"تيريزا ماي".. هل تقود بريطانيا إلى التقسيم؟
بتسلمها المنصب، مساء الأربعاء، تصبح "تيريزا ماي"، ثاني امرأة تتولى رئاسة وزراء بريطانيا بعد مارغريت تاتشر، التي حكمت البلاد في الفترة من 4 مايو/آيار 1979 وحتى 28 نوفمبر/تشرين ثاني 1990.
تنحي ديفيد كاميرون عن المنصب، وبعد التصويت لصالح انفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي، مهد الطريق لـ "ماي" باعتبارها الرئيسة الجديدة لحزب المحافظين الحاكم، لتشكيل الحكومة الجديدة.
"ماي" التي يطلق عليها زملاؤها لقب "ملكة الثلج" بسبب برودة أعصابها، ومواقفها التسلطية، وصرامتها، ومصداقيتها السياسية، تواجه تحديات إرساء الاستقرار في البلاد، بعد استفتاء 23 يونيو/ حزيران الماضي، والذي جاءت نتيجته لصالح خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
أبرز هذا التحديات التي تواجه رئيسة الحكومة الجديدة تتمثل في كيفية الحفاظ على قيمة الجنيه الاسترليني، الذي نزل إلى أقل قيمة له منذ 30 عامًا.الغموض الذي يحيط بشكل العلاقة المستقبلية بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي بعد خروج لندن من الاتحاد، يمثل تحديًا آخر يواجه رئيسة الوزراء الجديدة.
"تيريزا ماي مملة ويمكن الاعتماد عليها. وربما يكون هذا بالضبط ما تحتاج إليه بريطانيا الآن"، كان هذا هو العنوان الذي وضعته إحدى الصحف البريطانية مؤخرًا، وربما يلخص هذا العنوان الظروف التي تمر بها بريطانيا حاليًا، وما ينتظره الشعب من "ماي".
وتلخص ماي رؤيتها بالقول: "فلسفتي هي العمل لا الحديث"، وتعارض النظر إلى السياسة باعتبارها "لعبة"، وتشرح مدى جديتها في التعامل مع السياسة بالقول: "القرارات التي نتخذها تؤثر على حياة الناس، وهذا شيء لابد أن نفكر فيه دائمًا".
تقول ماي عن نفسها إنها ابنة رجل دين، وحفيدة عسكري، وتعلق على ذلك بالقول إن الخدمة العامة كانت دائمًا جزءًا من حياتها.وقفت ماي إلى جانب كاميرون، في الفترة التي سبقت الاستفتاء، وأيدت بقاء بريطانيا داخل الاتحاد الأوروبي، إلا أنها تجنبت في الوقت نفسه، لعب دور فعال في الحملة الداعية للتصويت لصالح البقاء في الاتحاد.
ورغم موقفها ذلك، تلتقي ماي مع آراء المؤيدين لانفصال بريطانيا عن الاتحاد، في عدد من الموضوعات الهامة على رأسها المهاجرين، والاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان، وهو ما جعل البعض ينظر إليها باعتبارها "مؤيدة سرية للانفصال" في الحكومة، كما أدى ذلك إلى حصولها على دعم قسم هام من المؤيدين للانفصال عن الاتحاد، في ترشحها لرئاسة حزب المحافظين، وبالتالي الحكومة البريطانية.
ماي، متدينة بالقدر الذي يجعلها تذهب للكنيسة كل أحد، كما يشتهر عن ماي كونها حذرة إلى درجة تجعلها لا تترك أي شيء للظروف، حتى أنها تحمل معها في حقيبتها أينما ذهبت، شاي "إيرل جراي"، المولعة به.
ويشير زملاء ماي، خلال توليها منصب وزارة الداخلية، إلى أنها تولي "اهتمامًا مجهريًا" بالتفاصيل، إلا أن دقة ماي، والسياسات التي طورتها خلال توليها الوزارة، لم ترضِ الجميع.
يحسب لماي خلال توليها وزارة الداخلية، أن البلاد لم تشهد في تلك الفترة أي هجوم إرهابي كبير، كما انخفضت معدلات الجريمة، إلا أنه يحسب عليها الفشل في تنفيذ وعدها بخفض معدل صافي الهجرة السنوي في بريطاني من 300 ألف إلى 100 ألف مهاجر.
كما سجلت ماي نقطة لصالحها، خلال توليها الوزارة، بتمكنها من ترحيل المواطن الأردني المعروف، عمر محمود عثمان، الملقب بـ "أبو قتادة"، والذي تم اعتقاله عدة مرات منذ عام 2001، بتهم مختلفة، ومن ثم إطلاق سراحه.
وأسهمت القرارات التي أصدرتها المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، لصالح أبو قتادة، في اتخاذ ماي موقفًا معارضًا للمحكمة، ومن المحتمل أن تقوم بريطانيا خلال تولي ماي رئاسة وزرائها، بالانسحاب من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان، بالإضافة إلى الانسحاب من الاتحاد الأوروبي.
وتعرضت ماي لانتقادات منظمات حقوق الإنسان، بسبب برنامج الوقاية، الذي أطلقته ضمن جهود مكافحة ما يعرف بـ "التطرف الإسلامي"، كما انتقدت النقابات البرنامج، متهمة إياه بتحويل المدرسين إلى "عملاء سريين"، حيث يطلب البرنامج من المدرسين، إبلاغ الشرطة عن أي آراء أو تصرفات "مشبوهة" للطلاب، وقد اتضح أن أكثر من 90% من البلاغات التي وصلت للشرطة ضمن البرنامج، كانت بلا أساس، ويمكن وصفها بالكوميدية.
واستحقت ماي لقب "ملكة الثلج" عن جدارة، خلال تعاملها مع أزمة اللاجئين التي ضربت أوروبا خلال عام 2015، حيث كانت من أشد المدافعين عن السياسة البريطانية القائلة بقبول بريطانيا 20 ألف لاجئ فقط خلال 4 سنوات، بشرط اختيار هؤلاء اللاجئين من المخيمات، كما عارضت بشدة، قبول بلادها 3 آلاف من الأطفال المهاجرين، الموجودين في مخيم كاليه بفرنسا.
وفي الوقت الذي مدحت فيه وسائل الإعلام البريطانية ماي، بسبب مكافحتها للفساد في أجهزة الشرطة، وحدها من صلاحيات التفتيش الواسعة التي كانت تمتلكها، فإنها دخلت التاريخ باعتبارها وزيرة الداخلية التي قامت بتوسيع سلطات الأجهزة الأمنية في مراقبة الحياة الخاصة للمواطنين ببريطانيا.
تتمثل أبرز المهام التي تنتظر ماي كرئيسة لوزراء بريطانيا، في مفاوضات شروط الانفصال عن الاتحاد الأوروبي، التي ستبدأ بتفعيل المادة 50 من معاهدة لشبونة.أكدت ماي بكل وسيلة ممكنة أنها ستطبق قرار انفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي، وأعلنت أنها ستعمل على الوصول لاتفاق مع الاتحاد الأوروبي، يسمح بالاستمرار في تبادل السلع والخدمات بين بريطانيا والاتحاد، إلا أنه يضع الهجرة إلى بريطانيا تحت السيطرة.
ويدور جدل حول مدى إمكانية موافقة الاتحاد على اتفاق بالشكل الذي تريده ماي، والذي لا تتخلى فيه عن تحفظاتها المتعلقة بالهجرة وحرية التنقل، وتحتفظ في الوقت نفسه بميزة تبادل السلع والخدمات مع أوروبا. كما ينتظر المراقبون معرفة كيف ستقاوم ماي ضغوط الاتحاد الأوروبي، لتفعيل المادة 50 من معاهدة لشبونة في أسرع وقت ممكن، في الوقت الذي تصر هي فيه على تأجيل ذلك إلى نهاية العام الجاري.
وقد تضطر حكومة ماي إلى إنشاء وزارة لمتابعة شؤون الانفصال عن الاتحاد الأوروبي، وما يتطلبه ذلك من تنقية التشريعات البريطانية من آثار عضوية الاتحاد التي استمرت 40 عامًا، ومن إعادة تنظيم علاقات بريطانيا مع كل دولة من دول الاتحاد، ومن المؤكد أن ماي ستوجه جميع طاقاتها للتعامل مع عملية الانفصال.
وبالتوازي مع نتائج الاستفتاء البريطاني، فإنّ المشكلة الثانية التي تنتظر ماي، هي احتمال إجراء استفتاء جديد في اسكتلندا، بخصوص الاستقلال، لا سيما أنّ الاستفتاء الأول جرى في عام 2014، وأسفر عن إقرار الشعب الاسكتلندي بالاستمرار ضمن المملكة المتحدة التي تضم تحت سقفها أيضاً كلاً من إنكلترا، وويلز، وأيرلندا الشمالية، وذلك تحت ضغط الحملات التحريضية التي روّجت لفكرة مفادها، أنّ الاستقلال عن المملكة المتحدة، سيؤدّي إلى الخروج من الاتحاد الاوروبي.
وأعلنت نيكولا ستورجيون، رئيسة وزراء اسكتلندا عقب نتائج الاستفتاء البريطاني مباشرةً، أنّ بلادها ستبحث عن وسيلة تضمن فيها عدم الذهاب إلى استفتاء جديد بخصوص الاستقلال، وأنها ستعمل على إيجاد صيغة تضمن بقاء اسكتلندا داخل الاتحاد الاوروبي، حتّى في حال خروج المملكة المتحدة منه.
ومقابل هذا الوضع، فإنّ مهمة إيجاد وسيلة لضمان بقاء اسكتلندا داخل الاتحاد الاوروبي، تعتبر من المشاكل التي تنتظر ماي خلال المستقبل القريب.ومن جانب آخر، من الواضح أنّه لا مفر من التأثيرات السلبية لخروج بريطانيا من الاتحاد الاوروبي، على عملية السلام في أيرلندا الشمالية.
ولا تعد اسكتلندا العنصر الوحيد الذي يهدد وحدة المملكة المتحدة، فالتقارب في نتائج الاستفتاء بين المؤيدين لخروج بريطانيا من الاتحاد، ومعارضي هذه الخطوة، قسّم البلاد إلى نصفين، وبما أنّ الحركات اليمينية المتطرفة، قادت حملة الخروج من الاتحاد، فإنهم يعتبرون أنّ كل من صوّت لصالح قرار الخروج (52%) من قاعدتهم الشعبية، وهذا الأمر أدّى بطبيعة الحال إلى تصاعد وتيرة الكره والعداء للأقليات والأجانب في البلاد، لا سيما أنّ إحصائيات الشرطة البريطانية تفيد بأنّ الجرائم الناجمة عن العداء للأجانب والأقليات، زادت بنسبة 45% خلال الأسبوعين الاخيرين.
ومن أولويات ماي أيضاً، العمل على توحيد حزب المحافظين، الذي تشتت خلال الحملات التحضيرية للاستفتاء، لكن الشارع البريطاني يرى في ماي، الشخص الأنسب للقيام بمهمة الجمع بين أنصار ديفيد كاميرون المعارض لفكرة الخروج من الاتحاد الاوروبي، وأنصار رئيس بلدية لندن السابق بوريس جونسون، الذي أيّد بشدة فكرة الخروج من الاتحاد، تحت سقف الحزب.
وينتظر الشارع البريطاني بشغف، اللائحة الوزارية التي ستعلن عنها ماي خلال الأسبوع القادم، سيما أنّ التشكيلة الوزارية المرتقبة ستكون أولى مؤشرات نجاح ماي في مهمة توحيد شتات الحزب، من عدمه.
تعتبر ماي ثالث سياسي يعتلي منصب رئاسة الوزراء في بريطانيا دون انتخابات رسمية، خلال آخر 26 عاماً، إذ سبق لجون ميجر عام 1990، وجوردون براون عام 2007، أن اعتليا كرسي رئاسة الوزراء من دون انتخابات.
ومنذ اللحظة الأولى من خلو الساحة لماي لاستلام هذا المنصب، بدأت أصوات المعارضة تتعالى، مطالبةً بإجراء انتخابات مبكرة في البلاد، ورغم أنّها استبعدت احتمال الانتخابات المبكرة، إلّا أنّ ندائها لبراون الذي استلم رئاسة الوزراء في عام 2007، عقب استقالة توني بلير، بضرورة إجراء انتخابات مبكرة، ما زال في ذاكرة البريطانيين.
وفي خضم هذه الضغوط فإن من المتوقع أن تضطر ماي إلى إجراء انتخابات مبكرة، كي تحصل على مصادقة الشعب البريطاني لها كرئيسة لمجلس الوزراء.
ولدت ماي، وهي ابنة رجل دين أنجليكاني، في الأول من تشرين الأول/ أكتوبر عام 1956، وتلقت علومها في مدارس الدولة، وتخرجت من كلية الجغرافيا بجامعة أوكسفورد، لتبدأ حياتها المهنية في البنك المركزي البريطاني.
ودخلت ماي عالم السياسة عام 1986، عبر بوابة بلدية منطقة ميرتون بلندن، حيث أصبحت عضوة فيها، لتترشح عامي 1992، و1994 في الانتخابات العامة، لكنها فشلت في كلا الاستحقاقين من الظفر بمقعد في البرلمان البريطاني.
وفي انتخابات عام 1997، استطاعت ماي دخول البرلمان البريطاني، رغم فقدان حزب المحافظين لأكثر من نصف مقاعده في البرلمان، لصالح حزب العمال الذي كان يترأسه توني بلير آنذاك.
ومنذ عام 1998 شغلت ماي مناصب متعددة في حكومات الظل التي يشكلها حزب المحافظين المعارض، وفي عام 2010، حظيت بمنصب وزيرة الداخلية في الحكومة الائتلافية التي تشكلت بين حزب المحافظين والحزب الليبرالي الديمقراطي.
وعقب فوز حزب المحافظين بزعامة كاميرون في انتخابات عام 2015، استمرت ماي في شغل منصب وزارة الداخلية، واعتلت مؤخراً منصب رئاسة الوزراء، عقب إعلان منافستها، أندريا ليدسوم، الانسحاب من سباق رئاسة حزب المحافظين.
ومنذ اليوم الأول من تفردها بمنصب رئاسة الوزراء، بدأت الأوساط السياسية والإعلامية بعقد مقارنة بينها، وبين رئيسة الوزراء الراحلة، مارغريت تاتشر، التي تعد أول امرأة شغلت هذا المنصب في بريطانيا، بين عامي 1979، و1990، واستطاعت ترك بصمتها على السياسة في الداخل البريطاني والعالم بأسره.
وأوجه التشابه بينهما لا تقتصر على اشتراكهما في الطباع النفسية المتمثلة بالمزاج الصعب، فكلتاهما تختلفان عن بقية ساسة حزب المحافظين، في كونهما تلقيتا تعليمهما في مدارس الدولة، وترعرعتا وسط عائلات الدخل المتوسط.
وتخرجت ماي من كلية الجغرافيا في جامعة أوكسفورد، فيما درست تاتشر كلية الكيمياء في الجامعة نفسها، وهما ابنتين لرجلين يعملان في مجال التبشير للمسيحية. ومن اللافت أيضاً أنّ كلتاهما لم تتمكنا من الظفر بمقاعد برلمانية في أول استحقاقين انتخابيين خاضتاهما، وشغلت تاتشر منصبي وزارة التعليم والأمن الاجتماعي، لمدة 6 أعوام و9 أشهر قبل اعتلائها منصب رئاسة الوزراء، فيما شغلت ماي منصب وزارة الداخلية لمدة 6 أعوام وشهرين.وبسبب جديتها ومزاجها الصعب، أطلق البريطانيون على تاتشر لقب "المرأة الحديدية"، فيما اطلق زملاء ماي عليها لقب "ملكة الثلج".