خطب الاستسقاء (استجلاب القطر بالصدقة)
الحمد لله الغني الكريم، اللطيف الخبير، يقبض ويبسط، ويمنع ويمنح، ويضع ويرفع، لا راد لأمره، ولا معقب لحكمه، وهو على كل شيء قدير، وبكل شيء عليم {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * يَاأَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} [فاطر: 2- 3]، نحمده حمد الشاكرين، ونستغفره استغفار المذنبين، ونسأله من فضله العظيم؛ فأرزاقنا بيده، وخزائنه لا تنفد، ورحمته وسعت كل شيء، وغيثه سبحانه من رحمته {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ} [الشورى: 28] وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ الخلق كل الخلق عياله، فلا عائل لهم سواه، ولا رازق لهم غيره {أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [النمل: 64]، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ كان يخاف تلبد الغيم في السماء، يخشى أن يكون العذاب، فإذا مطرت سري عنه وتعرض لبركة الله تعالى ورحمته، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى واستغفروه؛ فبالاستغفار يجلب القطر من السماء {وَيَاقَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} [هود: 52].
أيها الناس: ثمة رباط وثيق بين الإنفاق وبين الماء؛ ولذا جمع بينهما في عدد من النصوص، منها قول الله تعالى {قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ * اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ} [إبراهيم: 31-32] فأمر سبحانه بالإنفاق سرا وعلانية ولا يكون ذلك إلا بكثرة الإنفاق بحيث يصعب إخفاء كل صدقة ونفقة، ثم ذكر سبحانه إنزال الماء من السماء، وإنبات الثمر، وأخبر عز وجل أن ذلك من رزقه سبحانه للناس.
وفي مقام آخر وصف الله تعالى رجالا مؤمنين فقال في وصفهم {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} [النور: 37] فذكر من أوصافهم أنهم يؤتون الزكاة، ثم بعدها ببضع آيات ذكر إنزال الماء من السماء، فقال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ} [النور: 43].
وفي مقام ثالث قال الله تعالى {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا} [فاطر: 27] ثم بعدها بآية ذكر الإنفاق فقال سبحانه {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر: 29 - 30].
وفي حديث نبوي قدسي أمر الله تعالى ابن آدم بالإنفاق، ووعده بالإنفاق عليه، وقرن به ذكر الماء وأنه أول المخلوقات، وذلك في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ، وَقَالَ: يَدُ اللَّهِ مَلْأَى لاَ تَغِيضُهَا نَفَقَةٌ سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، وَقَالَ: أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَاءَ وَالأَرْضَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَغِضْ مَا فِي يَدِهِ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ، وَبِيَدِهِ المِيزَانُ يَخْفِضُ وَيَرْفَعُ» رواه البخاري.
إن من يتأمل هذه النصوص الجامعة لذكر الماء مع الإنفاق، وينظر إلى أثر الماء في الأرض وعلى البشر يعلم أن الماء من الله تعالى ينزله على عباده غيثا مباركا، ويعلم أنه من رزقه سبحانه، بل يكاد أن يكون كل رزق يستخرج من الماء أو يسقى بالماء، أو للماء علاقة به، فلا حياة في الأرض إلا بماء، ولا رزق إلا بماء، والماء من الله تعالى، ويستجلب غيثه سبحانه بالصدقة التي هي من الإنفاق المذكور في الآية، والموصوف أصحابها بأنهم ينفقون سرا وعلانية. فمن أعظم أسباب حصول الرزق وبركته كثرة الإنفاق في وجوه البر والخير، وقد تواترت النصوص في ذلك. واقتران الغيث بالإنفاق في عدد من الآيات يدل على أن الصدقة من أعظم وسائل استجلاب الغيث المبارك كما يستجلب الغيث بالتوبة والاستغفار. ويؤكد ذلك ما ورد في الحديث من حبس القطر بسبب منع الزكاة فأنفقوا -عباد الله- ينفق عليكم، وتصدقوا لترتوي بالغيث المبارك أرضكم، فيُسقى زرعكم وتشبع نعمكم، ويتتابع رزقكم.
نستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم ونتوب إليه.
نستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم ونتوب إليه.
نستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم ونتوب إليه.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيثَ، واجعل ما أنزلت لنا قوة وبلاغًا إلى حينٍ.
اللهم اسقِنا، اللهم اسقِنا، اللهم اسقِنا.
اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا.
اللهم اسقِنا غيثًا مغيثًا، هنيئًا مريئًا، مريعًا غدَقًا، مجلِّلاً عامًّا، طبقًا سحًّا دائمًا، اللهم اسقِنا الغيث ولا تجعَلْنا من القانطين، اللهم إن بالعباد والبلاد والبهائم والخَلْق من اللأواءِ والجَهد والضنك ما لا نشكوه إلا إليك، اللهم أنبِتْ لنا الزرع، وأدِرَّ لنا الضرع، واسقِنا من بركات السماء، وأنبِتْ لنا من بركات الأرض، اللهم ارفع عنا الجَهدَ والجوع والعُرْيَ، واكشف عنا مِن البلاء ما لا يكشفه غيرُك، اللهم إنا نستغفِرُك إنك كنتَ غفارًا؛ فأرسلِ السماءَ علينا مِدرارًا.
اللهم اسقِ عبادَك وبهائمك، وانشُرْ رحمتَك، وأحيِ بلدَك الميت.
اللهم سقيا رحمة، لا عذاب ولا بلاء ولا هدم ولا غرق. وَصَلِّ اللَّهُمَّ وَسَلِّمْ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
عِبَادَ اللَّـهِ: حَوِّلُوا أَلْبِسَتَكُمْ تَفَاؤُلًا بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى سَيُغَيِّرُ حَالَنَا، فَيُغِيثُنَا غَيثًا مُبَارَكًا؛ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ سُنَّةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَادْعُوهُ مُسْتَقْبِلِينَ الْقِبْلَةَ وَأَيْقِنُوا بِالْإِجَابَةِ، وأكثروا الصدقة والاستغفار.
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلَامٌ عَلَى المُرْسَلِينَ، وَالْحَمْدُ لِلَّـهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.