يعاني المسلمون في الهند من مجموعة من التحديات، تتصدرها مسألة الحفاظ على هوية الأجيال الصاعدة. خاصة في ظل إجراءات حكومية تستهدف الأوقاف والمدارس الإسلامية، ما يؤدي إلى تصاعد شعور الاغتراب والعزلة لدى المسلمين ويدفعهم إلى مواجهة تهديدات جدية تمس مستقبلهم وم
يمثل التعليم الركيزة
الأساسية في بناء شخصية الفرد وتشكيل وعيه الديني والثقافي والاجتماعي. وفي بلد
متنوع كالهند، حيث تتعدد الديانات والثقافات، يصبح التعليم أداة بالغة التأثير في
صياغة هوية الأجيال القادمة. غير أن الطالب المسلم
–
ذكراً كان أو أنثى
–
يواجه في غياب المدارس الأهلية والخاصة الإسلامية تحديات كبرى تمس عقيدته ودينه، إذ
تُفرض عليه ممارسات ومناهج لا تنسجم مع عقيدته الإسلامية، مما يخلق حالة من
الاغتراب الديني والثقافي.
ويُعَدّ
التعليم في كل مجتمع بوابةً أساسية لتشكيل الهوية وترسيخ القيم وإعداد الأجيال
لمواجهة تحديات الحاضر والمستقبل. وفي السياق الهندي، حيث تتقاطع التعددية الدينية
والثقافية مع منظومة تعليمية ذات طابع قومي وهندوسي في كثير من جوانبها، يجد الطالب
المسلم نفسه أمام معضلة معقدة. فهو من جهة مضطر إلى الالتحاق بالمدارس العامة من
أجل مواصلة تعليمه والحصول على فرصة مستقبلية، لكنه من جهة أخرى يواجه ضغوطاً يومية
تمس عقيدته وهويته الدينية مباشرة. وتزداد خطورة الأمر مع غياب مدارس أهلية إسلامية
قوية تقدّم بديلاً حقيقياً يجمع بين العلوم العصرية والتربية الإسلامية.
الممارسات العقدية في المدارس لغير المسلمين
أبرز ما يواجهه الطالب
المسلم في حياته اليومية المدرسية هو الطابور الصباحي. ففي معظم المدارس،
يُلزم التلاميذ بالوقوف صفوفاً منتظمة وترديد أدعية وأناشيد تُتلى على طريقة
الـ"پوجا". في هذه اللحظة، يُطلب من التلاميذ المسلمين ضم أيديهم في وضع تعبدي، وهو
رمز واضح للعبادة في الديانة الهندوسية. بالنسبة للطالب المسلم،
هذا الفعل لا يمثل مجرد تقليد مدرسي، بل هو ممارسة دينية تتعارض مع مفهوم الدعاء في
الإسلام القائم على رفع اليدين أو التضرع القلبي لله وحده. ومع تكرار هذه الطقوس
يومياً، يضعف في ذهن الطالب التمييز بين العبادة الصحيحة والطقوس الشركية.
الاحتفالات القومية والدينية
تزداد الضغوط العقدية في
المناسبات الرسمية مثل "غاندي جينتي" أو "أمبيدكر جينتي"، حيث يُلزم الطلاب بوضع
أكاليل الزهور أمام التماثيل. هذا السلوك، الذي يُقدَّم على أنه احترام للرموز
الوطنية، يتعارض جذرياً مع عقيدة التوحيد الإسلامية التي تنهى عن تعظيم التماثيل أو
السجود لها. كذلك، يُطلب من الطلاب إشعال "البتي" أو المصابيح في بداية الاحتفالات،
وهو طقس هندوسي معروف يرمز إلى طرد الظلام الروحي واستدعاء البركة. مثل هذه الطقوس
تُدرج في النظام المدرسي كجزء من الثقافة العامة، لكنها في حقيقتها تحمل بعداً
دينياً مباشراً.
ومن المظاهر الأكثر
إشكالية افتتاح الاحتفالات المدرسية بترتيل "سرسوتي وندنا"، وهو نشيد يتوجّه
بالدعاء إلى الإلهة "سرسوتي" باعتبارها إلهة العلم. هذا يضع الطالب المسلم في موقف
حرج، إذ يُطلب منه أن يشارك في ترديد كلمات تمجّد إلهاً غير الله، وهو ما يمس
عقيدته في الصميم.
الأدعية ذات الطابع غير التوحيدي
ومن التحديات التي تزيد من
عزلة الطلاب المسلمين في النظام التعليمي الهندي أنّ بعض المناهج والطقوس المدرسية
تتضمن عبارات ذات طابع ديني شركي، مثل: "Vina
pustak Ranjit haste, Bhagvat Bharat Devi namaste"، وهي صيغة تحية تعبّر عن
تقديس لغير الله تعالى، الأمر الذي يتعارض مع عقيدة التوحيد الإسلامية. إن فرض مثل
هذه الشعائر على الطلاب المسلمين لا يساهم في اندماجهم في المنظومة الوطنية، بل
يعمّق شعورهم بالتهميش والاغتراب الديني والثقافي، ويُضعف بالتالي ثقتهم بالعملية
التعليمية برمّتها.
في بعض المدارس تُتلى نصوص
دينية بلغة السنسكريت أو الهندية مثل:
"امنحنا القوة يا إله الرحمة لنثبت على طريق الواجب". مثل هذه
الأدعية لا تتوجه إلى الله وحده، بل إلى قوة أو إله غير محدد. مشاركة الطالب المسلم
في مثل هذا النص تضعف عقيدته تدريجياً، إذ يعتاد على خطاب ديني غريب عن التوحيد.
التعليم المختلط وآثاره
إلى جانب التحديات
العقدية، يواجه الطالب المسلم بيئة تعليمية يغلب عليها الاختلاط بين الجنسين. ورغم
أن التعليم المختلط قد يُعتبر في بعض السياقات تقدماً اجتماعياً، إلا أنه بالنسبة
للمجتمع المسلم في الهند يمثل تحدياً للقيم الأخلاقية والتربوية.
فالطلاب والطالبات يتعودون
على أجواء تقل فيها الضوابط الشرعية المتعلقة بالحياء والحشمة، مما يفتح الباب
لانحرافات أخلاقية أو سلوكيات غير منضبطة. أما الفتيات المسلمات، فيجدن أنفسهن في
وضع بالغ الصعوبة؛ إذ يُطالبن بالالتزام بقيم أسرهن الدينية في الوقت الذي تفرض
عليهن المدرسة سلوكاً مختلفاً. هذه الازدواجية تخلق ضغطاً نفسياً كبيراً، وقد تدفع
الأسر في نهاية المطاف إلى إخراج بناتهن من المدارس مبكراً، وهو ما يُفاقم مشكلة
الانقطاع المبكر عن التعليم بين الفتيات المسلمات.
الاغتراب الديني والثقافي
تؤدي هذه الممارسات إلى
نشوء شعور بالاغتراب لدى الطالب المسلم. فهو من جهة يسمع في بيته أو مسجده أن
التوحيد هو أساس العقيدة الإسلامية، ومن جهة أخرى يشارك في المدرسة في طقوس تمجّد
آلهة متعددة أو تقدس التماثيل. ومع مرور الوقت، قد يفقد الطالب قدرته على التمييز
بين ما هو ديني صحيح وما هو طقس ثقافي دخيل.
هذا الاغتراب ينعكس على
هوية الطالب. فالذي يشارك في طقوس شركية أو يذوب في بيئة ثقافية غريبة قد يضعف لديه
الشعور بالانتماء للإسلام، ويصبح أكثر عرضة لفقدان الثقة بنفسه وهويته.
كثير من الأسر تواجه حالة
من التنافر مع أبنائها. فالطفل الذي يعتاد على طقوس المدرسة يعود إلى بيته بأسئلة
أو ممارسات لا تتفق مع ما يتعلمه في محيطه الأسري. هذا التناقض يولد صراعاً داخلياً
في الأسرة ويضعف الرابط التربوي بين البيت والمدرسة.
غياب
البدائل التعليمية
تكمن خطورة الوضع في غياب
المدارس الأهلية الإسلامية القوية. فالمسلمون في الهند غالباً ما يجدون أنفسهم بين
خيارين كلاهما مُرّ:
·
إما الانقطاع عن التعليم، وهو ما يعني ضياع المستقبل.
·
أو الالتحاق بمدارس عامة مليئة بالممارسات المناقضة لعقيدتهم.
وبسبب ضعف الاستثمار
الوقفي في قطاع التعليم، لم تنجح المجتمعات المسلمة في بناء مؤسسات تعليمية موازية
على نطاق واسع. وحتى المدارس الإسلامية القائمة غالباً ما تقتصر على التعليم الديني
التقليدي ولا تدمج العلوم العصرية بالشكل المطلوب، مما يترك الطلاب خارج سوق العمل
الحديث.
الحلول
والتوصيات
تأسيس المدارس
الأهلية الإسلامية
الحل الجذري يكمن في بناء
مدارس أهلية إسلامية حديثة، تدمج بين العلوم العصرية والمواد الشرعية، بحيث يتمكن
الطالب من الحصول على تعليم مؤهل للمستقبل دون أن يخسر هويته. هذه المدارس يجب أن
تُصمم لتستوعب البنين والبنات، مع مراعاة الضوابط الشرعية في بيئة تربوية منضبطة.
والأخطر من ذلك كله هو
غياب البدائل التعليمية القادرة على حماية هوية الطلاب. فالمسلمون في الهند يفتقرون
إلى شبكة قوية من المدارس الأهلية التي تجمع بين المناهج الحديثة والتربية
الإسلامية، الأمر الذي يضعهم أمام خيارين أحلاهما مرّ: إما الانقطاع عن التعليم بكل
ما يعنيه ذلك من حرمان من المستقبل، أو الالتحاق بمدارس تُشكّل خطراً على عقيدتهم
وأخلاقهم. ومع ضعف استثمار المؤسسات الوقفية في ميدان التعليم، يظل المسلمون عاجزين
عن توفير بيئة تعليمية بديلة تحمي أبناءهم من هذه المخاطر.
إن الحل الجذري يكمن في
بناء مؤسسات تعليمية أهلية إسلامية حديثة للبنين والبنات، مدارس وجامعات، تعتمد
المناهج العصرية في العلوم والمعارف، وتدمجها بتربية إسلامية راسخة تُحصّن الطالب
من الانجراف وراء الممارسات المناقضة لعقيدته. هذه المؤسسات ينبغي أن تُبنى على
أساس من الاستقلالية والتمويل المستدام، مع تفعيل دور الأوقاف الإسلامية لتغطية
نفقات التعليم وضمان استمراريته. كما أن إعداد مناهج تعليمية بديلة تراعي خصوصية
الهوية الإسلامية وتجمع بين الأصالة والمعاصرة هو ضرورة ملحّة، إلى جانب توعية
أولياء الأمور بخطورة ترك أبنائهم عرضة لطقوس تمس عقيدتهم.
تفعيل
دور الأوقاف
لا يمكن لهذه المدارس أن
تقوم دون تمويل مستدام. هنا يأتي دور الأوقاف الإسلامية التي ينبغي أن تُوجه
أموالها لدعم بناء المدارس، وتوفير رواتب المعلمين، وضمان استقلالية هذه المؤسسات
التعليمية عن التدخلات الحكومية التي قد تُضعف هويتها.
إعداد مناهج متوازنة
لا بد من صياغة مناهج
تعليمية حديثة تدمج العلوم والتقنيات واللغات الأجنبية، مع مواد العقيدة والفقه
والتاريخ الإسلامي. هذا الدمج هو الذي يضمن للطالب المسلم أن يكون قادراً على
المنافسة في سوق العمل، وفي الوقت نفسه متمسكاً بدينه.
توعية الأسر
ينبغي للأسر أن تدرك خطورة
ترك أبنائها عرضة لطقوس مخالفة للعقيدة. فالوعي الأسري هو الحصن الأول الذي يمنع
ذوبان الأبناء في بيئة مدرسية غريبة.
المطالبة بالحقوق
الدستورية
ينص الدستور الهندي على حق
الأقليات في إدارة مؤسساتها التعليمية الخاصة. من هنا يجب أن يكون للمسلمين صوت
موحد يطالب بتمكينهم من ممارسة هذا الحق عملياً دون قيود أو عراقيل.
الخاتمة
المعركة التعليمية التي
يخوضها المسلمون في الهند هي في جوهرها معركة هوية. فالطالب المسلم ليس فقط مهدداً
بحرمانه من فرص التعليم النوعي، بل مهدد أيضاً بفقدان عقيدته تحت ضغط الممارسات
العقدية في المدارس العامة. وإذا لم تُتخذ خطوات عملية لتأسيس مدارس أهلية إسلامية
قوية، فإن أجيالاً من المسلمين ستنشأ ضعيفة العقيدة، هشة الهوية، منقطعة الصلة
بثقافتها.
إن التعليم ليس ترفاً، بل
هو شرط أساس لحماية العقيدة وضمان المشاركة الفاعلة في المجتمع. ومن هنا، فإن بناء
المؤسسات التعليمية الإسلامية العصرية هو واجب المرحلة، لأنه وحده القادر على أن
يضمن للطالب المسلم في الهند مستقبلاً يوازن بين متطلبات العصر وثوابت الدين.