مقاربة واقعية للمشهد اليمني الراهن
تعيش اليمن أوضاعاً مأسوية في كل نواحي الحياة المعيشية والسياسية والأمنية، فمنذ سقوط العاصمة صنعاء في أيدي مليشيات الحوثي وصالح في 21 سبتمبر 2014 زادت الأوضاع السيئة في الانحدار حتى وصلت إلى قاع المحيط.
مثلت عاصفة الحزم وتدخل التحالف العربي بقيادة المملكة العربية السعودية لإنقاذ الشرعية طوق نجاة بالنسبة لغالبية الشعب اليمني، بعد أن كانت المليشيات قد استباحت اليمن شمالاً وجنوباً، لكن الشيء الذي لم يكن يتوقعه اليمنيون أن أمد هذه الحرب سيطول وتطول معاناتهم بعد تداخل الكثير من العوامل الداخلية والخارجية.
مما لا شك فيه أن التحالف العربي حقق الكثير من الانجازات على أرض الواقع في دحر الانقلابيين من المحافظات الجنوبية والشرقية وحصارهم في مربع صنعاء والمحافظات المجاورة لها، لكن ممارسة تلك المليشيات وابتزازها للحكومة الشرعية بقوت المواطنين، واحتماءها بالمدنيين أثرت بدرجة كبيرة على واقع من يعيشون تحت سلطتها بدرجة كبيرة، وأثرت كذلك على عملية الحسم العسكري.
مسار الحرب والسلم
من قراءة واقعية للمشهد اليمني الحالي، ومن خلال المتابعة المستمرة لما يجري في جبهات القتال ومناطق الاشتباك، نستطيع القول بأن عجلة الحرب قد تراجعت بدرجة كبيرة، وهذا الأمر لا يعود إلى تراجع التحالف العربي ولا رغبة قوى الانقلاب، لكن الأمر له ارتباط بالتداخلات الاقليمية والدولية التي أثرت على مسار الحسم العسكري وعودة الشرعية إلى كل المحافظات اليمنية.
في ميزان القوة العسكرية أصبحت الشرعية أفضل حالاً وعتاداً وسلاحاً وقوة بشرية من تحالف الانقلاب (الحوثي وصالح)، وكل هذا بفضل التحالف العربي الذي أسس جيشاً جديداً للشرعية بدأه الصفر بعد انطلاق عاصفة الحزم.
وفيما يبدو أن الضغوط الدولية قد ساهمت في تأخير عجلة الحسم العسكري وإسقاط الانقلاب، فهناك محاولات دولية واضحة لإنقاذ قوى الانقلاب والسعي لسلق مبادرة سياسية تفضي إلى تشارك الشرعية والانقلاب في الحكم والسلطة في الفترة القادمة مقابل تسليم سلاح الحوثي، ولكن لا يوجد أي ضمانات فالتجارب السابقة مع الحوثي كانت نتيجتها الغدر ونقض العهود والاستعداد لمرحلة حرب جديدة.
ومن ضمن الأسباب التي أثرت في مسار المعركة اختلاف توجهات وروئ أصحاب المشروع نفسه سواء في إطار التحالف العربي أو في داخل الشرعية، وهو اختلاف حول طبيعة المعركة وأولوياتها وكيف ستكون المرحلة القادمة، والوجوه والتوجهات التي يمكن أن تُسلم لها زمام مرحلة ما بعد الانتصار.
أضف إلى ذلك حرص التحالف العربي وفي مقدمتها السعودية على التركة الثقيلة في حال أقدمت على حسم عسكري شامل، وأعني بالتركة هنا هي الدمار الشامل الذي سيحدث للمدن التي يسيطر عليها الحوثي، وحصول مجازر بشرية كبيرة نظراً لاحتماء الحوثي بالمدنيين حتى وصل الأمر إلى تنفيذ تدريبات عسكرية داخل الأحياء السكنية.
ولعل تصريحات ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في مقابلة تلفزيونية له في التلفزيون السعودي ونقلتها عدد من القنوات الأخرى، "أن الجيش السعودي قادر على الحسم العسكري في اليمن خلال أيام معدودة، لكن التركة ستكون كبيرة، وسيكون العزاء في كل بيت"، ربما من شاهد الصور القادمة من الموصل وحلب وحمص يعي جيداً معنى هذا الكلام، فهناك يرقص الغزاة على حطام وأطلال المدن السُنية.
مبادرات الأمم المتحدة
منذ بداية العاصفة في اليمن والأمم المتحدة كما هي العادة في الحروب والأزمات تسعى جاهدة إلى إيقاف الحرب، لكنها تريد إيقافها حسب مواصفات وأجندات خاصة بالممولين والتوجهات الغربية.
ثلاثة مؤتمرات رسمية نظمتها الأمم المتحدة للحوار بين الأطراف المتحاربة في اليمن اثنين منها في جنيف والثالث في الكويت استمر لمدة ثلاثة أشهر دون أن تخرج بأي آفاق للحل في ظل تعنت المليشيات وعدم وجود أي ضمانات في تسليمها للسلاح الثقيل والمتوسط للدولة، بل وعدم اعترافها بالشرعية من الأساس.
وحتى الآن تدور في الكواليس لقاءات جانبية في الأردن والقاهرة ودول أخرى ينسق لها المبعوث الأممي إلى اليمن إسماعيل ولد الشيخ، وهناك عدة مبادرات طرحت منذ بداية الحرب وتم تعديلها ورفضها وإعادة تدويرها، وآخر تلك المبادرات هي مبادرة خاصة بالوضع في محافظة الحديدة غرب اليمن، حيث كانت قوات التحالف تجري الاستعدادات الكاملة لتحرير محافظة الحديدة والاستيلاء على الميناء الأخير الذي يقع تحت سيطرة الحوثي، ويحصل منه على موارد مالية كبيرة وتهريب للسلاح، ولكن الأمم المتحدة رفضت هذا الخيار وضغطت بكل إمكانياتها حتى توقف مشروع الحسم وبدأ مسلسل المبادرات.
وتنص المبادرة الجديدة بخروج قوات الحوثي وصالح من مدينة الحديدة وتسليمها لطرف ثالث يقوم بإدارتها ليس له علاقة بالشرعية، ولا أحد يعرف من هو هذا الطرف الثالث، بالإضافة إلى تكفل الأمم المتحدة بدعم من المجتمع الدولي بتقديم خدمات استشارية لهذا الطرف الثالث الذي سيدير المحافظة في كافة نواحي عملهم، وكذلك التكفل بدفع رواتب الموظفين.
ومن خلال الاطلاع على تجارب سابقة فإن مفخخات هذه المبادرة كثيرة أبرزها في حال طبقت على أرض الواقع، أنها تخلق سلطة ثالثة توازي سلطة الشرعية وسلطة الانقلابيين، وهي ورطة وفخ كبير قد يغرق البلد في صراع مستدام كما حدث ويحدث الآن في النموذج الليبي.
غير ذلك فهناك مساع كبيرة تقودها الأمم المتحدة لإيقاف الحرب بشكل شامل والدخول في شراكة سياسية شاملة، تضمن بقاء الحوثي وصالح ومشاركتهما في السلطة والثروة خلال الفترة القادمة، وتشكيل حكومة ائتلافية، وقد أثبتت التجارب السابقة أنه لا يوجد اي ضمان لتطبيق الحوثي لأي مبادرة تطرح فقد نقض عشرات الاتفاقيات وغدر بالجيش في أكثر من مدينة، ولا يوجد أي ضمانات لتسليمه السلاح للدولة، فهو لا يتعامل إلا بمنطق القوة، وينطبق عليه قول القائل: ما أُخذ بالقوة لا يُسترد إلا بالقوة.
ولعل بقاء السلاح بيد الحوثي ومشاركته للسلطة في المرحلة القادمة يجعل المشهد اليمني تحت وطأة عودة الحرب في أي وقت، وغير ذلك فالحوثي ينفذ أجندات إيرانية واضحة وبالتالي يتغير مع تغير دوافع الممول الإيراني، وتأثيرات بقاءه على الشريط الحدودي للمملكة يمثل خطراً كبيراً على أمن المملكة ودول الجوار، فضلاً عن تواجده في الحديدة وبعض الجزر اليمنية يمثل تهديداً مستمراً للملاحة الدولية.
المشهد الجنوبي وآفاق الانفصال
في المحافظات اليمنية الجنوبية يبدو الأمر مختلفاً، فالمحافظات محررة بنسبة 99% ولم يتبقى سوى بعض الجيوب في محافظة شبوة ولحج، لكن الأمر اختلف بعد التحرير، فعندما كان الناس يحاربون من أجل عودة الشرعية ظهرت قوى جنوبية لاستغلال الوضع الحالي ومحاولة الدفع نحو تعميد مشروع الانفصال الذي تطالب به قوى الحراك الجنوبي منذ سنوات طويلة.
صحيح أن تأكيدات التحالف العربي وبيانات مجلس الأمن والدول المحيطة تؤكد دوماً على الحفاظ على وحدة اليمن، لكن ما يجري على الواقع مختلف تماماً فهناك اجراءات واضحة للعيان في السير نحو مشروع الانفصال، حتى وصل الأمر إلى تأسيس مجلس انتقالي ينص على حكم الجنوب ويرفض قرارات الرئيس الشرعي عبدربه منصور هادي.
ربما أن اجراءات الرئيس هادي في الفترة الأخيرة من خلال عزله لثلاثة محافظين وهم محافظي عدن وشبوة وحضرموت الذين ساهموا في تأسيس المجلس الانتقالي، قد ساهم في التخفيف قليلاً من الممارسات الواقعية للانفصال، لكن الخطورة لا تزال باقية خصوصاً إذا ربطنا ذلك بالدعم الذي يحصل عليه المجلس الانفصالي والجرأة على رفض قرارات الشرعية وكأنه قد تلقى الضوء الأخضر من أطراف اقليمية دولية للبدء بتعميد الانفصال.
بالنسبة لقوى والرئيس هادي فهو لا يزال يناضل من أجل تحقيق مخرجات الحوار الوطني التي تقضي بتأسيس اليمن الاتحادي الجديد المكون من ستة أقاليم أربعة في الشمال واقليمين في الجنوب، لكن الأحداث تتغير بسرعة وتنقلب رأساً على عقب خلال أيام واسابيع ولا أحد يستطيع رسم خارطة للمشهد في الجنوب حالياً.
وفي تصوري أن الكلمة الفصل في بقاء اليمن موحداً أو تحقيق الانفصال هي للتحالف العربي الذي تدخل لإعادة الشرعية، وبالتالي هو المعني في الكيفية التي ستعود بها الشرعية، هل بانفصال الشمال عن الجنوب أم ببقائه موحداً في إطار الأقاليم الستة، أم بصور أخرى.
الجوع والكوليرا
ربما من اللازم عليً أن أشير في نهاية هذا المقال إلى خطورة الوضع الصحي والمعيشي الذي يعيشه ملايين اليمنيين، نظراً لتوقف رواتب الموظفين منذ نحو تسعة أشهر وابتزاز المليشيات للشرعية بعدم تسليم رواتب الموظفين وفي نفس الوقت عدم توريد العوائد المالية في محفظاتهم واستخدامهم في تمويل الحرب.
أضف إلى ذلك انتشار وباء الكوليرا في الكثير من المحافظات، ورصد وفاة 1800 شخص بسبب هذا الوباء، والاشتباه بإصابة 356 ألفاً و591 شخصاً آخرين حسب إحصائيات رسمية لمنظمة الصحة العالمية.
هذه أرقام مفجعة ومؤلمة وتحتاج إلى إعادة رسم الوضع في اليمن، ويبدو أن مفتاح كل الحلول في البلاد هو إزالة الوباء الكبير الذي تسبب بكل الأوبئة الفرعية، ألا وهو وباء الحوثية.
ويمكن أن نشيد هنا بالجهود التي يبذلها مركز الملك سلمان للإغاثة في مساهماته الكبيرة بإغاثة الشعب اليمن على كافة المستويات، ومن ذلك إرسال قرابة 45 طن من الأدوية والمستلزمات الطبية لمواجهة خطر تفشي وباء الكوليرا، وتقديم مبلغ 66 مليون دولار لاحتواء هذا الوباء القاتل، فضلاً عن مساهمات أخرى في جوانب إنسانية مختلفة.