المد الإسلامي في فرنسا بعد معركة بلاط الشهداء
لا تزال الكثير من الأحداث والوقائع، التي دارت بين المسلمين والفرنجة في غالة (فرنسا) بعد معركة بلاط الشهداء، سنة 114هـ/732م، مجهولة لدى غالبية المسلمين. ذلك أنه رغم مبالغة المؤرخين الإفرنج في تصوير النتائج التي ترتبت على انتصارهم في هذه المعركة، وما نسجوه حولها من أساطير وملاحم، إلا أنها، حقيقة، لم تكن، خاتمة للفتوحات الإسلامية في فرنسا، بل إن المد الإسلامي، هناك، استمر، وظل بين مدٍ وجزر، لمدة ثلاثين عاما، بعد معركة البلاط، وبخاصة في (قاعدة نربونة) الحصينة، الواقعة على الساحل الفرنسي الجنوبي، القريب من شمال شرق الأندلس، فيما وراء جبال البرت.
· استئناف المسلمين للفتوحات في غالة
ثم إن المسلمين المرابطين، في قاعدة نربونة الإستراتيجية، لم يلبثوا أن استوعبوا صدمة تلك الهزيمة القاسية، بعد أن وصلتهم الإمدادات من الأندلس، وتحولوا ، بالتالي، من الدفاع، إلى الهجوم، وذلك، بعد حوالي سنتين، من هزيمتهم، في معركة البلاط، وذلك في مطلع ولاية عقبة بن الحجاج السلولي، على الأندلس (116-123/734–741)، فقد استعاد المسلمون، خلال ولاية عقبة هذا، الطويلة والمستقرة نسبيا، جزءا كبيرا، من مدن وأقاليم، جنوب وجنوب شرقي فرنسا، مما كانوا قد فقدوه، بسبب هزيمتهم في وقعة البلاط، وذلك بقيادة حاكم ثغر نربونة، الذي تسميه مدونة موايساك الكنسية، التي كُتبت بعد حوالي قرن من وقوع معركة البلاط (يوسف) ، والغالب، أنه يوسف الفهري، الذي ستصير إليه ولاية الأندلس، فيما بعد. بينما يذكر آخرون أن والي ثغر نربونة في هذه الفترة، هو عبد الرحمن بن علقمة اللخمي، الموصوف بفارس الأندلس. والمهم أن المسلمين تحت قيادة حاكم نربونة هذا، تمكنوا في سنة 735م/ (117هـ)، من إعادة افتتاح كل من آرل، وأفينيون، وليون، وفالانس، وغيرها على نهر الرون، في شرقي فرنسا، كما توغلوا في بلدات وادي دورانس، واخترقوا مقاطعة دوفينيه، التي تمتد شرقي نهر الرون، وغزوا مقاطعة برجنديا، وغيرها من مقاطعات شرقي فرنسا، واستقروا فيها لفترة من الوقت. وقد تزامنت تلك الفتوحات مع تحالف الدوق، مورونتوس، دوق بروفانس، الواقعة في الزاوية الجنوبية الشرقية، من فرنسا، مع المسلمين، وتعاونه معهم، ضد الطاغية شارل مارتل. وكان لأهل هذه المقاطعة لغتهم، وعاداتهم، وشرائعهم، التي تختلف عن لغة، وعادات، وشرائع الفرنجة، كما كانوا، أكثر تحضرا، ومدنية، من الفرنجة، نظرا لتأثرهم بالرومان، ونظمهم، ونمط حياتهم. أما الفرنجة، وإن كانوا قد تأثروا بالرومان، واعتنقوا المسيحية، إلا أن الجلافة والهمجية والبدائية، كانت لا تزال تطبع سلوكهم، وكانت وطأتهم شديدة على الكنائس ورجال الدين، هذا مع كونهم، لم يكونوا بأصحاب البلاد، بل كانوا غزاة، تملكوها بحد السيف، ولكل ذلك كان أهالي جنوبي غالة، ينزعون للاستقلال عن حكمهم، ومن هنا جاء تحالف الدوق مورونتوس، مع المسلمين في نربونة ضدهم. وهذا دليل آخر، على أن المسلمين ظلوا أقوياء متمكنين، في هذه البلاد، بعد معركة البلاط، ولولا ذلك لما تحالف هذا الدوق معهم.
· جهود شارل المضادة ومعركة بيري
وفي غضون ذلك، كان شارل، يراقب هذه التطورات، ويستعد لمواجهة المسلمين، من جديد، بعد أن ظل خمس سنوات يتحاشى الاصطدام بهم مرة أخرى، بعد معركة البلاط، لما خبره من شجاعتهم، وشدة بأسهم فيها، ولكنه، مع ذلك، لم يخرج لقتالهم هذه المرة، إلا بعد أن تحالف ضدهم، مع لوتبراند ملك اللومبارد، بشمال إيطاليا، وبعدها سار على رأس جيشٍ ضخمِ، إلى شرقي فرنسا، لإخراج المسلمين من المعاقل التي استقروا فيها هناك، مؤخرا، وعند ذلك، أسرع المسلمون بالانسحاب من ليون، الموغلة في الشمال، وتحصنوا في أفينيون المنيعة بجنوبها، فزحف الفرنجة نحوها وهاجموها بضراوة، وظلوا محاصرين لها، حتى سقطت بأيديهم، واضطر المسلمون، نتيجة لذلك، إلى الانسحاب من شرقي فرنسا، والتكتل في نربونة، قاعدتهم الحصينة، فزحف شارل، على رأس جيشه، نحو هذه القاعدة، وضرب الحصار حولها، واشتركت في الحصار، قوات بحرية تابعة لحليفه ملك اللومبارد، نظرا لافتقار الفرنجة لهذا السلاح، آنذاك. ولكن المسلمين المتحصنين بداخل نربونة، قاوموا أشدّ مقاومة، وتصدوا لهجمات شارل العنيفة على تحصينات المدينة، وأحبطوا كل خططه لاقتحامها، وكان ذلك، في ربيع 737م/ (119هـ). وعندما وصلت أنباء هذا الحصار إلى قرطبة، بادر عقبة أمير الأندلس، بإرسال المدد لنجدتها، عن طريق البحر، لتفادى مروره في ممرات البرتات الخطرة، وأيضا لكي يضمن وصوله إلى المسلمين المحاصرين بها، بأسرع ما يمكن. ووصل المدد في الوقت المناسب، ولكنه لم يستطع دخول نربونة، من جهة البحر، ولذلك نزل على الشاطئ، بالقرب منها، ثم زحف نحوها برا، فعلم به شارل، فرفع الحصار عن نربونة، واشتبك مع هذا المدد، ولكن المسلمين ثبتوا، ودارت بينهم وبين الفرنجة معركة شرسة عند شاطئ نهر صغير يسمى (بيري) في جنوبي نربونة، حيث قتل فيها قائد مدد المسلمين، لكن المسلمين بدورهم، فتكوا بقائد جيش الفرنجة لهذه المعركة، وعلى إثر ذلك، انقسمت قوات المدد، إلى قسمين، القسم الأكبر منها استطاع أن يخترق صفوف الفرنجة، وأن يدخل نربونة، فيلوذ بحصانتها، والقسم الآخر عاد إلى المراكب الراسية في البحر، سباحة. وبعد ذلك، عاد شارل لحصار نربونة، من جديد، ولكن حاميتها، قاومت، واستبسلت، وأُجبر شارل، نتيجة لذلك، ولتخوفه من وصول مدد جديد للمسلمين من الأندلس، على تركها والعودة إلى الشمال.
· حملة عقبة بن الحجاج على شرقي فرنسا
بيد أن المكاسب التي حققها شارل في هذه الحملة الضخمة، على جنوب وجنوب شرقي فرنسا، لم تلبث أن تلاشت، ولم يكتسب منها سوى المزيد من سخط أهلها عليه، نظرا للأعمال السوداء، التي فعلها بهم، لموقفهم غير الودي من الفرنجة. وذلك أن عقبة بن الحجاج، أمير الأندلس، لم يلبث أن عبر جبال البرتات على رأس حملة عسكرية ضخمة، إلى جنوب فرنسا، في العام التالي، وتحديدا في ربيع سنة 120هـ/738م، فأتخذ نربونة مركزا لفتوحاته في غالة، وأسكنها جالية من المسلمين، لكي تتولى أمر حمايتها، كما أنه زاد في تحصينها، فقد كان عقبة هذا، قائدا مظفرا ، مثابرا على الجهاد، وذا نجدة وبأس، ولم يلبث أن انطلق من نربونة على رأس قواته، لاسترداد ما انتزعه شارل من القواعد من أيدي المسلمين، في شرقي فرنسا، فاسترد آرل عند مصب نهر الرون، فأفينيون في شمالها، وأعاد افتتاح إقليم بورجونيا كله، وافتتح ليون من جديد، وتوغل في إقليم دوفينيه، حتى وصل إلى بيدمنت في شمالي إيطاليا، وأعاد نفوذ المسلمين في جنوب وجنوب شرقي فرنسا إلى ما كان عليه، من قبل. غير أن جهود عقبة هذه، ضاعت سدى، للأسف، لأنه في غضون ذلك، وتحديدا في أواخر سنة 121هـ (739م)، اندلعت فتنة خوارج البربر في شمال المغرب الأقصى، وراء ظهر جيوش المسلمين الفاتحة، في صقلية وفرنسا، فأجبر عقبة، نتيجة لذلك، على العودة على رأس جيشه إلى قرطبة، ولم يلبث أن توفي هناك، في ظروف غامضة، وقيل أنه استشهد في معركة عند مدينة قرقشونة، في صفر 123هـ/ (كانون أول740م) ، وكانت هذه آخر حملة عسكرية يقوم به المسلمون في العمق الفرنسي، كما كان عقبة آخر القادة الكبار الفاتحين في هذه البلاد. ومهما كان من أمر. فقد انتهز شارل هذا الإعصار المدمر الذي عصف بالمسلمين في المغرب والأندلس، وقاد حملة جديدة على مقاطعات جنوب فرنسا، وأستطاع أن يسيطر على مقاطعة بروفانس وأن يقضي على طموح خصمه العنيد الدوق مورنتوس، كما استطاع أن يخضد شوكة المسلمين فيها، وأن يستولي على سائر المعاقل التي بقيت لهم هناك، فيما عدا نربونة، فإن حاميتها استماتت دفاعا عنها، ودحرته للمرة الثانية، فعاد إلى الشمال خائبا.
· استفحال الفتن في الأندلس وسقوط نربونة
ثم لم يلبث شارل أن مات، في تشرين أول 741م/ (ذو القعدة 123هـ)، ونربونة ثغرة في دولته الواسعة، وبوفاته تراخت قبضة الفرنجة على جنوب فرنسا، نتيجة لاشتعال الحروب، بين أبنائه على وراثته. ولكن المسلمين في نربونة، لم يستطيعوا الاستفادة من هذه الفرصة، لأنهم كانوا قد ضعفوا كثيرا، نتيجة لانغماسهم في الفتن الإقليمية والقبلية، التي توالت على الأندلس. ذلك أنه ما أن انتهت فتنة خوارج البربر المزلزلة، في الأندلس، حتى اندلعت فتنة أشد بين البلدين (العرب الفاتحين)، والشاميين (الداخلين الجدد، الذين عبروا من سبتة على إثر هزيمتهم من قبل خوارج البربر في المغرب، وقضوا على ثورة البربر في الأندلس، ثم استولوا على السلطة في قرطبة)، ثم تلتها الفتنة بين المضرية واليمانية، وكانت أشد وأنكى من سابقاتها. وهذه الفتن العبثية، كلفت المسلمين الكثير من الأرواح، وأسالت الدماء الغزيرة، ومن بينهم دماء الآلاف من جيش نربونة، وكانت، بالتالي، ضربة قاصمة للوجود الإسلامي، في جنوب فرنسا، بل وحتى في شمال الأندلس. ثم أن كلمة الفرنجة في الشمال، لم تلبث أن اجتمعت من جديد، بزعامة ببين القصير بن شارل مارتل، هذا الأخير الذي أعلن نفسه ملكا على الفرنجة، سنة 751م/ (133ه) ، بمباركة البابا زكريا، فكان أول ملوك الكارولنجيين، فأعلنها حربا لا هوادة فيها ضد المسلمين، في نربونة، واستمال إليه سكان جنوب فرنسا القوط، فصاروا أعوانا له على محاصرة القلة المسلمة المتبقية، في نربونة، ونتيجة لذلك، زاد وضع المسلمين فيها حرجا، وأصبحت قاعدتهم محاصرة من كل اتجاه، وراحت الدائرة تضيق حولها، والخناق يشتد عليها، يوما بعد يوم، حتى سقطت أخيرا في أيدي الفرنجة، نتيجة لثورة داخلية قام بها سكانها النصارى القوط، ضد حاميتها المسلمة، بتدبير من ببين القصير، ملك الفرنجة، ومقابل وعود وعدهم بها. وهكذا، وعلى هذه الصورة الحزينة المؤسفة، انتهى الوجود الإسلامي في آخر قاعدة للمسلمين في جنوب فرنسا، وهي قاعدة نربونة، بعد أن ظلت لوحدها تناطح إمبراطورية الفرنج الصاعدة، لمدة عشرين عاما، وبعد أن ضربت حاميتها أروع صور الفداء والتضحية، وكان سقوطها سنة 759 (142هـ)، وفقا لكتب الفرنجة. وبعد أن استولى الفرنجة عليها قاموا بحرق مسجدها الجامع، وإزالة كل أثر للمسلمين فيها.
المصـادر والمراجع
· إبراهيم بيضون، الدولة العربية في أسبانية، دار النهضة العربية-بيروت، ط2، 1406هـ/1986م .
· ابن القوطية، تاريخ افتتاح الأندلس، تحقيق الأبياري (دار الكتاب المصري-القاهرة ، دار الكتاب اللبناني-بيروت)، ط2، 1410هـ/1989.
· أحمد الظرافي، فتنة الخوارج في المغرب وأثرها على الفتوحات الإسلامية في أوروبا (مقال)، مجلة البيان، العدد321، جمادى الأولى1435هـ.
· أرشيبالد لويس، القوى البحرية والتجارية في حوض البحر المتوسط، ترجمة أحمد عيسى، مكتبة النهضة العربية-القاهرة، 1960.
· حسين مـؤنس، فجر الأندلس، الشركة العربية للطباعة-القاهرة، ط1، 1959.
· معالم تاريخ المغرب والأندلس، دار الرشاد-القاهرة 2004.
· الخشني، قضاة قرطبة، مكتبة الخانجي، القاهرة، ط2، 1415هـ/1994.
· خليل السامرائي وآخرون، تاريخ العرب وحضارتهم في الأندلس، دار الكتاب الجديد- بيروت، ط1، 2000.
· السيد عبد العزيز سالم، تاريخ المسلمين وآثارهم في الأندلس، مؤسسة شباب الجامعة-إسكندرية، 2001.
· شكيب أرسلان، تاريخ غزوات العرب في فرنسا وسويسرا وإيطاليا، دار الكتب العلمية-بيروت، د.ت.
· عبد الرحمن الحجي، التاريخ الأندلسي، دار القلم-دمشق، ط5، 1418هـ/1997.
· فرنسوا غيزو، التحفة الأدبية في تاريخ تمدن الممالك الأوروباوية، تعريب حنين خوري، دار الحمراء– بيروت، ط2، 1990.
· لين بول ستانجي ، قصة العرب في اسبانيا، ترجمة علي الجارم، مطبعة المعارف بمصر. د.ت.
· محمد عبد الله عنان، دولة الإسلام في الأندلس، مطبعة لجنة التأليف والترجمة- القاهرة، ط4، مزيدة منقحة، 1389هـ/1969م.
· محمد الغساني ، رحلة الوزير، حررها نوري الجراح، (دار السويدي-أبو ظبي، المؤسسة العربية للدراسات– بيروت) ط1، 2002.
· محمد مرسي الشيخ، دولة الفرنجة وعلاقتها بالأمويين في الأندلس، مؤسسة الثقافة الجامعية- الاسكندرية، 1981/ 1401هـ.
· محمود شاكر، التاريخ الإسلامي-4- العهد الأموي، المكتب الإسلامي (بيروت–عمان– دمشق)، ط7، 1421هـ/2000.
· مجهول، أخبار مجموعة في فتح الأندلس، تحقيق الأبياري، دار الكتاب المصري – القاهرة، دار الكتاب اللبناني- بيروت، ط2، 1410هـ/1989.
· المقري، نفح الطيب، تحقيق إحسان عباس ، دار صادر-بيروت، 1968.
· منى حسن محمود، قاعدة نربونة ودورها في الجهاد ضد الفرنجة، العين للدراسات- القاهرة، ط1.
· نجاة الطلبي، ما بعد بلاط الشهداء، مركز عبادي-صنعاء، ط1، 1422هـ/2001م.
· وفاء المزروع، جهاد المسلمين خلف جبال البرت، مكتبة دار القاهرة-القاهرة، ط1، 2003.