• - الموافق2025/11/15م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
من سياحة صيد البشر إلى عرضهم في أقفاص.. سردية واحدة لحضارة سادية بلا ضمير

يكشف المقال عن خيطٍ واحد يربط بين حدائق البشر وقنص المدنيين: نزع إنسانية الآخر وتحويله إلى مادة للفرجة أو القتل. وتتجلى خلف هذه الممارسات منظومةٌ حضارية تُسَلّع الإنسان وتُسقط قيمته، فتُعيد إنتاج القسوة نفسها عبر الأزمنة بأشكال مختلفة.


في سبتمبر 1906، استيقظت نيويورك على واحد من أكثر المشاهد انحطاطاً في تاريخها الحديث. فقد وُضع رجل إفريقي جاء من قبيلة مبوتي في الكونغو، يُدعى أوتا بنغا، داخل قفصٍ في حديقة حيوان برونكس ليعيش بين الشمبانزي والغوريلا، ويُقدَّم للزوار بوصفه "حلقةً مفقودة" في سلسلة التطور الدرويني.

كان الزوار يتدافعون لرؤية "الكائن الغريب"، بينما تُعلّق على باب القفص لوحاتٌ تصف خصائصه البدائية، كأن الأمر تجربة علمية باردة، لا حياة إنسان له قلب وذاكرة وكرامة. وبعد شهور من الإذلال والانتهاك النفسي، انتهت رحلة أوتا بنغا بالانتحار. هذه الحادثة ليست شذوذاً، بل نافذةٌ على عقلٍ غربي بنى جزءاً مهماً من تصوراته عن الآخر عبر نزع إنسانيته.

ما حدث في نيويورك عام 1906 هو نفسه ما حدث في حدائق البشر في باريس وبروكسل ولندن وبرلين، وما أعيد إنتاجه بصورة أكثر وحشية  على تلال سراييفو بعام 1996م حين تحوّل المدنيون البوسنيون المحاصرون الأطفال قبل الكبارإلى أهداف للقنص والترفيه للسياح الأوروبيين الذي دفعوا المال ثمنًا للسماح لهم بسياحة قتل الأبرياء، ويا لرحمة هؤلاء فحصرًا على حياة الأطفال جعلوا ثمن قنصهم وسفك دمهم قيمته أعلى، هل يوجد تفسير آخر للأمر سوى أنهم رحماء حريصون على حياة الأطفال أم أن مشهد مقتل الأطفال أكثر إثارة فصار الطلب عليهم أكثر، ووفقا لآليات السوق كلما ازداد الطلب وقل المعروض ارتفع السعر، ربما.

بين مأساة "أوتا بنغا" الذي دفعته الإهانة إلى الانتحار في محاولة يائسة لإثبات إنسانيته، وطفل بوسني قُتل بدم بارد على يد قناص بينما كان حياته مجرد وسيلة للترفيه، يمتد خيط رفيع يجمعهما في مشهد واحد. فكلاهما تحوّل إلى مادة ترفيهية للرجل الأبيض، الذي وجد في إذلال الآخر أو قتله متنفساً بعد يوم عصيب من ضغوط الحياة والعمل. في كلا الحالتين، يتم اختزال الإنسان إلى مجرد وسيلة تسلية تُشبع نزعة السادية وتغذي فكرة التفوق، في تجاهل تام لكرامة الإنسان وألمه. إنها سردية تتكرر عبر الأزمنة، حين يصبح الضعفاء ضحايا لحضارة لا ترى فيهم سوى أدوات للفرجة أو القنص، للترفيه والتسلية.

حين يتحول الإنسان إلى معروض

منذ أواخر القرن التاسع عشر حتى بدايات القرن العشرين، ازدهرت ظاهرة حدائق البشر في عدد من الدول الأوروبية، كان أبرزها فرنسا وبلجيكا وألمانيا وبريطانيا وإسبانيا. كانت تلك الدول تستورد رجالاً ونساءً وأطفالاً من المستعمرات الإفريقية والآسيوية، وتضعهم في أقفاص وأكواخ مصطنعة ضمن حدائق الحيوان، بجانب القرود، ليكونوا مادة للعرض والفرجة.

كان ملايين الأوروبيين يتوافدون على هذه العروض بدافع الفضول أو التسلية، متكئين على خطاب علمي يبرر الفكرة: هؤلاء بدائيون، ضحايا البيئة، أقرب للطبيعة من الحضارة، وعرضهم يساعد في فهم التدرج البشري.

لكن الحقيقة أن هذه العلوم لم تكن سوى واجهةٍ لأيديولوجيا استعمارية ترى الإنسان الأبيض معياراً للعقل والتفوق، فيما يُختزل غيره إلى كائن أقل قيمة.

 

في الحالتين، تتكرر الفكرة نفسها: الإنسان غير الأوروبي أقل قيمة، حياته قابلة للاستخدام: للعرض، أو للقتل، أو للدراسة، كرامته ليست جزءاً من التعريف الغربي للإنسان.

هكذا، تحولت الفوارق التاريخية والثقافية إلى درجاتٍ في سُلَّم الأعراق، ووجدت الإمبراطوريات الأوروبية في هذه العروض دعامةً لتبرير سياساتها الاستعمارية، وكأن السيطرة على الشعوب الأخرى ليست جريمة، بل رسالة تمدين.

ولا غرابة أن ينتهي هذا المشهد إلى ما انتهى إليه أوتا بنغا: إنسانٌ محبوس في قفص، يتسلى به الجمهور، بينما تكتب الصحافة عنه ببرود علمي.

القتل بوصفه ترفيهاً

بعد نحو قرن من حدائق البشر، وفي قلب أوروبا نفسها، عاد المشهد لكن دون أقفاص:

لم يعد الآخر معروضاً، بل أصبح هدفاً. ويؤكد أن عمق الفلسفة الغربية واحد، لم يتغير أو يتطور ونظرتها للآخر ظلت وستظل ثابتة.

فخلال حصار سراييفو (19921996)، انتشر عشرات الآلاف من قناصة قوات صرب البوسنة على التلال المحيطة بالمدينة، يستهدفون المدنييننساءً وأطفالاً ورجالاًكجزء من سياسة التطهير العرقي.

لكن الفاجعة الكبرى لم تظهر إلا مؤخراً، في الأيام الأخيرة فقط وبعد ما يقارب ثلاثة عقود على تلك الجريمة، بعد أن كشف الادعاء الإيطالي عن مشاركة أثرياء أوروبيين في ما بات يُعرف بـ"سياحة القنص": يدفع الشخص ما بين 80 و100 ألف يورو ليصطاد مدنياً بوسنياً مسلماً، كأنه في رحلة سفاري.

كان الثمن يختلف باختلاف الفئة: الرجال أقل، النساء أكثر، أما الأطفالوفق تقارير إسبانية وإيطاليةفكانوا الأعلى سعراً.

لم يكن القتل هنا نتيجة حرب ضارية أو اشتباك مسلح، بل متعة مدفوعة الثمننسخة أكثر عنفاً من حدائق البشر. فالذي كان يُعرض في قفص أصبح يُرصد بمنظار بندقية.

ما إن ظهر التحقيق حتى اجتاحت موجة غضب دولية المنصات والإعلام. فأعلنت النائبة الأمريكية آنا بولينا لونا فتح تحقيق حول أي أمريكي ربما شارك في هذه الجرائم، مؤكدة أن من يفعل ذلك لا يستحق إلا المقاضاة المباشرة.

وقالت الباحثة أرنيسا كوستارة: كنا نعرف. كانت هناك همسات طوال الحرب. لكن الإعلام الأوروبي طمس القصة حفاظاً على السردية الغربية. وأضاف فيز بوسكيان: المروع أن هذه الممارسة معروفة منذ سنوات، ولم تثر الغضب إلا الآن.

إنها القصة ذاتها: إنسان لا يُنظر إليه كذات حرة، بل مادة للمتعة أو موضوعاً للقنص.

بين أوتا بنغا وضحايا سراييفو

قد يبدو الزمن بعيداً بين حادثة 1906 وقنص الأطفال 1996، لكن الرابط بينهما هو البنية الأخلاقية الثابتة التي تحكم نظرة الغرب إلى الآخر.

في الحالتين، تتكرر الفكرة نفسها: الإنسان غير الأوروبي أقل قيمة، حياته قابلة للاستخدام: للعرض، أو للقتل، أو للدراسة، كرامته ليست جزءاً من التعريف الغربي للإنسان.

وإذا كان الغرب قد اعتذر خجولاً عن حدائق البشر، فإنه لم يعتذر عن سفاري سراييفو، ولم يجرؤ على فتح نقاشٍ جدي حول مسؤولية الثقافة الغربية في إنتاج مثل هذه الوحشية. رغم مرور أكثر من ثلاثة عقود على الحادثة

إنها نفس الحضارة تتنوع مخرجات ساديتها وجرائمها كل يوم وتتمظهر في أشكال مختلفة، دعم الانقلابات العسكرية في العالم الثالث، التمييز العنصري في الداخل، الانحياز للفصل العنصري في فلسطين، تبرير الحروب بذرائع أخلاقية، تغطية الجرائم الاستعمارية بطلاء علمي أو تنموي.

وليس مستغربًا أن يرى كثير من المفكرين أن ظاهرة "تسليع الإنسان" ليست مجرد خروج عابر عن المنظومة الفكرية الغربية، بل تأتي من صميم هذا النموذج الحضاري نفسه. هذا النموذج الذي بلغ، أدنى درجات الانحطاط، حتى بات في بعض جوانبه أقسى وأشد انحطاطا من سلوك الحيوان. فهنا يُختزل الإنسان إلى مجرد وسيلة للمتعة أو الاستغلال، وتُنتزع عن كرامته الإنسانية كل قيمة حقيقية، فيتبدى تسليع الإنسان كجزء لا يتجزأ من البنية الأخلاقية السائدة في الحضارة الغربية.

والعالم اليوم من فلسطين إلى البلقان ومن إفريقيا إلى أمريكا الجنوبية ما يزال يدفع ثمن تركه لتلك الحضارة تبيض وتصفر في أرضه، فتتغذى على خيراته بينما هو يتضور جوعا وفقرا، ثم يحترق في أتونها، مرة متنحرا وأخرى منحورا.

 

أعلى