أيام الله تعالى (أيامه سبحانه في السابقين)
الحمد لله العليم القدير؛ مقدر الآجال والأعمار، مصرف الدهور والأعوام؛ عزيز لا يرام، وجبار لا يضام، وقيوم لا ينام، يدبر خلقه على ما يشاء؛ نحمده حمد الشاكرين، ونستغفره استغفار المذنبين، ونسأله من فضله العظيم؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له
"إِذَا قَضَى الأَمْرَ فِي السَّمَاءِ، ضَرَبَتِ المَلاَئِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا خُضْعَانًا لِقَوْلِهِ، كَأَنَّهُ سِلْسِلَةٌ عَلَى صَفْوَانٍ، فَإِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ قَالُوا الحَقَّ، وَهُوَ العَلِيُّ الكَبِيرُ" وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ كان في شدة المحنة، وعظم الكرب، وتكالب العدو؛ يبشر أصحابه بالنصر العظيم، والفتح المبين؛ لعلمه بأيام الله تعالى في عباده، وانتقامه سبحانه من أعدائه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، والتزموا دينه، وثقوا بوعده، وافقهوا عنه سننه؛ فلا تستعجلوا أمره، ولا تستبطئوا نصره، ولا تيأسوا من فرجه {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55].
أيها الناس: من استعرض أيام الله تعالى في الأمم السابقة من خلال آيات القرآن، وأحاديث السنة، وأخبار التاريخ؛ ظهرت له سنن الله تعالى في عباده من إمهال المعرضين المعاندين، والإمداد للطغاة الظالمين، حتى يظنوا أنهم حازوا ما يريدون، وبلغوا ما يؤملون، وأحكموا سيطرتهم على المستضعفين، فأتاهم الله تعالى من حيث لا يحتسبون، وجعل العاقبة للمتقين، والدائرة على الظالمين.
وأيام الله تعالى هي أيام نصره لعباده، وهلاك أعدائه، وهي مبثوثة في آي القرآن للتذكر والاعتبار، وطرد اليأس والقنوط.
والرسل عليهم السلام هم أكثر الناس معرفة بأيام الله تعالى وما يقع فيها من أحداث، وفي خبر نوح عليه السلام أنه حذر قومه من يومٍ لله تعالى فيهم يصيبهم بعذابه، وينزل بهم عقابه {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} [هود:25-26] ولكنهم لم يأبهوا بتحذير نوح لهم، ولم يرهبوا يوما يقع فيه وعيده، فاستعد نوح عليه السلام ليوم الله تعالى في قومه بصنع السفينة في صحراء لا ماء فيها؛ ليقينه بما وعد الله تعالى في يومه من غرق الأرض وما عليها، حتى كان صنعه للسفينة مادة لسخرية قومه به {وَيَصْنَعُ الفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ} [هود:38] ولنتأمل يقينه عليه السلام بيوم الله تعالى فيهم حين قال {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ} [هود:39] فوقع ما قال، وجاءهم يوم الله تعالى، وحل بهم العذاب. ومن يقين نوح بغرق الأرض في يوم الله تعالى قوله لابنه حين اعتصم بالجبل {لَا عَاصِمَ اليَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا المَوْجُ فَكَانَ مِنَ المُغْرَقِينَ} [هود:43].
وخاف هود عليه السلام على قومه أيام الله تعالى فيهم؛ فوعظهم بها، وأنذرهم إياها، وحذرهم ما فيها ومما قاله لهم {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الشعراء: 135] فأنذرهم من يوم لله تعالى فيهم، وخافه عليهم، ووصفه بالعظمة؛ لعلمه بعظمة الله تعالى وعظمة أيامه وما يُجريه فيها من أمره وقدره وعذابه وانتقامه من أعدائه ولكنهم أجابوا غير مبالين ولا مكترثين {قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ * إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ * وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [الشعراء: 136، 138] هذا الاستخفاف بأيام الله تعالى كانت نتيجته عذابا مؤلما مهلكا
{إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ * تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} [القمر:20] وامتد يوم الله تعالى فيهم أياما وليالي ليشتد عليهم العذاب {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى القَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} [الحاقَّة:7] وما أصابهم من أيام الله تعالى في الدنيا لن يكون بديلا عن عذاب الآخرة {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآَخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ} [فصِّلت:16]
وأنذر صالح عليه السلام قومه أيام الله تعالى، وخاف عليهم عذابها، ولا سيما أنهم طلبوا منه آية فأجيب طلبهم، ومن سنة الله تعالى في المكذبين بالآيات بعد طلبها إهلاكهم {قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ * مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ * وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الشعراء: 153 - 156] فأنذرهم يوما لله تعالى فيهم إن هم كذبوا، ولكنهم كذبوا فأخبرهم أن يوم الله تعالى فيهم قريب، ومن يقينه بالله تعالى أنه أعلمهم بوقت وقوعه {فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ * فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ القَوِيُّ العَزِيزُ * وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ} [هود:65-67].
وأنذر لوط عليه السلام قومه أيام الله تعالى، وحذرهم من يوم فيه عذابهم، ولكن شكهم غلب يقينهم، وتكذيبهم كان أقوى من تصديقهم {وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ} [القمر: 36] فوُعدوا بعذاب في صبح يوم من أيام الله تعالى {إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} [هود:81] فأصابهم ما وعدوا {وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ * فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ} [القمر: 38- 39].
وأنذر شعيب عليه السلام قوما يوما من أيام الله تعالى يصيبهم فيه بعذاب محيط {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا المِكْيَالَ وَالمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ} [هود:84]. وذكرهم بأيام الذين خلوا من قبلهم فقال لهم {وَيَاقَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ} [هود: 89] فأصابهم يومهم، وحق عليهم فيه عذاب ربهم، جزاء تكذيبهم لنبيهم {فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الشعراء: 189] قال ابن عباس رضي الله عنهما: «بَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَمَدَةً وَحَرًّا شَدِيدًا، فَأَخَذَ بِأَنْفَاسِهِمْ، فَدَخَلُوا الْبُيُوتَ، فَدَخَلَ عَلَيْهِمْ أَجْوَافَ الْبُيُوتِ، فَأَخَذَ بِأَنْفَاسِهِمْ، فَخَرَجُوا مِنَ الْبُيُوتِ هِرَابًا إِلَى الْبَرِّيَّةِ، فَبَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ سَحَابَةً فَأَظَلَّتْهُمْ مِنَ الشَّمْسِ، فَوَجَدُوا لَهَا بَرْدًا وَلَذَّةً، فَنَادَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا، حَتَّى إِذَا اجْتَمَعُوا تَحْتَهَا، أَرْسَلَهَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ نَارًا». قَالَ «فَذَلِكَ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ، إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ».
تلك جملة من أيام الله تعالى في الذين خلوا من قبل، وهي أيام عظة وعبرة للمقصرين في جنب الله تعالى، وأيام نعمة وشكر وفرح للمؤمنين بهلاك المكذبين، وأيام تسلية للمضطهدين من المؤمنين بأن العاقبة ستكون لهم، وأن أيام الله تعالى لا بد أن تصيب الكفار والمنافقين، ولو أُملي لهم، ومُد لهم في طغيانهم؛ فإنما ذلك استدراج لهم كما استُدرج الذين من قبلهم لموعد هلاكهم {وَتِلْكَ القُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا} [الكهف:59].
وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم...
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واحذروا نقمته فلا تعصوه؛ فإن له سبحانه أياما في عباده يعز فيها ويذل، ويرفع ويضع، ويعطي ويمنع، وينجي ويهلك، وينعم ويعذب، وأولى الناس بأيام نعمائه الشاكرون، وللكافرين أيام عذابه وانتقامه {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرَّحمن:29].
أيها المسلمون: كان من أعظم أيام الله تعالى في الأمم الغابرة يوم هلاك فرعون وجنده، ونجاة موسى ومن معه. يوم عظيم جاء ذكره في القرآن كثيرا. وفي المبارزة مع السحرة التي كُسرت فيها حجة فرعون قبل هلاكه، وظهر الحق وزهق الباطل؛ واعدهم موسى يوم عيد لهم لكثرة الجمع {قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} [طه:59] وكان فرعون يظن أن ذلك اليوم سيكون له على موسى عليه السلام كما هو ظن السحرة أيضا، ولسان مقالهم {فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ اليَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى} [طه:64] ولكن لله تعالى تدبير غير تدبيرهم؛ فكسرهم بعصا موسى في يوم عيدهم وجمعهم، فكان يوما من أيام الله تعالى التي ظهر فيها الحق على الباطل، وهو الممهد ليوم النصر الأعظم الذي أهلك الله تعالى فيه فرعون وجنده، وأظهر موسى والمؤمنين معه. وقد أمر الله تعالى موسى عليه السلام أن يُذكِّر قومه أيامه سبحانه فيهم بنجاتهم وهلاك عدوهم ونعمه عليهم فقال سبحانه {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [إبراهيم:5] وجاء عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّه قَالَ: «قَامَ مُوسَى يَوْمًا فِي قَوْمِهِ فَذَكَّرَهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ» رواه النسائي.
ولأن وظيفة الأنبياء واحدة، ودينهم واحد؛ فإن نصر أحدهم نصر لجميعهم، كما أنه نصر للمؤمنين كلهم؛ ولذا احتفى النبي صلى الله عليه وسلم بيوم عاشوراء لانتصار موسى والمؤمنين على فرعون والكافرين حتى إن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ عَاشُورَاءَ يَوْمٌ مِنْ أَيَّامِ اللهِ» وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «... صِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ، أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ» وأمر بمخالفة اليهود في صيامه وقال «لَئِنْ بَقِيتُ إِلَى قَابِلٍ لَأَصُومَنَّ التَّاسِعَ» روى هذه الأحاديث مسلم في صحيحه.
فكان عاشوراء من أيام الفرح بانتصار الإيمان على الكفر، والعدل على الظلم، والحق على الباطل، وهو عند المؤمنين يوم شكر لله تعالى على نعمائه؛ ولذا صامه النبي صلى الله عليه وسلم وأمر بصيامه، فصوموه -رحمكم الله تعالى- وخالفوا اليهود فيه فصوموا التاسع معه.
وصلوا وسلموا على نبيكم...