• - الموافق2024/11/26م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
التعليم ونهضة الأمة (التجربة الطوسية)

التعليم ونهضة الأمة (التجربة الطوسية)


الحمد لله الخلاق العليم {عَلَّمَ بِالقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:4-5] نحمده بالإسلام والإيمان، وتصريف الدهور والأعوام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له {خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالفَخَّارِ} [الرَّحمن:14] وفضله بالعقل والعلم والإيمان على سائر الحيوان، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ غرس حب التعلم والتعليم في قلوب أصحابه فأخبرهم أن خيرهم من تعلم القرآن وعلمه، وجعل فضيلة العلم موازية للجهاد أو مقدمة عليه؛ لأنه جهاد الكلمة، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.

أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وتعلموا العلم وعلموه؛ فلأن يموت المرء عالما أو متعلما خير من أن يموت جاهلا {يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11].

أيها الناس: لا تنهض الأمم إلا بالعلم والتعليم، ولا شيء أضر عليها من الجهل والتجهيل؛ فإن الجهل جامع لكل خصال الشر، وصاحبه لا يملك من أمره شيئا، بل يسيره أعداؤه حيث يريدون؛ ولذا كان الواعون من أبناء الأمم قديما وحديثا يتوجهون للعلم والتعليم، والدول التي أنفقت على العلم والتعليم فاقت الدول التي أنفقت على العمران والتسليح؛ لأن العلم يأتي بالعمران والتسليح، وهما لا يأتيان بالعلم. ذلك أن العلم فيه بناء الإنسان، وإذا أُحسن بناؤه استطاع أن يشيد العمران والحضارة.

وفي تاريخ الإسلام نماذج مشرقة، وتجارب ناجحة للنهوض بالأمة من تخلفها وانحطاطها عبر بوابة العلم والتعليم.

وفي القرنين الرابع والخامس الهجريين كان في الأمة من أدواء التفرق والاختلاف ما يشبه حال المسلمين اليوم، مع غزو صليبي دموي احتل بلاد الشام وبيت المقدس، وتمدد باطني مؤازر للصليبيين استولى على كثير من الديار، وما أشبه الليلة بالبارحة، والحال بالحال، بعد ألف عام. وأخبار الماضي فيها دروس وعظات للحاضر، وتعين على استشراف المستقبل.

 وحين دب التفرق والاختلاف بين المسلمين آنذاك لم يجمعهم إلا العلم مع الإيمان، ولم يجعل لديهم قدرة على مواجهة الصليبيين والباطنيين إلا وعيهم بحقيقة أعدائهم، وعلمهم بأن قوتهم في دينهم.

والحديث عن الحقبة الماضية التي تشبه عصرنا هذا حديث طويل متشعب، وحسبنا فيه تجربة واحدة اضطلع بها وزير من وزراء الدولة السلجوقية، التي نهضت لكسر العدوان الصليبيي والباطني على المسلمين.

صاحب هذه التجربة هو وزير الدولة السلجوقية الملقب نظام المُلك الحسين بن علي الطوسي، وقد فطن إلى أنه لا سبيل للنهوض بالمسلمين والقضاء على تفرقهم واختلافهم إلا بوعيهم، ولا يتحقق وعيهم إلا بنشر العلم فيهم، وحينها يمكنهم مواجهة الصليبيين والباطنيين.

    كانت المدارس قبله مدارس فردية ينشئها أفراد، وكان تأثيرها محدودا؛ لضعف الإنفاق عليها. وفي منتصف القرن الخامس الهجري تقلد الحسين الطوسي الوزارة للسلطانِ أَلْبِ أَرْسَلَانَ، فصرف اهتمامه للعلم والتعليم، وإنشاء المدارس، وتقريب العلماء، حتى قال فيه أبو الوفاء ابن عقيل الحنبلي وقد عاش في زمنه، وكان ثمرة من ثمرات مدارسه، قال: وأما النِظامُ فإن سيرته بهرت العقول جودا وكرما وحشمة وإحياء لمعالم الدين، فبنى المدارس، ووقف عليها الوقوف، ونعش العلم وأهله، وعمر الحرمين، وعمر دور الكتب، وابتاع الكتب فكانت سوق العلم في أيامه قائمة.

وكان مجلسه عامراً بالفقهاء والعلماء حيث يقضي معهم جُلّ نهاره فقيل له: إن هؤلاء شغلوك عن كثير من المصالح، فقال: هؤلاء جمال الدنيا والآخرة، ولو أجلستهم على رأسي لما استكثرت ذلك. وكان محبا للعلم وخصوصاً الحديث، شغوفاً به، وكان يقول: إني أعلم بأني لست أهلاً للرواية ولكني أحب أن أربط في قطار نقلة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.

بهذه الروح المحبة للعلم والمعرفة تولى نظام الملك الطوسي الوزارة، والإمكانات تحت يديه، والناس في أشد الحاجة إليه؛ لينتشلهم بالعلم من الجهل؛ لئلا يكونوا فرائس لدعاة الباطنية.

لقد كان الباطنيون يتغلغلون في عوام المسلمين عن طريق الدعوة إلى مذاهبهم الخبيثة مستغلين جهلهم، ففكر الوزير نظام المُلك في أن يقاوم النفوذ الباطني بنفس الأسلوب الذي ينتشر به، وذلك بأن يقرن المقاومة السياسية والعسكرية للباطنيين والصليبيين بمقاومة فكرية أيضاً، وتربية الأمة على الكتاب والسنة. ومن هنا كان تفكيره في إنشاء المدارس النظامية التي نسبت إليه؛ لأنه هو الذي جدَّ في إنشائها وخطط لها، وأوقف عليها الأوقاف الواسعة، واختار لها الأكفاء من الأساتذة، فنسبت إليه دون السلاجقة، وقيل (المدارس النظامية).

 كان يبني المدارس في طول البلاد وعرضها، ويوقف عليها الأوقاف العظيمة، ويختار مدرسيها بعناية، حتى كانوا أعلام عصرهم في شتى الفنون، فكانت مدارس قوية في تدريسها ومدرسيها ومواردها وخريجيها، وقصد البقاع التي ينشط فيها دعاة الباطنية فكثف التعليم فيها ليزيل جهل الناس فتضعف دعوة الباطنيين. وإذا اكتشف عالما كبيرا أو مدرسا مميزا ابتنى له مدرسة تخصه، وجمع له الطلبة فيها، كما فعل مع شيخ الشافعية في وقته أبي إسحاق الشيرازي الذي بنا له نظامية بغداد. وجعل في المدارس إسكانا للطلاب، وأجرى عليهم الأرزاق من أوقافها؛ لينقطعوا للعلم والبحث والمعرفة، وكان يتفقد هذه المدارس بنفسه رغم ضيق وقته وكثرة أعبائه.

ولأنها مدارس قوية ماديا وعلميا فإنها خرجت آلاف العلماء الذين واجهوا المذاهب الباطنية، واخترقوها في عقر دارها، وكسروا بالحجة والبيان مذاهبها، وأنقذوا الناس من ضلالها. وبعض مدارسه استمر عطاؤها وتخريجها للعلماء أربعة قرون.

 ولما لهذه المدارس النظامية من أثر كبير في بث الوعي في الأمة ابتداء من القرن الخامس الهجري فما بعده من القرون فإن النفوذ الباطني عاد إلى حجمه الطبيعي، وضعف دعاة الباطنية، وصاروا أقلية منبوذة خارجة عن النسيج العام للأمة. فلا عجب والحال كذلك أن يدبر الباطنيون مؤامرة اغتيال هذا الوزير المخلص، ولا سيما أنه ألف كتابا في السياسة والإدارة حذر فيه من الباطنيين، وذكر أن زعماءهم من نسل الفرس الساسانيين الذين يريدون إعادة إمبراطورية الفرس على حساب المسلمين، فتخفى له شاب منهم في زيي فقير جاءه ليسلم عليه ويسأله، فطعنه طعنة قاتلة. وكان ذلك في رمضان من عام خمسة وثمانين وأربع مئة للهجرة النبوية، رحمه الله تعالى رحمة واسعة.

ولكن أثر المدارس النظامية التي نسبت إليه بقي في الأمة، فالجيلان الأول والثاني من خريجيها دحروا الباطنية فكريا وعسكريا في كثير من الأصقاع، والجيل الثالث من خريجيها دحروا الصليبيين في معركة حطين، ثم تسنى لهم بعدها فتح بيت المقدس، وتخليصه من رجسهم، إضافة إلى ما نتج عن هذه المدارس من نهضة علمية قوية امتدت تغذي الأمة بالعلم والمعرفة والكتب قرونا متتابعة.

وحري بكل من له اهتمام بالعلم والتعليم أن يعتني بهذه التجارب التاريخية الناجحة، للاستفادة منها، ونقلها للمدارس والطلبة؛ لاستشعار أهمية العلم والمعرفة في مواجهة تحديات الأمة؛ فإن الوعي هو أول درجات النصر، وإن الجهل أمضى سلاح لتمكن العدو.

نسأل الله تعالى أن يعيد لهذه الأمة عزها ومجدها، وأن ينير بالعلم طريقها، وأن يزيل جهلها وتفرقها، وأن يكبت أعداءها. إنه سميع مجيب.

 

وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم...

الخطبة الثانية

الحمد لله حمداً طيباً كثيراً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين.

أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [البقرة:281].

أيها المسلمون: رغم ما تعانيه الأمة في هذا العصر من أدواء التفرق والشقاق، وتسلط الأعداء؛ فإن ما انتشر فيها من وعي أبطل كثيرا من كيد الأعداء ومكرهم. وكان سبب هذا الوعي ما انتشر من علم شرعي مؤصل خلال العقود الثلاثة الماضية. كما أن من بركة انتشار العلم الشرعي أنه القوة الدافعة لانتشار الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها بمنهجه النقي الأثري الذي لم يتلوث بأوضار البدعة.

وهذا ما جعل الأعداء من يهود ونصارى وعلمانيين وباطنيين ينزعون أقنعتهم التي استتروا بها طيلة العقود الماضية، ويصطفوا سويا لمحاربة أهل السنة، ثم لما عجزوا عن وقف المد السني جروا معهم لفيفا من أهل البدع الكلامية والصوفية ليعينوهم على ذلك، ولن يفلحوا.

 إن بركة العلم والمعرفة لا تقتصر على مجرد حماية الأمة من الجهل، ولكنها تؤثر في الأمم الأخرى بإخراجهم من جهلهم، واصطفافهم مع أمة الحق، وهذا ما أعيا أهل الضلال فاجتمعوا على الحق لوأده، ومحو أهله، ولن يفلحوا ما دام أهل الحق متسلحين بالعلم؛ ولذا فإن العناية بالعلم والتعليم ليس سلاح مدافعة فقط. بل هو من أمضى أسلحة الهجوم على حصون الأعداء لتقويضها. وما ساد الصحابة وأتباعهم العالم بقوة عسكرية أو اقتصادية أو سياسية سوى الإيمان، وطريق الإيمان وترسيخه ومعرفة أجزائه ولوازمه ونواقصه ونواقضه لا تكون إلا بالعلم؛ ولذا بدأ الله تعالى به قبل القول والعمل في قوله سبحانه {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ} [محمد:19] ولا يزهد في العلم الشرعي إلا من يريد للأمة أن تفقد وعيها، ليستلبها غيرها، فهو غاش وليس بناصح.

 {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن: 1 – 4]

وصلوا وسلموا على نبيكم...

 

 

 

 

أعلى