هذه ليست الأغلال
حين كتب عبد الله القصيمي[1] كتابه " هذه هي الأغلال " كان ذلك في جيله نقلة صادمة في المجتمع الفكري الذي شهد تحوّلا جذريّا من رجل دين محسوب على التيّار السّلفي إلى رجل يعلن إلحاده للناس علانية، موقف انتقل فيه القصيمي بين نقيضين فكريّين في فترة وجيزة لم تشهد تلك المحطّات و التّحولات الممهّدة لفكر الرّجل المعادي للثوابت الدّينيّة، بل كان الإنتقال دون تدرّج أو تمهيد، حيث وصفه سليمان بن صالح الخراشي بقوله " ويعد عبد الله القصيمي أحد أشهر المرتدين في عصرنا الحاضر، وقد لقيت حالته اهتماماً كبيراً في الأوساط المتنوعة "الإسلامية وغير الإسلامية" لأسباب عديدة، لعل من أبرزها تناقض ذلك مع تاريخه العلمي في مناصرة الدعوة السلفية ضد خصومها وتصنيفه المصنفات المفيدة في هذا الشأن، لهذا عجب الجميع لارتداده من القمة إلى السفح في صورة حادة وسريعة ".
و عرض القصيمي فكره الذي تبرّأ فيه ممّا كان يدعوا إليه في كتابه " الصّراع بين الإسلام و الوثنية "، و صار اعتقاده الذي يدافع عنه أنّ الحال التي تشهدها البلاد الإسلاميّة من ضعف و انحدار و فقر و اضطرابات على جميع الأصعدة ما هي إلا نتاج لتمسّكهم بما يعدّون ثوابتا هي في الحقيقة معوّقات و أغلال تكبح المجتمع و تحول دون ارتقائه إلى المجتمعات الغربية، و التي وسمها بالتّقدم و الرّقي الفكري و الإنساني و دحض عنها تهمة الاستعمار و اضطهاد الشّعوب.
رحل عبد الله القصيمي وترك خلفه آثارا و مؤلّفات من باب الإنصاف القول عنها أنّها تميّزت – رغم الجدل في أفكارها – بأسلوب يتّسم بسحر البيان، حتّى أنّ عنونته لها كان فيها استفزاز كبير للقارئ و دعوة ساحرة تستدرّ الفضول لتصفّحها و الغوص في معانيها، على أنّ اتباعها من عدمه يبقى نسبيّا حسب درجة ميل المتلقّي.
أوردت ما سلف عن عبد الله القصيمي كأنموذج صارخ لفكر لم يختبئ خلف أقنعة الرأي والرأي الآخر لتمرير مشاريع فكريّة خطيرة موجّهة إلى العالم الإسلامي في وقتنا الرّاهن بإعادة قولبة فكرة " هذه هي الأغلال " في سياق أكثر مكر و سلاسة و تقبّل لدى الجماهير المسلمة الحيرى في ظلّ التجاذبات الفكرية و الإيديولوجيات المؤثرة على توجيه الرّأي العام، و من أمثلتها الكثير ممّن رأت إعادة قراءة ما أسمته "بالتراث الإسلامي" و تعريضه لمناظير الشّك و المنطق و التمحيص التاريخي لمراتب الإستدلال الأربع لإعادة توجيه التّلقي الدّيني وفق منظار يخدم السّعي الرامي إلى التّقدّم و التطوّر و اللحاق بركب الغرب الذين ما أنجزوا حضارتهم المادّية إلّا بتسليط النّقد على الدّين و غربلته من " الأغلال " التي ظلّ العالم الإسلامي يرزح تحتها متخلّفا عن تحقيق شروط التّطور و التّقدم المادي و الثقافي.
يعرض مالك بن نبي[6] في مؤلّفاته وفق منهجٍ تحليلي راقٍ كيف أنّ الحضارة تقوم على أسس و ثوابت لا يمكن فصل "الظاهرة القرآنية" و "الظّاهرة النّبويّة" عنها، إذ أنّهما تشكّلان "الدّافع الرّوحي" لقيام الحضارة و إرساء قواعد المجتمع و المضيّ به نحو نهج الإرتقاء والتّقدم إرتكازا على خصائصه البيئيّة و المجتمعيّة و النّفسية، هذا النهج الذي عرف اضطرابا عند المجتمع الإسلامي بفعل تأثير الفكر الإستشراقي و آثار الإستعمار الذي أخذ بعدا ثقافيّا فكريّا في الدول التي تعرّضت للإستعمار، و أنتج " نظما كمبرادوريّة "[7] تخدم الأجندات الفكريّة طواعية أو كرها مغيّبة كل دعوى إلى التمسّك بالثوابت الأصيلة للمجتمع الإسلامي.
النّموذج الإقتصادي الماليزي الذي أخذ من فكر مالك بن نبي و أسقطه على المجتمع الماليزي محقّقا بذلك شروط النّهضة التي قفزت به في ظرف قياسي إلى مصاف الإقتصادات العالميّة الكبرى، دليل ملموس على أنّ الثوابت الدّينية " ليست هي الأغلال " التي تكبح مسارات النّمو التطور وفق المقاربة الإقتصاديّة الإنتاجيّة، شرط وجود قطيعة إبستمولوجيّة بين "الأغلال الفكريّة وفق الأجندة الغربية"، و الخروج من المنطقة الرّماديّة التي تتموقع فيها معظم المجتمعات الإسلاميّة و التي هي بين إرادة ناقصة للتّغيير و وسائل معدومة لتحقيقه و تأثر أعمى مردّه الخوف من القطيعة مع الغرب، فشروط النّهضة الإسلامية بمختلف مظاهرها يجب أن تنطلق من فكرة التحرّر من هاجس " هذه هي الأغلال " و الإقتناع التّام غير المعرّض للشّك أن الدّين الإسلامي و الثوابت الفكريّة الأصيلة، و النماذج التاريخية النّاجحة، كلّ هذه " ليست هي الأغلال ".
المراجع :
- عبد الله القصيمي " هذه هي الأغلال " منشورات الجمل، كولونيا-ألمانيا 2000.
- عبد الله القصيمي العرب ظاهرة صوتيّة، مطابع مونماتر، باريس 1977.
- مالك بن نبي، الظاهرة القرآنية، دار الفكر المعاصر، بيروت-لبنان 2000.
- مالك بن نبيّ، ميلاد مجتمع، دار الفكر، دمشق-سوريا 1985.
[1] هذه هي الأغلال لمؤلفه عبد الله القصيمي مفكّر سعودي (1903-1995)
[2] العرب ظاهرة صوتية، لمؤلّفه عبد الله القصيمي
[3] الإنسان يعصي لهذا يصنع الحضارات لنفس المؤلف
[4] سيد قطب مفكّر مصري 1906-1966
[5] أتحفظ على ما قاله سيّد قطب هنا لأنّه ورد في سياق لم أجد له مبرّرا أو تفسيرا غير الذي بدا عليه ظاهر القول.
[6] مالك بن نبي، مفكّر إسلامي جزائري 1905-1973
[7] النظم الكمبرادوريّة هي النظم العميلة حسب ما عبّر عنه بول بارين1926-2011 أحد رواّد نظريّة التبعية