خطب الاستسقاء (كل شيء خلق من ماء)
الحمد لله الخلاق العليم، الرزاق الكريم، البر الرحيم؛ أفاض على عباده من رزقه، ووسعت رحمته كل خلقه، واختص بها المؤمنين من عباده، نحمده على آلائه ونعمه، ونشكره على فضله ومننه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ دلت آياته ومخلوقاته على عجيب صنعه، وعظيم خلقه {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ * لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 102- 103]، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ كان إذا حبس القطر هرع إلى الاستسقاء والاستغفار، وإذا تخيلت السماء وجل وخاف العذاب، فإذا مطرت فرح برحمة العزيز الوهاب، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- واستغفروه لذنوبكم {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 135] نستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم ونتوب إليه، نستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم ونتوب إليه، نستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم ونتوب إليه.
أيها الناس: نحتاج إلى الماء فنستسقي الله تعالى لنزوله، ونخشى فقده، ونخاف الغرق به، ولا نستغني عنه. فما أضعفنا أمام الماء وهو خَلْقٌ واحد من خلق الله تعالى!! فلماذا الماء؟ ومتى خُلق الماء؟
من نظر في القرآن والسنة وجد أن الماء من أوائل المخلوقات، حتى كان خلقه قبل خلق السموات والأرض، بل جاء عن بعض السلف أنه أول المخلوقات، ودلت أدلة على أنه خلق قبل العرش، وخلق قبل كتابة المقادير في اللوح المحفوظ.
ولولا أهميته لما تقدم خلقه؛ ولما نوه الله تعالى بذكره في القرآن ملازما لعرشه سبحانه {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هود: 7].
فهذه الآية العظيمة تحكي بداية الخلق، وتثبت أن خلق الماء كان سابقا لخلق السموات والأرض، ويزيد ذلك وضوحا حديث وفد اليمن حين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: «جِئْنَاكَ لِنَتَفَقَّهَ فِي الدِّينِ، وَلِنَسْأَلَكَ عَنْ أَوَّلِ هَذَا الأَمْرِ مَا كَانَ، قَالَ: كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ، ثُمَّ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ، وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ» رواه البخاري.
وإنما تقدم خلق الماء فكان أول المخلوقات؛ لأن الخلائق خلقت من الماء، وأكثرها لا يعيش بلا ماء، وخاصة الأرض وما عليها، فلو انقطع الماء عن الأرض هلك كل ما عليها.
وكون المخلوقات خلقت من الماء دل عليه حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي إِذَا رَأَيْتُكَ طَابَتْ نَفْسِي وَقَرَّتْ عَيْنِي، فَأَنْبِئْنِي عَنْ كُلِّ شَيْءٍ. فَقَالَ: كُلُّ شَيْءٍ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ» رواه أحمد.
وعنه رضي الله عنه قَالَ: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مِمَّ خُلِقَ الخَلْقُ؟ قَالَ: مِنَ المَاءِ» رواه الترمذي.
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى: «وقوله صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة لما سأله: مم خلق الخلق؟ فقال له: من الماء، يدل على أن الماء أصل جميع المخلوقات ومادتها، وجميع المخلوقات خلقت منه».
ويؤيد ذلك فيما يدب على الأرض قول الله تعالى {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ} [النور: 45] فجميع ما يدب على الأرض قد خلق من الماء.
ولا تقتصر أهمية الماء على كونه أول المخلوقات فقط، ولا على أن المخلوقات خلقت من الماء فحسب؛ بل لا بقاء لها إلا بالماء؛ لقول الله تعالى {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ} [الأنبياء: 30].
فذكر سبحانه فتق السموات والأرض في بداية الخلق مقرونا بذكر جعل الماء مادة كل حي، فمن الماء خلق الخلق، وبالماء يحيون ويعيشون، ويعمرون الأرض. ويقرن كل ذلك بطلب الإيمان بالله تعالى {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ} وفي الآية السابقة يُقرن ذكر الماء بالابتلاء؛ لتكون علة خلقنا هي ابتلاؤنا {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}.
فإذا كنا قد خلقنا من الماء، ولا بقاء لنا إلا بالماء، والله تعالى هو خالق الماء، وهو سبحانه مالك الماء، وهو الذي ينزله علينا؛ وجب علينا أن نضرع إلى الله تعالى طالبين الماء، ملحين في الدعاء، مظهرين الفقر والفاقة، خاضعين متذللين منكسرين، داعين مُؤَمِنين مؤملين.
اللَّهُمَّ إِنَّكَ أَنْتَ اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، أَنْتَ الْغَنِيُّ وَنَحْنُ الْفُقَرَاءُ، أَنْزِلْ عَلَيْنَا الْغَيْثَ، وَاجْعَلْ مَا أَنْزَلْتَهُ قُوَّةً لَنَا عَلَى طَاعَتِكَ وَبَلَاغًا إِلَى حِينٍ.
اللَّهُمَّ اسْقِنَا الْغَيْثَ وَلَا تَجْعَلْنَا مِنْ الْقَانِطِينَ، اللَّهُمَّ إنَّ بِالْعِبَادِ وَالْبِلَادِ مِنَ اللَّأْوَاءِ وَالضَّنْكِ وَالْجَهْدِ مَا لَا نَشْكُوهُ إلَّا إلَيْك، اللَّهُمَّ أَنْبِتْ لَنَا الزَّرْعَ، وَأَدِرَّ لَنَا الضَّرْعَ، وَاسْقِنَا مِنْ بَرَكَاتِ السَّمَاءِ، وَأَنْزِلْ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِكَ، اللَّهُمَّ ارْفَعْ عَنَّا الْجَهْدَ وَالْجُوعَ وَالْعُرْيَ، وَاكْشِفْ عَنَّا مِنْ الْبَلَاءِ مَا لَا يَكْشِفُهُ غَيْرُك، اللَّهُمَّ إنَّا نَسْتَغْفِرُك إنَّك كُنْت غَفَّارًا، فَأَرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْنَا مِدْرَارًا، وَأَمْدِدْنَا بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَاجْعَلْ لَنَا جَنَّاتٍ وَاجْعَلْ لَنَا أَنْهَارًا.
اللَّهُمَّ اسْقِنَا وَأَغِثْنَا، اللَّهُمَّ اسْقِنَا غَيْثًا مُغِيثًا، وَحَيًّا رَبِيعًا، وَجَدًا طَبَقًا غَدَقًا مُغْدِقًا مُونِقًا، هَنِيئًا مَرِيئًا مَرِيعًا مَرْبَعًا مَرْتَعًا، سَائِلًا مُسْبِلًا مُجَلِّلًا، دِيَمًا دَرُورًا، نَافِعًا غَيْرَ ضَارٍّ، عَاجِلًا غَيْرَ رَائِثٍ؛ اللَّهُمَّ تُحْيِي بِهِ الْبِلَادَ، وَتُغِيثُ بِهِ الْعِبَادَ، وَتَجْعَلُهُ بَلَاغًا لِلْحَاضِرِ مِنَّا وَالْبَادِ، اللَّهُمَّ أَنْزِلْ فِي أَرْضِنَا زِينَتَهَا، وَأَنْزِلْ عَلَيْنَا فِي أَرْضِنَا سَكَنَهَا، اللَّهُمَّ أَنْزِلْ عَلَيْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا، فَأَحْيِي بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا، وَأَسْقِهِ مِمَّا خَلَقْت أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا. وَصَلِّ اللَّهُمَّ وَسَلِّمْ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
عِبَادَ اللَّـهِ: حَوِّلُوا أَلْبِسَتَكُمْ تَفَاؤُلًا بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى سَيُغَيِّرُ حَالَنَا، فَيُنْزِلُ المَطَرَ عَلَيْنَا، وَادْعُوهُ مُسْتَقْبِلِينَ الْقِبْلَةَ وَأَيْقِنُوا بِالْإِجَابَةِ.
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلَامٌ عَلَى المُرْسَلِينَ، وَالْحَمْدُ لِلَّـهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.