، والأخلاقية، والروحية، في المغرب والأندلس، بعد فتحهما[2]، وأخباره كثيرة جدا، وليس هاهنا موضع استقصائها[3].
مهندس المساجد
وقد أشتهر حنش الصنعاني، بصورة خاصة، بتخطيط المساجد، وتحديد قبلتها، ووضع محاريبها، في حواضر المغرب والأندلس، أثناء الفتح، ولذلك فقد اطلق عليه الدكتور عبد الرحمن الحجي لقب "مهندس المساجد في الغرب الإسلامي أثناء الفتح[4]". ففي الأندلس، كان له الدور الأبرز، في تأسيس وتحديد قبلة العديد من المساجد ونصب محاريبها، في حواضره الكبرى، ومن أهم تلك المساجد، مايلي:
- مسجد قرطبة الجامع: والذي تولى حنش الصنعاني وأبو عبد الرحمن الحُبلي تأسيسه وتجديده بالبناء وتقويم محرابه بأيديهما[5]، حيث شاطر الفاتحون المسلمون النصارى فيها، كنيستهم العظمى، المسماة "سانت بنجنت"، فبنوا في شطرهم مسجداً جامعا متواضعا، وبقي الشطر الآخر للنصارى الذمة[6]، وهذا المسجد هو الذي بني عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك، المعروف بالداخل (138-172/756-788) على أنقاضه مسجده الجامع، بعد اتساع قرطبة، وبعد أن استملك الكنيسة كلها، بتعويض ضخم دفعه للنصارى، لكنه مات قبل أن يتمه، فأتمه ولده الأمير هشام الرضا (172-180/788-796)، وقد وسعه من جاء بعدهما، حتى صار من أعظم المنشـات العمرانية فنا وروعة وتعبيرا[7]، وتحول إلى أعظم جامعة في العالم الإسلامي، انجبت المئات من العلماء الأعلام، وكانت مقصدا لطلاب العلم، من كل حدبٍ وصوب، ولا يزال موجودا حتى اليوم، شاهدا على عظمة الحضارة الإسلامية، رغم محاولات الطمس والتشوبه.
- مسجد إلبيرة الجامع: في جنوب الأندلس، على مقربة من غرناطة، وقد استقر المسلمون الفاتحون، من أشراف العرب وغيرهم، في سهول إلبيرة، حول هذا الجامع، قال ابن حيّان: كان يجتمع بباب المسجد الجامع من إلبيرة خمسون حَكمَةَ كلها من فضة لكثرة الأشراف بها[8]. وقد أعاد الأمير محمد بن عبد الرحمن بن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل، خامس ملوك بني أمية في الأندلس (238-273/825-886) بناءه على تأسيس حنش الصنعاني له، وذلك في سنة 250هـ[9]، وكان لهذا المسجد نشاط علمي واسع، حتى عهد الفتنة، وخراب إلبيرة في نهاية الخلافة الأموية في الأندلس، في أوائل القرن الخامس الهجري.
- مسجد سرقسطة الكبير: حاضرة الثغر الأندلسي الأعلى، فقد كان حنش الصنعاني، هو الذي أسسه، ونصب محرابه[10] ، وهو الجامع الذي عُرف، فيما بعد، باسم "الجامع الأبيض"، وقد أعاد الأمير محمد المذكور أعلاه، تجديد بنائه وتوسيعه على تأسيسه الأول، وعند هذه التوسعة، تم هدم الحائط القبلي، عدا المحراب، فإنه احتفر من جوانبه حتى انتُهى إلى قواعده، فاعملت الحيلة في حمله على الخشب إلى الموضع الذي صار فيه، بعد ذلك[11]. وظل هذا المسجد قرونا متوالية، منارا للإسلام وأهله، في هذه النواحي، حتى سقوط علم دولة الإسلام عنها[12].
وكان حنش الصنعاني هذا، قد أشرف قبل ذلك على بناء وتحديد قبلة عدد من المساجد في أفريقية[13] ، منها، مسجدا في القيروان، وهو لا يزال موجودا، ويحمل أسمه، حتى اليوم.
الدقة والاتقان
وقد تميزت تحديد قبلة هذه المساجد الأندلسية بالدقة والاتقان، حيث ظلت كما هي عليه، عبر القرون، رغم الزيادات المتتابعة التي تمت عليها، ولم يرد قط أنه أجري عليها أي تعديل أو تقويم، وذلك رغم بعد المسافة عن مكة، وكون المسلمين كانوا حديثي عهد بهذه البلاد، وأيضا عدم وجود أي وسائل علمية، لتحديد الاتجاهات، في ذلك الوقت. كما بقيت هذه المساجد الجامعة، هي النموج الذي يحتذى، وهي الأساس، لتأسيس المساجد، وتحديد قبلتها، في جميع مدن وبلدات الأندلس، بعد ذلك، طوال تاريخها الإسلامي. وهذا دليل على ماكان يتمتع به حتش الصنعاني، من خبرة في هذا المجال، وهي خبرة لا يتمتع بها إلا كبار المهندسين، في العصر الحاضر، والذين صار يناط بهم تحديد قبلة المساجد، بعد أن تطورت الوسائل والتقنيات الهندسية لتحديد الاتجاهات، ولذلك لم يكن الحجي مبالغا كثيرا، عندما أطلق عليه "مهندس المساجد". وبقيت قبلة هذه المساجد، محتفظة بمكانها على الدوام، ويرجع ذلك إلى أن حنش الصنعاني التابعي الجليل الثقة، وغيره من التابعين، قد تولوا تأسيسها، وقوموا محاريبها بأيديهم، وهم أهل للتأسي والأقتداء والاتباع. ولذلك، فإنه عندما وسوس أهل التعديل للخليفة الحكم المستنصر (350-366/961-976)، بانحراف القبلة القديمة لجامع قرطبة، نحو الغرب، وأرد تعديلها نحو الشرق، حسبما فعله والده الخليفة الناصر(300-350/912-961)، في قبلة جامع الزهراء، وشاور العلماء في ذلك، راجعه الفقيه أبو إبراهيم، وحذره من مغبة المساس بهذه القبلة، فقال له: يا أمير المؤمنين، إنه قد صلى إلى هذه القبلة خيار هذه الأمة من أجدادك الأئمة، وصلحاء المسلمين، وعلمائهم، منذ افتتحت الأندلس، إلى هذا الوقت متأسين بأول من نصبها من التابعين كموسى بن نصير، وحنش الصنعاني، وأمثالهما رحمهما الله تعالى، وإنما فُضِّل من فُضِّل بالإتباع، وهلك من هلك بالإبتداع". فأخذ المستنصر برأي هذا الفقيه، وقال: "نِعم ما قلت، وإنما مذهبنا الاتباع"[14]. وقد أحسنا صنعا بذلك، لأن ذلك كان سيصير سابقة، وتصير قبلة كل مساجد الأندلس القديمة، في موضع شك، وعرضة للتعديل والتغيير، وقد يكون ذلك، بصورة ارتجالية، ومن دون أية ضوابط.
هذا وتوفي حنش الصنعاني، سنة 100ه/718، وكانت وفاته في سرقسطة على الأرجح، قال الحميري: وتوفي حنش هذا، وعلي بن رباح اللخمي، وهما من جلة التابعين بمدينة سرقسطة، وقبراهما فيها معروفان بمقبرة باب القبلة[15]. وكانت وفاته بعد حياة طويلة حافلة بالعطاء، وخدمة للإسلام الحنيف، فقد كان عمره عند وفاته زهاء تسعين عاما.
***
([1]) محمد علي الأكوع، تعليقا على حاشية كتاب قرة العيون للديبع، مكتبة الإرشاد-صنعاء، ط1، 2006م، ص19.
([2]) حول دوره في القيروان، انظر، محمد زيتون: القيروان ودورها في الحضارة الإسلامية، دار المنار–القاهرة، ط1، 1988، ص188-190.
([3]) للمزيد انظر، رشيد العفاقي، تراجم التابعين الذين دخلوا الأندلس (5( حنش الصنعاني، مركز عقبة بن نافع للدراسات والأبحاث حول الصحابة والتابعين، الرابطة المحمدية للعلماء-المغرب، رابط:
http://oqba.ma/Article.aspx?C=5665
[4] الحجي: التاريخ الأندلسي، دار القلم- دمشق، ط5، 1997، ص91.
[5] الغساني، رحلة الوزير، حررها نوري الجراح، (دار السويدي-أبو ظبي، المؤسسة العربية للدراسات–بيروت) ط1، 2002، ص143.
[6] السيد عبد العزيز سالم، المساجد والقصور في الأندلس، مؤسسة شباب الجامعة-اسكندرية، 1986، ص11، وأيضا تاريخ الأندلس، تحقيق عبد القادر بوباية، دار الكتب العلمية-بيروت، ط1، 2007، ص81-82.
[7] الحجي، ص244، 279.
[8] ابن الخطيب، الإحاطة (1/92) ، تحقيق عنان، مكتبة الخانجي-القاهرة، ط2، 1973م.
* حكمة: فسرحا محقق الكتاب بالقول: هي قصبة توضع في فم الدابة لتذليلها وكبح جماحها.
[9] ابن الخطيب، المرجع السابق، وأيضا محمد النعسان، قصور وحدائق الأندلس، دار الكتب العلمية-بيروت، 2017، ص253.
[10] ابن عذاري: البيان المُغْرب (3/98)، تحقيق بروفسنال، دار الثقافة-بيروت، ط2، 1980.
[11] الحميري، صفة جزيرة الأندلس منتخبة من الروض المعطار، تحقيق بروفنسال، دار الجيل-بيروت، ط2، 1988، ص97.
[12] حسين مؤنس، فجر الأندلس، الشركة العربية للطباعة-القاهرة، ط1، 1959، ص103، عبد المجيد نعنعي، تاريخ الدولة الأموية في الأندلس، دار النهضة العربية– بيروت، د.ت، ص64.
[13] الحجي، ص91.
[14] المقري، نفح الطيب (1/562)، تحقيق احسان عباس، دار صادر-بيروت، 1968.
[15] الحميري، ص97.