• - الموافق2025/11/05م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
رحل تشيني.. وجه أمريكا الصهيوني ومهندس الحرب على الإسلام

كان ديك تشيني هو العقل المدبر وراء إقرار مبدأ "الضربة الوقائية"، الذي شرّع للولايات المتحدة شن هجمات عسكرية استباقية بحجة الدفاع عن الأمن القومي، دون انتظار وقوع الخطر فعليًا. هذا المبدأ سُمِح من خلاله بتبرير الغزو والعدوان العسكري على عدد من الدول الإسلا


لم يكن ديك تشيني مجرد نائبٍ للرئيس الأمريكي جورج بوش الابن، بل كان الرجل الذي جسّد جوهر العقيدة الأمريكية بعد 11 سبتمبر: الحرب المفتوحة على الإسلام تحت شعار "الحرب على الإرهاب".

كان تشيني يؤمن بأن الصراع مع العالم الإسلامي صراعٌ حضاري لا يمكن حسمه إلا بالقوة، وكان يرى أن ما يسميه الغرب "الإسلام المتشدد" هو الخطر الأكبر على الحضارة الغربية. في إحدى تصريحاته قال إن "القاعدة تمثل موجة جديدة كاملة من الجهاديين، وأنها لن تختفي، بل ستتوسع إن لم نواصل الحرب بلا هوادة"، وهي الجملة التي استُخدمت لتبرير غزو العراق وأفغانستان وتوسيع العمليات في الشرق الأوسط.

كما قال في مناسبة أخرى: لقد أعلنوا نيتهم التسلح بأسلحة دمار شامل، لتدمير إسرائيل، ولإحداث موتٍ جماعي هنا في الولايات المتحدة، وهو اقتباس يعكس انحيازه العقائدي العميق للكيان الصهيوني، وتصويره الإسلام كتهديد وجودي مزدوج لإسرائيل ولأمريكا معًا

كان تشيني جزءًا من تيار المسيحية الصهيونية الذي يرى في دعم إسرائيل واجبًا دينيًا مقدسًا، وكان يعتقد أن إعادة رسم خرائط الشرق الأوسط ضرورة أخلاقية واستراتيجية في آنٍ واحد.

لم يكن يتحدث عن الإرهاب بقدر ما كان يتحدث عن الإسلام كمنظومة يجب إصلاحها بالقوة. وراء عباراته الباردة ومفرداته الأمنية كانت تختبئ رؤية أيديولوجية تُقدّس إسرائيل وتشيطن كل مقاومة إسلامية، وتحوّل النفط والعقيدة إلى وقودٍ لحروبٍ لا تنتهي

ومع رحيله اليوم، يرحل أحد أخطر الوجوه التي حملت الكراهية باسم الحرية، وخططت للدمار باسم الديمقراطية، لكنه يترك وراءه ميراثًا من الحروب والدماء، ومشروعًا لا يزال يجد من يواصل خدمته حتى بعد موته.

نشأةٌ هامشية وصعودٌ إلى قلب السلطة

من ولاية نبراسكا المغمورة، خرج ديك تشيني طفلًا خجولًا ليصبح أحد أكثر الرجال نفوذًا في تاريخ واشنطن الحديث. بدأ حياته موظفًا بيروقراطيًا مغمورًا، ثم صعد بخطى ثابتة داخل دهاليز السلطة، حتى أصبح وزيرًا للدفاع في عهد جورج بوش الأب، ثم عاد بعد عقدٍ من الزمن نائبًا للرئيس في إدارة جورج بوش الابن، لكنّه لم يكن نائبًا تقليديًا بأي حال

لقد جعل من المنصب الممل مركزًا خفيًا لصناعة القرار، يحرك خيوط السياسة من وراء الستار، كما لو كان الرئيس الفعلي للولايات المتحدة.

قال تشيني ذات مرة في مقابلة نادرة: لقد قررت حين انضممت إلى الرئيس أن تكون الأجندة الوحيدة التي أتبناها هي أجندته، وأنني لن أكون كنائب الرئيس المعتاد الذي يناور من أجل خلافة الرئيس بعد نهاية ولايته.

بهذا المنطق، كان تشيني يمارس نفوذه، يصوغ السياسات، ويؤطر الحروب، ويزرع رجاله في مفاصل الدولة العميقة. لم يكن مجرد نائب، بل النسخة الهادئة من القوة الجبرية الأمريكية التي تتكلم قليلاً وتفعل كثيرًا ومن قلب الظل، أعاد رسم ملامح العالم على مقاس مصالحه ومصالح من يمثلهم.

مهندس الحرب على الإسلام

كان ديك تشيني أحد المهندسين الفعليين لعقيدة ما بعد 11 سبتمبر: عقلية اعتبرت أن المواجهة مع ما سُمّي «الإسلام المتطرّف» تتطلب حربًا ممتدة ولامتناهية، وليس سياسة احتواء أو معالجة اجتماعية.

بفضل هذا البُعد العقائدي تحوّل خطاب الأمن إلى تبريرٍ لإعادة رسم خرائط المنطقة، ومن ذلك غزو أفغانستان والعراق؛ قرارات لم تُحدث فقط دمارًا مؤسسيًا بل خلفت حصيلة بشرية مروعة: تقدر حسابات مشروع Costs of War أن العنف المسلّح المباشر بين 2001 و2023 أودى بما يزيد على 940,000 شخص، منهم أكثر من 432,000 مدنياً؛ وفي أفغانستان وحدها تُقدَّر الوفيات المباشرة بنحو 176,000 شخص (منهم نحو 46,319 مدنياً)، وفي العراق تُظهر سجلات Iraq Body Count أرقامًا للضحايا المدنيين تتراوح تقريبًا بين 187,499 و211,046، مع تقديرات أوسع ترفع إجمالي الوفيات المدنية إلى نحو 300,000

هذه الأعداد، مع الوفيات غير المباشرة الناتجة عن انهيار الخدمات وانتشار الأمراض والجوع، تُحوّل سياسات تشيني إلى آلة عسكرية أنتجت مأساة إنسانية ممتدة. وحتى على المستوى القانوني والسياسي لم تفُت هذه الحروب دون إدانة: قال كوفي عنان عن غزو العراق «إذا شئتم، فقد كان غير قانوني»، عبارة تختزل فشل شرعية قرارٍ دفع ثمنه البشر أولاً وآخرًا

رحل تشيني، لكن سجل الدم والخراب يظل شاهداً صارخًا على حقيقة أن «حربه على الإسلام» كانت، في واقعها، حربًا على مجتمعات بأكملها.

الدولة الأمنية وصناعة الخوف

في عهد ديك تشيني، أصبحت الولايات المتحدة دولة تُدار بالخوف والتهديد المستمر، حيث ابتكر مبدأ "الضربة الوقائية"، وشرّع التعذيب، وأطلق برامج التجسس، وأنشأ سجونًا سرّية، وحوّل الأمن القومي إلى ذريعة لتجاوز القوانين والدستور. قال تشيني بنفسه: «لا مشكلة لدي طالما حققنا هدفنا كنت مستعدًا وفعلنا ذلك، وحصلنا على تفويض من الرئيس ومن وزارة العدل للمضي قدمًا في البرنامج. لقد نجح». وأضاف ردًا على أساليب التحقيق: «سأفعلها مرة أخرى في دقيقة».

وخلص تقرير اللجنة الخاصة للاستخبارات في مجلس الشيوخ الأمريكي إلى أن برنامج الاستجواب والتوقيف السري التابع لوكالة الاستخبارات احتجز نحو 119 معتقلاً، خضع 39 منهم لتقنيات تحقيق مشددة مثل الحبس الانفرادي و"الإغراق الاصطناعي"، بينما تم احتجاز 26 منهم عن طريق الخطأ. وقال تشيني أيضًا: «ما فعلناه بعد 11 سبتمبر كان قرارًا بأن الهجمات الإرهابية التي واجهناها كانت حربًا ولذلك، كنا مبررين في استخدام جميع الوسائل المتاحة لنا لمواجهة تلك الحرب».

أظهرت تقارير منظمات حقوق الإنسان وجود أنشطة احتجاز وسجون سرية تديرها الوكالة في دول عدة، مع برامج تجسس وتدخل تحت غطاء «الحرب على الإرهاب». هذه الممارسات جعلت الديمقراطية الأميركية آلة مراقبة وتحكم قائمة على فزّاعة دائمة اسمها الإرهاب، تصدّر الرعب إلى العالم، وتبرّر تجاوز كل القوانين الوطنية والدولية، وتحوّل الأمن القومي إلى غطاء لسياسة القمع والمراقبة، وهو ما يجسد إرث تشيني كمخطط ومعمّر لعقيدة الهيمنة الأميركية على العالم الإسلامي، ممهّدًا طريق الخراب والفوضى الشاملة في العراق وأفغانستان ومناطق أخرى.

تشير الدراسات الدولية إلى أن الحصيلة البشرية للحرب في العراق بلغت نحو 654,965 وفاة، منها 601,027 نتيجة مباشرة للعنف، بينما تظهر تقديرات أخرى أن نحو 405,000 وفاة زائدة تُعزى للحرب والاحتلال. وقد توصل تحليل موسّع إلى أن نحو نصف مليون عراقي قد ماتوا حتى منتصف 2011، مع إضافة حوالي 56,000 وفاة بسبب تهجير الأسر، ما يعكس حجم الدمار والفوضى التي أحدثتها سياسات تشيني في المنطقة.

الولاء للّوبي الصهيوني

كان ديك تشيني أقرب من أيّ مسؤولٍ أميركي سابق إلى دوائر النفوذ الصهيوني في واشنطن، دعّم إسرائيل دون قيدٍ أو شرط، وشارك في تفكيك كلّ ما يمكن أن يهدّد تفوّقها في المنطقة، من إسقاط العراق إلى تهميش القضية الفلسطينية.

لم يكن يُخفي انحيازه، بل جعل أمن إسرائيل جزءًا لا يتجزّأ من الأمن القومي الأميركي، وهو المبدأ الذي ما زال يُوجّه سياسات واشنطن حتى اليوم.

قال تشيني في مؤتمرٍ صحفي مع رئيس وزراء إسرائيل في القدس عام 2008:

«التزام أمريكا بأمن إسرائيل دائم وثابت، كما أن حق إسرائيل في حماية نفسها دائمًا ضد الإرهاب والهجمات بالصواريخ وغيرها من الهجمات من القوى المكرّسة لتدمير إسرائيل».

وفي لقاءٍ مع آرييل شارون عام 2002 قال: إنه أملنا وقد سعدت بفرصة تأكيد قوة التزام أمريكا بأمن ورفاهية أصدقائنا في إسرائيل وأوضح لي رئيس الوزراء أن أولويته هي ضمان أمن الشعب الإسرائيلي.

تعكس هذه التصريحات بوضوح أن تشيني لم يكن مجرد مؤيدٍ لإسرائيل، بل أحد أبرز مهندسي سياستها داخل البيت الأبيض، حيث تحوّلت الاستراتيجيات الأميركية في الشرق الأوسط تحت قيادته إلى أدواتٍ لضمان التفوّق الإسرائيلي، من دعم العمليات العسكرية وفرض العقوبات، إلى توجيه التحالفات الإقليمية بما يخدم مصالح تل أبيب أولًا، حتى لو جاء ذلك على حساب الاستقرار الإقليمي وحقوق الشعوب العربية والإسلامية.

إرث القوة والدم

برحيل ديك تشيني، يُطوى فصلٌ كامل من تاريخ الهيمنة الأميركية الحديثة. يغادرنا آخر وجوه جيل المحافظين الجدد الذين أعادوا رسم خريطة العالم بالنار، وكتبوا سياساتهم بالدم والنفط والدموع. غير أن رحيله لا يعني نهاية الحقبة التي صنعها، فـ"تشينيّة" السياسة الأميركية لم تمت بعد؛ ما زالت تتنفس في كل حربٍ تُخاض باسم الحرية، وفي كل دولةٍ عربية أُعيد تشكيلها تحت فوهة بندقيته، وفي كل نظامٍ فُرض عليه أن يختار بين الولاء أو الفوضى.

كان ديك تشيني تجسيدًا لمذهبٍ لا يرى في العالم سوى ساحةٍ للهيمنة. الرجل الذي قال ذات مرة: "علينا أن نعمل في الجانب المظلم... في الظلال"، مبررًا بذلك التعذيب والاعتقال خارج القانون. وهو نفسه الذي أصرّ على غزو العراق رغم تقارير الاستخبارات التي نفت وجود أسلحة دمار شامل، قائلاً ببرود: "نحن نعرف أنهم يمتلكونها. هذه حقيقة."

حتى داخل أمريكا، لم يَسلم من الانتقاد؛ وصفه السناتور باتريك ليهي بأنه "الرجل الذي جعل من الكذب أداةً للحكم"، فيما قال عنه السناتور روبرت بيرد إنه "أخطر من الحرب نفسها، لأنه يجعل الحرب قدرًا لا خيارًا". أما السيناتور جون ماكين، أسير الحرب السابق، فاتهمه بأنه "شوّه شرف أميركا عندما برّر التعذيب باسم الأمن".

ترك وراءه نموذجًا للرجل الذي جعل من المنصب ظلًّا للسلطة، ومن القوة عقيدة، ومن الحرب مذهبًا سياسيًا. مات ديك تشيني، لكن فكرته عن العالم ذلك العالم الذي يُقاد بالخوف ويُحكم بالنار ما زالت حيّة، تمشي على قدمين في كل قرارٍ تتخذه واشنطن، وفي كل "سلامٍ" يُفرض بالقوة.

أعلى