كيف أصبحنا مكشوفين للاستخبارات؟!
أصبح العالم الآن يصل إلى بيانات أكثر مما يمكن تصوره منذ عقد مضى، حيث تقوم الشركات بتجميع بيانات جديدة بمعدل أسرع من قدرتها على تنظيمها وفهمها، وعليها الآن اكتشاف كيفية استخدام هذا الكم الضخم من البيانات لاتخاذ قرارات أفضل وتحسين أدائها، ويسعى هذا المجال الجديد المعني بعلوم البيانات إلى استخلاص المعرفة التطبيقية من البيانات وخاصة البيانات الضخمة، وهي المجموعات الكبيرة جداً من البيانات التي يمكن تحليلها للكشف عن أنماط واتجاهات وارتباطات، وتمتد علوم البيانات من جمع البيانات وتنظيمها إلى تحليلها والحصول على رؤى منها، وفي النهاية إلى التنفيذ العملي لما تم تعلمه، ويتداخل في كافة الأنشطة البشرية من اقتصاد وتمويل وإدارة للأعمال وكذلك من أمور عسكرية واستخباراتية.
وتجلب علوم البيانات أدوات التعلم الآلي، وهو نوع من أنواع الذكاء الاصطناعي الذي يعطي للحواسيب القدرة على التعلم بدون برمجة فعلية، مثال ذلك أجهزة الاستخبارات الروسية التي تمتلك أكثر من 2 بليون اسم مستخدم وكلمة سر على مستوى العالم، لتغوص في هذه المعلومات باستخدام الذكاء الاصطناعي، وأجهزة الحاسوب الغاية في التعقيد لتشبيك هذه المعلومات ومعالجتها للوصول إلى أغراضها الأمنية والعسكرية... ولكنها كيف تعمل؟
ببساطة أكثر تقوم أجهزة الحاسوب المعقدة والغاية في التطوير والدقة على تجميع المعلومات والكلمات ذات الدلالة المتشابهة في "مجتمعات التشبيك" للوصول إلى أهدافها، عبر مختصين في مجالات مختلفة كخبراء النفس والتكنولوجيا وعلم الاجتماع للوصول للحالة السياسية والأمنية والاجتماعية والاقتصادية للمجتمعات، والقدرة على توقع الأحداث واستغلالها لصالحهم، ومثال ذلك كمية المعلومات الهائلة من صور ومقاطع فيديو وكلمات وتحليلات لكتاب عبر مقالات نشرت في العالم الأزرق خلال ثورات الربيع العربي، والتي كان مصدرها الأهم هم الجماهير.
مجامع اللغة
أنشأ الكيان الصهيوني أكبر وأهم مجامع اللغة في العالم، حيث يبحث من قبل أجهزة مختصة على الكلمات العربية والعامية للفلسطينيين على وجه الخصوص والعرب على وجه العموم ويحتوى ضباط مختصين في اللغة العربية لمعرفة دلالات الكلمات بوضوح، فمنذ سبعينيات القرن الماضي أنشأ ما يعرف بـ"مجمع اللغة العربية" في حيفا، للبحث في دلالات الكلمات العامية المستخدمة من الفلسطينيين عبر المعايشة، ثم في ظل وجود التليفون والهاتف الخلوي، بدأت المراقبة أكثر سهولة، وفي عصر الانترنت خصوصاً ما يعرف بشبكة "الويب 2" بدا من يغذي هذه المصادر المفتوحة الجماهير وما على أجهزة الاستخبارات سوى التنقيب في حقول البيانات الكبيرة للوصول إلى المعلومة الدقيقة، فمجامع اللغة تتضمن مختصين في علم النفس لمعرفة الحالة النفسية للجماهير، وتذكرون جيداً ما تحدثت به الصحافة الصهيونية ذات مرة أن أكثر الكلمات استخداماً في قطاع غزة هي كلمة "ما تقلقش" وانعكاسات ذلك على الخطط السياسية والإستراتيجية الحكومية المستخدمة تجاه القطاع.
جاءت ضمن ذلك الاتفاقية الموقعة قبل أشهر بين إدارة فيس بوك والاحتلال الصهيوني على تبادل المعلومات، وحظر الموقع لآلاف المستخدمين الفلسطينيين الذين يستخدمون كلمات ذات دلالة "إرهابية" –على حد وصفهم، كما أن ثاني أكبر وأهم مركز لموقع "جوجل" في العالم موجود في الكيان الصهيوني.
يقول موقع التحليلات العسكرية والاستخبارات الصهيونية "ديبكا" أن ضابط الاستخبارات "لا يحتاج اليوم إلى تدريبات قتالية أو إطلاق نار أو تدريبات على كيفية المراوغة والحفاظ على حياته داخل عمق العدو، بل كل ما يحتاجه هو لوحة مفاتيح، وشاشة كمبيوتر، وشبكة إنترنت، وإمتلاك كامل لزمام اللغة العربية بجميع لهجاتها، ليدخل إلى ساحة العدو الافتراضية بهوية مزيفة، وتمثل تلك الساحة حالياً شبكات التواصل الاجتماعي".
ويثير البعض مخاوفاً مهمة إزاء الأمراض المقترنة بالعالم الرقمي، مثل رسائل التهديد الإلكترونية أو نشر مواد إباحية عبر شبكات الإنترنت، وهناك من يشعرون بالقلق حيال إمكانية اختراق خصوصيتهم، والمخاطر التي تهدد الحريات المدنية في وقت تترك فيه كل حركة أو مكالمة هاتفية أو رسالة إلكترونية بصمة رقمية يمكن أن يستغلها جارٌ فضولي أو حكومة قمعية أو عدوٌ شخصي، ويقوم بناءً عليها مرتكبو جرائم تكنولوجيا المعلومات بجمع المعلومات الشخصية لإجراء معاملات بغرض الاحتيال أو الابتزاز وثبيت برامج طلب الفدية.
في نهاية العام 2016 يتضمن مكتب الخدمات الاستراتيجية التابع "لسي أي إيه" فرعاً كاملاً متخصصاً في الاستخبارات المفتوحة المصدر، ويستخدم أحدث تقنيات الذكاء الاصطناعي لتحليل المعلومات وربطها ببعضها، والكشف لما وراء الصور ومقاطع الفيديو التي تمتلأ بها شبكات الإنترنت، حيث كان مكتب الخدمات الاستراتيجية يجمع بدقة آلاف الصحف والمجلات والقصاصات الورقية والتقارير الإذاعية من جميع أنحاء العالم، ويبحث في الصور والمقالات التي يمكن أن تحتوي على معلومات استخباراتيه مهمة وقد قال ويليام دونوفان رئيس مكتب الخدمات الاستراتيجية: "حتى الصحافة المنظمة تكشف مراراً وتكراراً أسرار بلدانها إلى أي متابع نابه".
وقد ذكرت مجلة "وايرد" في ابريل 2016 أن عشرات الشركات الإعلامية مفتوحة المصدر ظهرت في القطاع الخاص في كل من بريطانيا وأمريكا لتقدم خدمة لعدد من العملاء في القطاع الخاص والعام، من خلالها تبحث مجموعة كاملة من الوكالات الحكومية لفهم أفضل لثروة البيانات المفتوحة على شبكة الإنترنت.
إن العصر الحديث للاستخبارات مفتوحة المصدر هو نتيجة لتقارب التكنولوجيات، وقد بدأ هذا حوالي عام 2009، عندما وقعت ثلاثة أشياء: أولاً، كانت كتلة حرجة من الهواتف الذكية مع اتصالات الجيل الثالث، في أيدي مواطنين ساخطين، ثانيًا، يستخدم هؤلاء المواطنون عددًا قليلاً من التطبيقات لتقاسم كمية ضخمة من المحتوى حول الأحداث السياسية داخل بلدهم، ثالثًا، كانت هذه البيانات حرة ومجانية لبقية العالم من أجل الوصول إليها وتحليلها.
وتتنبه مكاتب الاستخبارات حول العالم للمقالات والتحليلات والتنبؤات التي تنشر في البلدان المعنية لتأخذ منها تحليلاً ثاقباً، ومعلوماتٍ استخباراتيةً مهمة، فكل شخص يحمل هاتفاً ذكياً هو جامع متحمل للمعلومات الاستخباراتية، وتبقى المهارة في القدرة على فرز البيانات، عبر معالجات ضخمة، تسعى بشكل أساسي للبحث في ما وراء الصور والفيديو وتحليل المقاطع والصور وتحديد الأماكن، ومعرفة انطباعات الناس، لرسم السياسات.
لكن أجهزة الاستخبارات العالمية تقع الآن في مشكلة "الإغراق المعلوماتي"، حيث تعجز عن إيصال معلومة دقيقة ومختصرة للسلم السياسي لاتخاذ القرارات الهامة، هذه المشكلة واجهت المستوى السياسي في الكيان الصهيوني إبان حرب 2014 على قطاع غزة، حيث رفعت المنظومة الأمنية بيانات ومعلومات أكثر مما يحتاجه المستوى السياسي في الكيان، مما أدى لتخبط واضح في اتخاذ بعض القرارات، ونشب خلاف بين المؤسستين نتيجة هذا الإغراق الكبير في المعلومات، فهم بحاجة لخلاصات دقيقة، لكن حجم البيانات الكبيرة التي حصلت عليها المؤسسة الأمنية الصهيونية جعلها عاجزة لتحليلها تحليلاً دقيقاً، وربطها للوصول إلى خلاصات جاهزة لصناعة القرار.
بالرغم من هامش الحرية الكبير التي منحها العالم الأزرق للجماهير، إلا أنه مخزن لا ينضب من المعلومات جاهز للتنقيب من قبل أجهزة الاستخبارات العالمية، وإدانة واضحة لكثير من الأعمال التي تعتبر من وجهة نظر الحكومات محظورة حين توثق النشاطات عبر صفحات التواصل الاجتماعي، فقد غدت مهمة الاستخبارات أكثر سهولة في الوصول للمعلومات، وأكثر صعوبة في تحليلها، فالحذر من هذا العالم.