فـقـه الـفـرح بـرمـضـان
الحمد لله الرحيم الغفار، الكريم المنان، قابل توب التائبين، فاتح أبواب البر للعاملين، معطي السائلين ومجيب الداعين، نحمده على أحكام شرعها فأحكمها، وعلى مواسم للخير أعادها وكررها، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ جزيل الإحسان، كريم العطاء، واسع الرحمة، واهب المغفرة، يجزي على القليل كثيرا، ويغفر جرما عظيما، ويهب ما شاء لمن شاء، فلا تنفد خزائنه، ولا ممسك لعطائه، ولا حابس لرزقه، ولا معقب لحكمه، وهو الجواد الكريم، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ نبي الرحمة والملحة، الدال على الخير والبركة، الحاجز عن الإثم والموبقة، آخذ بحجز الناس عن النار وهم يأبون إلا تقحما فيها، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وجددوا توبتكم، فأقلعوا عن ذنوبكم، واندموا على تفريطكم، واصدقوا مع ربكم، وأخلصوا له أعمالكم؛ فإنكم عن قريب تستقبلون أعظم الشهور وأفضلها، لا تحصى منافعه، ولا تعد محاسنه، ولا يُدرك فضله وبره، ولا يحاط ببركته وخيره؛ فالأعمال فيه كثيرة، والحسنات فيه مضاعفة، فاستعدوا له بما يجب له، واقضوا أيامه ولياليه في أفضل الأعمال، وأروا الله تعالى من أنفسكم خيراً } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ { [البقرة: 183].
أيها الناس: يمر بالإنسان فترات فرح وفترات حزن، وأعظم الفرح ما كان لله تعالى وبه سبحانه، فالفرح بكتابه وذكره وفرائضه ومواسمه وفضله ورحمته ليس كالفرح بشيء من الدنيا مهما عظم وكثر وحسن؛ لأن الفرح بالله تعالى وبما يتصل به سبحانه فرح دائم لا ينقطع، وباق لا ينفد. وأما الفرح بالدنيا ومتاعها فهو فرح زائل لا محالة، وصاحبه مفارقه بالموت ولا بد، والدنيا بأجمعها تزول ولا تبقى.
إن أكثر الناس يفرحون بما له تعلق بالدنيا، ولا يفرحون بما يتعلق بالآخرة } وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ { [الرعد: 26] وهذا الفرح بالدنيا قد يكون سببا للعذاب كما أخبر الله تعالى عن قوم عذبوا بعد فرحهم فقال سبحانه } فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ { [الأنعام: 44].
وفي مقابل ذلك أمر الله تعالى بالفرح بدينه } قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ { [يونس: 58] والفرح بفضل الله تعالى ورحمته يشمل الفرح بكتابه وسنة نبيه وشعائر دينه، وأهل هذا الفرح في الدنيا يفرحون يوم القيامة بالجزاء كما أخبر الله تعالى عن الشهداء بقوله سبحانه } فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ { [آل عمران: 170].
والمؤمن يفرح بطاعة الله تعالى وأداء الفرائض والنوافل؛ لعلمه أنها سبب نجاته في الآخرة، وفوزه بالدرجات العلى في الجنة. ويفرح بمواسم الطاعة لما فيها من تنوع الطاعات، ومضاعفة الأجور، وإقبال القلوب على الله تعالى؛ ولهذا فرح النبي صلى الله عليه وسلم برمضان، وبشر أصحابه رضي الله عنهم به؛ فإنه حين ذكره ذكر ما فيه من ميزات كلها تتعلق بالنجاة من الإثم، والفوز بالطاعة، كما في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُبَشِّرُ أَصْحَابَهُ: "قَدْ جَاءَكُمْ رَمَضَانُ، شَهْرٌ مُبَارَكٌ، افْتَرَضَ اللهُ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ، تُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، وَتُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَحِيمِ، وَتُغَلُّ فِيهِ الشَّيَاطِينُ، فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا فَقَدْ حُرِمَ" رواه أحمد.
فبشَّر صلى الله عليه وسلم ببركة رمضان، والبركة هي النماء والزيادة، مما يدل على أن الطاعات تزداد في رمضان، كما يزداد فيه اكتساب الحسنات، ومضاعفتها إلى أضعاف لا يعلمها إلا الله تعالى؛ بمقتضى قوله سبحانه في الحديث القدسي "الصَّوْمُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَأَكْلَهُ وَشُرْبَهُ مِنْ أَجْلِي" رواه الشيخان. فمن لا يفرح بفريضة اختصها الكريم سبحانه بالجزاء، فلا يتناهى جزاؤه سبحانه؛ لسعة خزائنه، وعظيم ملكه، وجزيل كرمه وعطائه عز وجل. فهو جزاء لا يحصيه عد، ولا يحده حد، ولا يخطر على قلب بشر؛ لأن الصوم صبر، وقد قال سبحانه } إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ { [الزمر: 10].
وذكر صلى الله عليه وسلم وهو يبشر برمضان: فريضة الصيام؛ وهذا يقتضي الفرح بها؛ لأن الله تعالى يحب فرائضه، كما قال سبحانه في الحديث القدسي "وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ" رواه البخاري. والمؤمن يحب الله تعالى فيحب ما يحبه سبحانه.
وذكر صلى الله عليه وسلم وهو يبشر برمضان: فَتْحَ أبواب الجنة فيه، وَغَلْقَ أبواب النار، وهذا يدل على رضا الرحمن سبحانه على عباده، ومن لا يفرح برضا الرحمن سبحانه وتعالى عن عباده؟!
وذكر صلى الله عليه وسلم وهو يبشر برمضان: سلسلت الشياطين، والشياطين تغوي بني آدم عن الطاعات، وتزين لهم المحرمات، فلا تقدر الشياطين في رمضان على ما كانت تقدر عليه من إغواء المؤمنين المعظمين لرمضان، المراعين حرمته وفضله؛ ولذا تكثر توبة العصاة في رمضان، والتوبة سبب لفرح الرحمن سبحانه، ومن لا يفرح بشيء يكون سببا في فرح الرحمن سبحانه وتعالى، قَالَ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ أَحَدِكُمْ، مِنْ أَحَدِكُمْ بِضَالَّتِهِ، إِذَا وَجَدَهَا" رواه الشيخان.
وذكر صلى الله عليه وسلم وهو يبشر برمضان: ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، وهي سبب لمضاعفة الأجور أضعافا كثيرة، وسبب لطول أعمار هذه الأمة في الطاعات، ولو قصرت في السنوات، وهذا موجب للفرح العظيم، فمن لا يفرح بموسم فيه ليلة من قامها فقبل منه فهو خير ممن قام أكثر من ثمانين سنة؟! ولا يعقل قيمة الفرح بليلة القدر إلا من عرف فضلها وعظمتها، ولا يدرك أهمية الفرح بكونها محصورة في رمضان وفي عشره الأخيرة إلا من يعي فضل قيام الليل، ومنزلته عند الله تعالى، ولو حمد المؤمنون ربهم الدهر كله على نعمة ليلة القدر، وكونها محصورة في عشر رمضان لما أدوا شكر الله تعالى عليهم بها.
وفرح النبي صلى الله عليه وسلم برمضان هو فرح برحمة الله تعالى وعفوه ومغفرته وفضله وإحسانه لعباده، فكان لزاما على كل مؤمن أن يفرح برمضان كما فرح به النبي صلى الله عليه وسلم، وأن يكون باعث فرحه به ما يشرع فيه من فريضة الصيام، وفضيلة القيام، وقراءة القرآن، وتنوع البذل والإحسان، الموجب لرحمة الله تعالى بعباده، وعظيم جزائه لهم على أعمالهم.
ومن فرح المؤمن برمضان ما أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله "وَلِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا: إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ بِفِطْرِهِ، وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ".
ففرحته المعجلة بفطره حين يفطر بعد أن أدى فريضته، ولأداء الفرائض لذة يعرفها أهلها، ويفرح بها أصحابها.
إنه يفرح برخصة الله تعالى له، والفرح برخصته سبحانه كالفرح بفريضته؛ لأن الله تعالى يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه، وهنا تتمحض العبودية الحقة لله تعالى حين يفرح المؤمن بالمنع من شيء؛ تعبدا لله تعالى، ثم يفرح بالرخصة بعد المنع تعبدا لله تعالى أيضا؛ ليكون المؤمن في كل أحواله في عبودية له سبحانه، ويلتزم بمقتضيات هذه العبودية. وأما فرحة عند لقاء ربه تعالى ففيما يجد عنده سبحانه من ثواب مدخر له، وهو أحوج ما يكون إليه كما قال تعالى: } يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً { [آل عمران: 30] وقال تعالى: }وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً { [المزمل:20].
نسأل الله تعالى أن يبلغنا رمضان، وأن يرزقنا فيه حسن الصيام والقيام، وأن يمن علينا فيه بالقبول والثواب، إنه سميع مجيب.
وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم...
الخطبة الثانية
الحمد لله حمداً طيباً كثيراً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وأحسنوا استقبال الشهر الكريم بالتوبة النصوح من جميع الذنوب } وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ { [النور: 31].
أيها المسلمون:
أهل الإيمان يفقهون الفرح برمضان، ويعلمون لماذا هم برمضان فرحون؛ لأنهم ينظرون إلى عاقبة العمل في رمضان، وما رتب عليه من عظيم الجزاء.
وأما أهل اللهو والغفلة ففرحهم برمضان إما أن يكون فرحا بمعصية الله تعالى من نوم النهار عن الفرائض، وسهر الليل في مجالس الباطل، ففرحهم به ليس من الفرح بالله تعالى ولا بشريعته في شيء، وعاقبته خسارة في الدنيا بضياع الأزمنة الفاضلة، وحسرة في الآخرة بالأوزار التي اكتسبوها في رمضان.
ومن الناس من فرحه برمضان لا يعدو أن يكون فرحا بالطعام والشراب، وتنوع الموائد في الليل، فهو فرح بما تفرح به بهائم الأنعام، ولا يليق بمؤمن أن يسفل بنفسه إلى هذا الدرك، كما لا يليق به أن يعامل رمضان هذه المعاملة.
وأما أهل الفسق والفجور، وأرباب الشقاق والنفاق فإنهم يفرحون برمضان بما يبثونه في فضائياتهم من مسلسلات ماجنة ساخرة، يغتالون بها فرحة المؤمنين برمضان، وبما شرعه الله تعالى فيه من أنواع العبادات بسخريتهم من دين الله تعالى وأحكام شريعته، ودعوة الناس إلى تركها والتمرد عليها، وهؤلاء هم لصوص رمضان، يسرقون من مشاهدي قنواتهم ما اكتسبوه من حسنات، بما يعرضونه عليهم من أنواع الموبقات. فحري بأهل الصيام والقيام أن يجتنبوا فضائياتهم، وأن يعتزلوا مجالسهم، ويلزموا في رمضان مصاحفهم ومساجدهم؛ لحفظ صيامهم، وتكثير ثوابهم، وقد امتدح الله تعالى عباد الرحمن بأنهم } لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا { [الفرقان: 72] وقَالَ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالعَمَلَ بِهِ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ" رواه البخاري.
وصلوا وسلموا على نبيكم...